اضطرابات كاشفة:

كيف تطورت أدوات اليمين المتطرف البريطاني؟

15 August 2024


تشهد عدة مدن وبلدات بريطانية، منذ 30 يوليو 2024، موجة من العنف اليميني المتطرف وصفت بأنها الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك في أعقاب مقتل ثلاث فتيات في هجوم بسكين استهدف حفلاً للأطفال في مدينة ساوثبورت، شمال غربي بريطانيا؛ إذ انطوت على جملة من الممارسات الإجرامية والتحريضية، أظهرت نوعاً من التزامن والتنسيق، ومناهضة الهجرة والأقليات بشكل عام في بريطانيا؛ مما يعكس قدرة اليمين المتطرف البريطاني على توظيف أدواته التقليدية بل وتطويرها وفقاً للسياق والإمكانات المتاحة.  

أدوات تقليدية:

يقتضي النظر في تورط اليمين المتطرف بشكل مباشر في الاضطرابات الحالية؛ ضرورة الوقوف على بعض الأدوات التقليدية التي لطالما عُرف عنه توظيفها من أجل تحقيق أهدافه في الانتشار والوصول؛ وهي أدوات عكست استراتيجية التيار وفقاً للتحولات السياسية، والمجتمعية، وكذلك التكنولوجية؛ ويمكن توضيح تلك الأدوات على النحو التالي:

1. الاحتجاجات والمظاهرات العامة: اعتمد اليمين المتطرف في بريطانيا على التجمعات والمظاهرات العامة كتكتيك أساسي منذ النصف الثاني من القرن الماضي؛ إذ نظمت جماعات مثل: "الجبهة الوطنية" في سبعينيات القرن العشرين و"الحزب الوطني البريطاني" في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين مسيرات واحتجاجات بشكل متكرر في المدن والبلدات في جميع أنحاء المملكة المتحدة، واستمرت "رابطة الدفاع الإنجليزية"، التي أنشأت في عام 2009، في هذا التقليد من خلال تنظيم احتجاجات مناهضة للإسلام في المدن ذات الكثافة السكانية المسلمة، وغالباً ما تضمنت هذه التجمعات متحدثين ألقوا خطباً تحريضية، وأدانوا الهجرة والتعددية الثقافية والتهديدات المزعومة لـ"القيم البريطانية"، كما كان المشاركون يحملون لافتات تحمل شعارات مثل: "بريطانيا أولاً" أو "أوقفوا أسلمة بريطانيا"، وهي تجمعات أدت في كثير من الأحيان إلى اشتباكات مع الجماعات المناهضة للفاشية والشرطة.

2. الدعاية واستراتيجيات التجنيد: كانت الدعاية دائماً حجر الزاوية في نشاط اليمين المتطرف في بريطانيا، فتاريخياً، استخدمت الجماعات اليمينية المتطرفة أساليب مختلفة لنشر دعايتها، مثل: حملات توزيع المنشورات، ووضع الملصقات في الأماكن العامة، واستخدام البريد لإرسال النشرات الإخبارية إلى الفئات المؤيدة، وغالباً ما تحتوي هذه المواد على ادعاءات مبالغ فيها أو كاذبة تهدف إلى إثارة السخط والاستياء تجاه الأقليات. وتجدر الإشارة إلى أن تلك الدعاية فعّالة في نشر أفكار اليمين المتطرف على مستوى القاعدة الشعبية، وخاصة في المناطق التي تعاني من صعوبات اقتصادية أو تغييرات ديمغرافية، ولاسيما أنها قائمة على سردية تلقي باللوم في المشكلات المجتمعية والاقتصادية على "الغرباء"، وتشجع الاعتقاد أن العودة إلى القيم البريطانية التقليدية هي الطريق الأنسب لحل هذه القضايا.

3. أعمال العنف والترهيب: لجأت الجماعات اليمينية المتطرفة البريطانية إلى أعمال العنف والترهيب كجزء من تكتيكاتها؛ بهدف نشر الخوف بين الأقليات، وإظهار استعدادها للتصرف بأية وسيلة كانت وفقاً لمعتقداتها، وتراوحت في الأغلب أعمال العنف من الاعتداء على الأفراد الذين يُنظر إليهم على أنهم "أعداء"، مثل: المهاجرين أو المعارضين السياسيين، إلى تخريب الممتلكات المرتبطة بالأقليات، مثل: دور العبادة أو بعض أماكن الإيواء. وفي بعض الحالات، تورط اليمين المتطرف في هجمات أكثر تنظيماً وفتكاً، مثل تفجيرات لندن عام 1999 التي نفذها ديفيد كوبلاند، وهو من النازيين الجدد الذين استهدفوا المجتمعات السوداء والآسيوية.

