رسائل التصعيد:

تأثيرات الهجوم على مُجمّع الصناعات الجويّة في تركيا

25 October 2024


شهدت العاصمة التركية أنقرة، في 23 أكتوبر 2024، هجوماً إرهابياً، نفّذه 3 مسلحين؛ واستهدف مُنشآت شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية "توساش" في منطقة كهرمان كازان، وأسفر عن مقتل 5 أشخاص وإصابة 22 آخرين، من العاملين بالشركة. 

ولم تعلن -حتى الآن- أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم، بيد أن وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا، قد وجّه التُّهم لحزب العمّال الكردستاني؛ الذي تصنفه أنقرة بأنه منظمة إرهابية، بأنه المسؤول عن الحادث، وقد لاقى الهجوم الإرهابي زخماً واسعاً على مستوى العالم، ولاسيما مع وجود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خارج البلاد؛ للمشاركة في قمة مجموعة "بريكس" 2024، أثناء الهجوم؛ الأمر الذي طرح تساؤلات عدة حول الأهداف المُحتملة والتداعيات المتوقعة لذلك الهجوم الإرهابي. 

أبعاد مُتشابكة: 

تزامن الهجوم الإرهابي على شركة "توساش" في أنقرة، مع العديد من الأبعاد المُتشابكة؛ والتي أبرزها ما يلي:

1. غموض حول المُتورط في الهجوم: لم يعلن حزب "مساواة وديمقراطية الشعوب" المُؤيد للأكراد في تركيا، مسؤوليته عن الهجوم، بل أدانه أيضاً، نافياً صلته به، رغم ذلك تعتبر أنقرة حزب العمّال الكردستاني، والذي تصنفه إرهابياً، هو المُشتبه به الأبرز داخلياً، فقد أشار وزير الداخلية التركي لذلك منذ الساعات الأولى للهجوم، كما سبقت الإشارة، ولاسيما وأن "العمال الكردستاني" قد أعلن مسؤوليته عن أعمال مماثلة في تركيا في الماضي، كان آخرها هجوم انتحاري على مبنى حكومي في أنقرة، منذ نحو عام. كما لا يُستبعد أيضاً احتمال تنفيذ الهجوم بواسطة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" الإرهابي؛ والذي نفّذ أيضاً تفجيرات في تركيا سابقاً، كان آخرها، في يناير 2024، عندما أطلق مسلحان النار داخل كنيسة كاثوليكية في إسطنبول.

2. أكبر مُجمّع للصناعات الدفاعية: تُعد شركة "توساش"، التي استهدفها الهجوم، شركة ضخمة مُتعددة النشاط؛ إذ يعتقد البعض بأنها العمود الفقري لسائر الصناعات الدفاعية التركية؛ إذ تحتل الشركة حالياً مكانة دولية مرموقة؛ ضمن أكبر 100 شركة لصناعات الأسلحة في العالم، كما استحوذت الشركة على زخم إعلامي واسع في فبراير 2024، بعد نجاح أول رحلة تجريبية لمُقاتلتها "قآن" محلية الصنع، كما تشرف الشركة على العديد من المشروعات الدفاعية الاستراتيجية بينها مروحية "تي 129 أتاك" الهجومية ومُسيّرتي "العنقاء" و"آق سونغور"، كل ذلك بجانب، تصنيعها لكل من (الهياكل الجوية، وأنظمة المركبات الجوية غير المأهولة "UAV"، وأنظمة الفضاء). 

3. رفع ميزانية دراسات الفضاء: تزامن الهجوم مع قرار تركيا بزيادة الميزانية المُخصّصة للفضاء والطيران بما يفوق مليار ليرة في عام 2025؛ الأمر الذي يُشير إلى عزم تركيا على تحقيق أهداف برنامجها الفضائي؛ إذ من المقرر إجراء أول وصول إلى القمر، في عام 2026، وفي عام 2027، من المتوقع أن تصل الميزانية المخصصة لمشروعات الفضاء في تركيا إلى 7 مليارات ليرة تركية؛ مما قد يسهم في إفساح المجال أمام تركيا للاستحواذ على مكانة مرموقة في اقتصاد الفضاء العالمي الذي تبلغ قيمته تريليون دولار.