4. المشاركة السياسية: إلى جانب النشاط الميداني لليمين المتطرف، سعت بعض الجماعات اليمينية المتطرفة إلى اكتساب نوع من السلطة أو القوة السياسية من خلال وسائل مشروعة، وشمل ذلك؛ إما تشكيل أحزاب سياسية أو الانخراط داخل بعض الأحزاب الأخرى؛ إذ حاول الحزب الوطني البريطاني، تحت قيادة شخصيات مثل: جون تيندال ونيك جريفين، اكتساب الشرعية السياسية من خلال الترشح في الانتخابات المحلية والوطنية عبر التركيز على قضايا مثل: الهجرة، والجريمة، والاتحاد الأوروبي، بينما في بعض الحالات ينخرط نشطاء اليمين المتطرف داخل أحزاب سياسية أخرى، مثل حزب المحافظين على سبيل المثال؛ من أجل محاولة توجيه سياساتها نحو مواقف أكثر قومية ومعادية للهجرة، وحققت الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة نجاحاً انتخابياً محدوداً في بريطانيا، فقد فازت في بعض الأحيان بمقاعد في المجالس المحلية والبرلمان الأوروبي، وقد أجبر وجودها على الساحة السياسية -على الرغم من أنه هامشي- أحزاباً أخرى، على معالجة قضايا مثل الهجرة بشكل أكثر فاعلية.

5. الصحافة البديلة: اعتاد اليمين المتطرف في بريطانيا على استخدام وسائل الإعلام الخاصة به لموازنة وسائل الإعلام السائدة، والتي غالباً ما تصوره بشكل سلبي، بما في ذلك المجلات، والصحف، والمدونات، كما وفرت بعض المنشورات مثل "صوت الحرية" الصادرة عن الحزب الوطني البريطاني، لنشطاء اليمين المتطرف، منصة للتعبير عن آرائهم حول موضوعات مثل: العرق، والهجرة، والهوية الوطنية، وغالباً ما كانت تُباع مثل تلك المنشورات في التجمعات، أو عبر البريد، أو في متاجر محددة مؤيدة لقضايا وممارسات اليمين المتطرف. وقد وفرت هذه المنافذ الإعلامية لليمين المتطرف مساحة لتطوير وتعزيز أيديولوجيته؛ إذ أدت هذه المنشورات دوراً حاسماً في دعم الحركات اليمينية المتطرفة، ولاسيما قبل ظهور الإنترنت.

تعامل قديم جديد:

تشير بعض التقديرات والأدبيات المعنية بمتابعة نشاط وتحركات اليمين المتطرف البريطاني خلال السنوات القليلة الماضية، إلى أنه أصبح يتبع طرقاً جديدة للانخراط والتحرك خارج حدود الهياكل التنظيمية التقليدية والتسلسلات الهرمية الرسمية؛ بحيث أصبحت تتضمن أشكالاً وأدوات تضع أعمال الشغب، وكذا كيفية تدفق المعلومات ووصولها ضمن أبرز أولوياتها؛ وبتطبيق ذلك على مجريات الأحداث في بريطانيا خلال الأيام الماضية، يمكن الإشارة إلى طريقة توظيف اليمين المتطرف لحادثة الطعن المأساوية في مدينة ساوثبورت على النحو التالي:

1. استغلال وسائل التواصل الاجتماعي: استخدم اليمين المتطرف البريطاني منصات التواصل الاجتماعي بفعالية لنشر معلومات مضللة ومحتوى تحريضي يتعلق بأعمال الشغب الحالية؛ وذلك من خلال تحريف الحقائق وتأطير أعمال الشغب كدليل على حالة الانهيار المجتمعي الناتجة عن الهجرة والتعددية الثقافية؛ إذ عمل على تضخيم المخاوف والقلق بين الجمهور البريطاني عن طريق الترويج بأن منفذ هجوم الفتيات الثلاث هو طالب لجوء مسلم يدعى علي الشكاتي، وأنه وصل إلى المملكة المتحدة على متن قارب عبر القناة الإنجليزية، مما ساعد الجماعات اليمينية المتطرفة على تجنيد مؤيدين جدد انجذبوا إلى تلك الرواية المغلوطة، والتي تم تداولها على نطاق واسع وسريع بين العديد من الحسابات -منها الحقيقي والمزيف- ساعد على ذلك أيضاً قيام بعض شخصيات اليمين المتطرف المعروفة مثل تومي روبنسون، بنشر معلومات مضللة، والتحريض على توسيع رقعة الاشتباك الميداني لأنصار اليمين المتطرف.

2. وضع أنفسهم كمدافعين عن الهوية الوطنية: صورت الجماعات اليمينية المتطرفة، أعمال الشغب، على أنها نتيجة لسياسات الهجرة غير الناجحة وتزايد التعددية الثقافية، والتي يزعمون أنها أدت إلى تآكل نسيج المجتمع البريطاني؛ وهو ما يمكن فهمه في ضوء محاولات تقديم اليمين المتطرف في موقع حامي القيم البريطانية التقليدية، وباعتباره القوة السياسية الوحيدة الراغبة في اتخاذ موقف ضد تهديدات الهجرة التي تصورها. 

3. التنظيم والتعبئة من خلال القنوات المشفرة: لجأت الجماعات اليمينية المتطرفة، في خضم تصاعد أعمال العنف، إلى تطبيقات المراسلة المشفرة مثل: "تليغرام"، و"واتساب" لتنظيم وتنسيق أنشطتها؛ إذ توفر تلك المنصات بيئة أكثر أماناً للتخطيط والتواصل؛ مما يسمح لها بالالتفاف والتحايل على القيود والجهود الأمنية لتتبع حسابات اليمين المتطرف عبر وسائل التواصل، ومن خلال تلك القنوات، تمكنت جماعات اليمين المتطرف من حشد المؤيدين وتوجيههم إلى مواقع محددة للمشاركة في الاحتجاجات أو أعمال العنف؛ مما أعطى هذه الجماعات ميزة تكتيكية خلال أعمال الشغب. 

4. استغلال حالة الخوف والإحباط العام: استغل عناصر اليمين المتطرف خوف وإحباط المواطنين في المجتمعات التي تأثرت بشكل مباشر بأعمال الشغب؛ فمن خلال تسليط الضوء على حالات العنف والفوضى، سعوا إلى خلق شعور بالأزمة ومدى تعقيدها، والتي يزعمون -من خلال فحص رسائلهم على وسائل التواصل الاجتماعي- أنهم وحدهم القادرون على معالجتها، وقد ساعد هذا الاستغلال للخوف على حشد الدعم بين أولئك الذين يشعرون بأن الحكومة البريطانية لا تبذل ما يكفي لحماية المجتمع البريطاني، وقد أسهمت قدرة اليمين المتطرف على تضخيم تلك المشاعر وتأجيجها في زيادة الشعور بالانقسام والاستقطاب داخل المجتمع؛ مما يسهل الترويج لأجندته المتطرفة.

مخاطر محتملة:

تُبرِز أعمال العنف الراهنة، وما كشفت عنه من أدوات لليمين المتطرف البريطاني، بعض المخاطر التي قد ترتبط بشكل وآليات تحرك اليمين المتطرف خلال الفترة المقبلة، لعل من أبرزها ما يلي:  

1. زيادة التنسيق: من المرجح أن تستمر الجماعات اليمينية المتطرفة في تطوير أساليب أكثر تعقيداً لتنظيم وتنفيذ أنشطتها، بما يشمل تعزيز التنسيق من خلال الاتصالات المشفرة، واستمرار استغلال وسائل التواصل الاجتماعي، والتعاون مع شبكات اليمين المتطرف الإقليمية؛ وهو ما سيجعل من تحركات اليمين المتطرف البريطاني أكثر فعالية؛ ومن ثم يصعب توقع أنشطته ومواجهتها.