4. خطة تفاهم بين الحكومة والأكراد: تزامن الهجوم أيضاً مع خطة سلام مع الأكراد؛ يتبناها أردوغان؛ الذي أكّد خلال أكتوبر 2024 أن حكومته ستتبنى "التخفيف السياسي" في علاقتها بحزب الأكراد في تركيا، مشيراً إلى أنه يدرس إجراء محادثات سلام مع الأكراد. وقبل الحادث بيوم واحد؛ اقترح دولت بهجلي، الحليف الرئيسي لأردوغان وزعيم حزب الحركة القومية، إعادة النظر في "شروط الحكم بالسجن مدى الحياة دون الإفراج" على زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، حال موافقته على حل جماعته المسلحة المحظورة، بحسب القانون التركي. فيما وُصفت تلك الخطوة بـ"المُبادرة الاستثنائية". 

5. شكوك في قوى خارجية: لم يستبعد المحللون وجود قوى خارجية وراء الهجوم، ولاسيما مع التوتر المُتأزم بين أنقرة وتل أبيب، على خلفية تصعيد الأخيرة الحرب على غزة ولبنان، فضلاً عن التوتر غير المُعلن بين أنقرة والغرب؛ بسبب السعي التركي لعضوية مجموعة "بريكس" وعضوية منظمة "شنغهاي" للتعاون، بالإضافة إلى جمود مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي ومماطلة واشنطن في إتمام صفقة (مقاتلات إف-16). ولا يمكن الجزم بأي من تلك التكهنات، كما لم يُشر إليها أي مسؤول في تركيا حتى الآن. 

أهداف مُشتركة: 

على الرغم من الغموض الذي يُحيط بالمسؤولين عن الهجوم؛ والذين تختلف أهدافهم باختلاف انتماءاتهم؛ فإن هناك عدّة أهداف تبدو مشتركة بين المشتبه بهم داخلياً وخارجياً، وتتمثل أبرزها فيما يلي:

1. مُحاولة إضعاف التصنيع الدفاعي: قد يكون الهجوم مُوجّهاً لإضعاف الصناعات الدفاعية التركية، والتي شكلت إيراداتها في 2023، بما في ذلك الطائرات المُسيّرة، نحو 80% من صادرات تركيا؛ أي نحو 10.2 مليار دولار، ولاسيما وأن الهجوم استهدف أكبر شركات تصنيع الطائرات في تركيا؛ والمملوكة للقوات المسلحة التركية والحكومة، والتي تعمل على مشروعات دفاعية واعدة، خصوصاً وأن أردوغان قد أعلن عن ذلك صراحة من داخل موسكو، أثناء مشاركته في اجتماعات "بريكس" 2024، قائلاً إن الهجوم "يستهدف المبادرات الدفاعية للبلاد التي قد تسهم في استقلال تركيا تماماً في مجال الصناعات الدفاعية".

2. التشويش على معرض الصناعات الدفاعية: من المُحتمل أن يكون الهجوم موجهاً أيضاً؛ لتشويه الصورة الدولية للصناعات الدفاعية لتركيا؛ إذ تزامن الهجوم مع استضافة إسطنبول لمعرض SAHA EXPO للصناعات الدفاعية، الذي يُعد من أهم الأحداث الدولية في هذا المجال، والذي تشارك به 1478 شركة صناعات دفاعية من أكثر من 120 دولة، ولاسيما وأن عدد العارضين في المعرض، الذي يقام كل عامين، زاد بنسبة 112% مقارنة بنسخته السابقة في 2022، ومن المقدر أن تركيا وقعت عقوداً دفاعية بقيمة 6.2 مليار دولار خلال حفل الافتتاح. 

وجدير بالذكر، أن الهجوم تزامن مع رغبة سعودية في شراء 100 مقاتلة تركية من الجيل الخامس طراز "قآن"؛ الأمر الذي من شأنه نقل التعاون الدفاعي بين البلدين لمرحلة جديدة، وذلك بعد أيام من زيارة وفد سعودي برئاسة قائد القوات الجوية الفريق الركن تركي بن بندر بن عبدالعزيز، هيئة الصناعات الدفاعية في تركيا، وقيامه بجولة داخل أبرز شركات الصناعات الدفاعية التركية، ومن بينها شركة "توساش"؛ ما يُعني أن هدف المهاجمين بالأساس هو الإضرار بسمعة تركيا في مجال الصناعات الدفاعية. 

3. الضغط على أنقرة في ملفات أخرى: من المُحتمل أن يكون الهجوم بهدف الضغط على أنقرة في ملفات عديدة، أبرزها علاقاتها مع الغرب أو إسرائيل أو الوجود في سوريا والعراق أو غير ذلك من الملفات؛ إذ يرى البعض أن هذا الهجوم ما هو إلا هجوم هدفه التشويش والإزعاج وإيصال رسائل الضغط؛ وذلك في ضوء تأثيره المحدود، خاصة حال قراءته في سياق منفرد وليس ضمن حملة تصعيد إرهابي جديدة.

تداعيات مُحتملة: 

قد يتمخض عن الهجوم الإرهابي الأخير في تركيا العديد من التداعيات المهمة، والتي يمكن تناول أبرزها فيما يلي:

1. تقويض فرص التفاهم بين أنقرة والأكراد: من المرجح أن يؤدي الهجوم إلى تراجع فرص السلام التي كان يتبناها أردوغان مع الأكراد، إذ يعتبر البعض أن الهجوم يُعد رسالة لرفض الحزب المؤيد للأكراد لخطة التفاهم مع أنقرة، رغم تنصل الحزب منه وإدانته له. ومن جهة أخرى؛ فقد تلجأ السلطات التركية إلى شنّ حملة مُلاحقات واسعة ضد عناصر "العمال الكردستاني"، بدأت بالفعل بعد ساعات من الهجوم؛ إذ ضربت القوات الجوية التركية 30 هدفاً على الأقل لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق وسوريا، في رد واضح على الهجوم على شركة "توساش".

2. احتمال تراجع الصناعات الدفاعية التركية: على الرغم من إعلان وزير الصناعة التركي محمد فاتح كاجر، أن بلاده لن تتراجع عن تعزيز الصناعات الدفاعية، في إشارة منه لعدم تأثير الهجوم في مستقبل الصناعات الدفاعية التركية، فإن ذلك غير منطقي، فعلى الأرجح ستتأثر تلك الصناعات بذلك الهجوم الإرهابي، وقد تشهد تراجعاً خلال الأشهر المقبلة، ولاسيما وأن أنقرة ستكون مشغولة بالرد على الإرهاب الذي سيأتي لا محالة على حساب تطوير الصناعات الدفاعية التركية، على الرغم من تحقيقها رقماً قياسياً خلال عام 2024، فقد بلغت إيرادات صادرات الصناعات الدفاعية خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام 2024، نحو 3.7 مليار دولار، بزيادة 9.8% مقارنة بالفترة ذاتها من العام 2023.

3. فرض إجراءات استثنائية: من المُرجّح أن يُسفر الهجوم عن تقييد واسع للحريات في تركيا، قد يصل لفرض الطوارئ؛ إذ تم تقييد الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي في تركيا بعد الهجوم، ووفقاً لموقع NetBlocks، وهو موقع يتتبع عمليات حظر الإنترنت، تم تقييد منصات بما في ذلك (إكس، وإنستغرام، وفيسبوك، ويوتيوب، وتطبيق الرسائل تليغرام)، في تركيا، والتي وصفها يامان أكدينيز، المؤسس المشارك لجمعية حرية التعبير التركية، بأنها انتهاك واضح لحقوق الاتصال لملايين الأشخاص في تركيا، ومؤشر لتقييد الحريات، كما فرضت السلطات حظراً على البث لمنع وسائل الإعلام الإخبارية من نشر صور حساسة للهجوم.

4. دعم دولي لتركيا ضد الإرهاب: قد يسفر الهجوم عن دعم دولي واسع لتركيا ضد الإرهاب، فقد توالت ردود فعل دولية وإدانات واسعة من رؤساء دول ومنظمات دولية، وجاءت بعض تلك الإدانات من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيما أعرب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو" مارك روته، عن دعمه لتركيا، مؤكداً أن الحلف سيقف مع تركيا ضد الإرهاب بجميع أشكاله، بالإضافة لإدانات واسعة من قوى وأطراف إقليمية ودولية. 

وفي التقدير، في ضوء معطيات الموقف الراهن في تركيا عقب الهجوم الإرهاب الأخير على شركة "توساش"، وعلى الرغم من التداعيات السلبية التي تبدو من القراءة الأولية للمشهد بأنها كبيرة وضخمة؛ فإن الهجوم قد يكون محدوداً في أثره وتداعياته، خاصة حال استغلال أردوغان لذلك الهجوم في تحقيق مكاسب عدّة، أبرزها جمع دعم دولي لبلاده، فضلاً عن تشتيت انتباه الغرب عن مساعيه للانضمام لمجموعة "بريكس"، ومشاركته في اجتماعها الأخير؛ لذلك من المحتمل أن يعكف فريق مُتخصص من مُساعدي أردوغان على دراسة فرص تحقيق مكاسب من رحم تلك الأزمة التي تمخضت من الهجوم الإرهابي.