2. تطبيع الخطاب المتطرف: يحتمل أن يصبح خطاب اليمين المتطرف أكثر تطبيعاً في الخطاب السائد، حال اكتسبت الجماعات اليمينية المتطرفة الرؤية والتأثير؛ إذ يرتبط ذلك بقدرة تلك الجماعات على توظيف وسائل التواصل الاجتماعي واستغلال المظالم السياسية والاجتماعية من أجل التأثير في الرأي العام، وخلق حالة من الاستقطاب المجتمعي يتم فيها قبول أو دمج أيديولوجيات اليمين المتطرف بشكل كبير، ولاسيما أن اليمين المتطرف استغل بالفعل الاضطرابات الحالية لتأطير نفسه كمدافع عن "الهوية البريطانية" أو كرد فعل على تقاعس الحكومة عن قضايا مثل الهجرة. 

3. زيادة استخدام المعلومات والدعاية المضللة: يرجح أيضاً أن تستمر الجماعات اليمينية المتطرفة في استخدام المعلومات المضللة والدعاية للتلاعب بالإدراك العام وإثارة مشاعر السخط العام، وقد يتضمن ذلك نشر روايات كاذبة، أو أخبار مزيفة، أو نظريات مؤامرة لتضخيم رسالتها وتعبئة وحشد أكبر عدد ممكن من المؤيدين؛ مما قد يؤدي إلى تقويض الثقة في المؤسسات الديمقراطية البريطانية، وتأجيج المزيد من الانقسام داخل المجتمع، وجعل معالجة الأسباب الجذرية للتطرف أكثر صعوبة.

4. تعزيز جاذبية اليمين المتطرف الانتخابية: من غير المستبعد أن تحاول جماعات اليمين المتطرف البريطاني، البناء على الأحداث الراهنة من أجل تعبئة شريحة من الناخبين البريطانيين تشعر بالحرمان أو الإهمال من قبل الأحزاب السياسية البريطانية؛ ومن ثم يكتسب اليمين المتطرف قاعدة جماهيرية في المناطق والمدن المناهضة للسياسات الرهانة فيما يتعلق بمعالجة بعض القضايا الاقتصادية والاجتماعية؛ مما قد يعزز من فرصه في الانتخابات العامة المقبلة.  

وفي التقدير، يكشف النظر في أعمال العنف الحالية في بريطانيا عن تحول تكتيكات اليمين المتطرف البريطاني حتى أصبحت أكثر تنظيماً وتأثيراً، وعلى الرغم من إن نظام التصويت في بريطانيا الذي يعتمد على الفوز للأكثر أصواتاً أو ما يعرف بـ"First-past-the-post voting" يجعل من الصعب على العديد من الأحزاب الصغيرة تحقيق نتائج إيجابية في الانتخابات والاكتفاء فقط  بتكوين قواعد شعبية داعمة لفكر التيار وممارساته؛ فإن الاضطرابات الأخيرة قد تشير إلى تشكل استراتيجية لتيار اليمين المتطرف البريطاني تقوم على التحرك بشكل محسوب ومتسق خلال السنوات القليلة المقبلة -كما تحركت العديد من الأحزاب اليمينية الأوروبية- بحيث أنه بحلول الانتخابات العامة القادمة؛ أي بعد نحو خمس سنوات، تكون الأحزاب اليمينية البريطانية قد رسخت لدى الناخب البريطاني، عبر توظيف أدواتها على وسائل التواصل الاجتماعي أو من خلال الاحتجاجات، نموذجاً يركز بشكل صريح على الهجرة والتعددية الثقافية باعتبارهما تهديداً للهوية الثقافية البريطانية، وهي سردية من غير المستبعد أن تلقى قبولاً لدى قطاعات واسعة من البريطانيين حال تصاعدت الأزمات الداخلية المرتبطة بملف الهجرة غير النظامية.

وفي ذات السياق، يرجح أن تتحرك الحكومة البريطانية بقيادة كير ستارمر، نحو تقويض جاذبية اليمين المتطرف والحد من قدرته على التنظيم والحشد والانتشار داخل الأوساط المجتمعية البريطانية، وذلك إما من خلال المعالجة الفعّالة للقضايا التي تدفع إلى دعمه وعلى رأسها الهجرة، أو من خلال شن حملات أمنية واجتماعية صارمة ومكثفة ضد أنشطة اليمين المتطرف.