فوز ديبي بانتخابات الرئاسة.. أي مستقبل ينتظر تشاد؟

15 May 2024


تُعد الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في تشاد يوم 6 مايو 2024، نقطة تحول حاسمة في طريق العودة إلى النظام الدستوري. فقد تولى الرئيس محمد إدريس ديبي (المعروف أيضاً باسم محمد كاكا) الرئاسة عام 2021 بعد وفاة والده، إدريس ديبي إتنو، الذي قُتل في ساحة القتال ضد جبهة التغيير والوفاق (فاكت)، إحدى أكبر الجماعات السياسية المسلحة المتمركزة على الحدود مع ليبيا. وقد تم تجنب النص الدستوري الذي يسمح لرئيس البرلمان بالإشراف على العملية الانتقالية، لصالح إنشاء مجلس عسكري انتقالي برئاسة نجل ديبي.

وبعد نقاش مطول ووسط قلق بالغ بشأن نقل السلطة الذي حدث في تشاد، امتنع مجلس السلم والأمن عن تصنيف هذه الخطوة على أنها غير دستورية؛ مما مكّن تشاد من تجنب تعليق عضويتها في الاتحاد الإفريقي. وبعد بضعة أشهر، بدأ الرئيس ديبي سلسلة من التدابير الرامية إلى تحقيق المصالحة الوطنية، وعُرضت على شخصيات معارضة مؤثرة في تشاد وخارجها، مناصب رسمية، وتم إطلاق حوارين وطنيين. وبناءً على ذلك، تم تمديد الفترة الانتقالية من 18 شهراً أولية إلى مدة عامين إضافيين، من إبريل 2021 إلى إبريل 2024. بيد أن اللافت في الحالة التشادية هو أن خريطة الفترة الانتقالية – على عكس دول حزام الانقلابات الأخرى مثل: مالي والنيجر وبوركينا فاسو- حظيت بقدر من الشرعية التي أقرتها الجهات الفاعلة الإقليمية والقارية والغربية. وربما تمثل عملية الانتقال السياسي في تشاد اختباراً حقيقياً لنهج الاتحاد الإفريقي في دعم التحول السلمي في القارة. 

وبعد أن أعلنت اللجنة الانتخابية في تشاد، يوم 9 مايو الجاري، فوز ديبي بالانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى بعد حصوله على 61% من الأصوات؛ يسعى هذا المقال إلى تحليل أهمية إجراء الانتخابات الرئاسية في تشاد، وما تعنيه من دلالات في سياقاتها الوطنية والإقليمية، علاوة على محاولة رسم آفاق ومسارات المستقبل في هذا البلد.

الطريق للانتخابات:

واجه الحوار الوطني والسيادي الشامل في تشاد، الذي يهدف إلى معالجة التوترات السياسية وتعزيز المصالحة، تحديات وانتقادات كبيرة من مختلف الأطراف الفاعلة. وعلى الرغم من الجهود المبذولة لإشراك العديد من الجماعات السياسية المسلحة في الحوار المسبق في الدوحة، وقّعت 34 جماعة مسلحة فقط من أصل 52 على اتفاق بعد خمسة أشهر من المناقشات، معربة عن مخاوف بشأن الضمانات التي لم يتم الوفاء بها، مثل إطلاق سراح السجناء السياسيين. 

وبالفعل تمت مقاطعة مؤتمر الحوار الوطني، الذي انعقد في نجامينا في أغسطس 2022، من قِبل العديد من المجموعات الرئيسية، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني والكنيسة الكاثوليكية وبعض الأحزاب السياسية؛ بسبب القيود الملحوظة على نطاق النقاش والافتقار إلى الشمولية. علاوة على ذلك، أثار قرار تمديد حكم الرئيس ديبي لمدة عامين، خلافاً لوعده الأولي بنقل السلطة مدنياً، احتجاجات واسعة النطاق في أكتوبر 2021؛ مما أدى إلى مقتل أكثر من 120 شخصاً. وسلطت هذه المظاهرات، إلى جانب أحداث أخرى مثل مقتل الشخصية البارزة يحي ديلو، في فبراير 2024، الضوء على التوترات الداخلية المستمرة والتحديات داخل هيكل الحكم في تشاد، ولاسيما بين المجتمعات العرقية مثل الزغاوة. وعلى الرغم من هذه العقبات، كانت هناك بعض علامات التقدم، مثل عودة سوكسيه ماسرا، وهو شخصية معارضة رئيسية، كرئيس للوزراء في يناير 2024.  

ويبدو أنها المرة الأولى في تاريخ تشاد التي يتنافس فيها الرئيس ورئيس وزرائه في انتخابات عامة وجهاً لوجه وبجوار ثمانية مرشحين آخرين بينهم امرأة. وكان الهدف الرئيسي للجنرال محمد إدريس ديبي، الذي خاض الانتخابات ضمن ائتلاف "تشاد المتحدة"، هو إضفاء الطابع المدني على نظام حكمه ولاسيما بعد التغييرات الدستورية التي تمت الموافقة عليها في استفتاء أُجري في ديسمبر 2023. أما سوكسيه ماسرا، رئيس الوزراء المُعين والخبير الاقتصادي الذي تلقى تعليمه في جامعتي هارفارد وأكسفورد، والذي يمثل حزب "المحولون"، فقد ترشح باسم "ائتلاف العدالة والمساواة".

وفي 9 مايو الجاري، أعلنت اللجنة الانتخابية أن محمد إدريس ديبي فاز بالانتخابات الرئاسية بعد حصوله على 61% من الأصوات، وهو ما يتجاوز بكثير نسبة 50% اللازمة لتجنب إجراء جولة ثانية، مقابل حصول سوكسيه ماسرا على 18.53% من الأصوات. بينما أعلن ماسرا، قبل مراسم الكشف عن هذه النتائج مباشرة، فوزه في بث مباشر على فيسبوك، ودعا قوات الأمن وأنصاره إلى رفض ما وصفها بـ"محاولة سرقة الانتخابات".

الأهمية والدلالات:

تكتسب الانتخابات الحالية في تشاد أهمية كبيرة لعدة اعتبارات داخلية وإقليمية ودولية، يمكن توضيحها كالتالي:

1- تحقيق المصالحة وتخفيف حدة الانشقاقات داخل الأسرة الحاكمة: أدى إعلان الرئيس، محمد ديبي، ترشحه إلى انشقاقات داخل الأسرة الحاكمة. ولعل أبرز مثال على ذلك هو مقتل يحيى ديلو، زعيم "الحزب الاشتراكي بلا حدود"، وابن عمة محمد ديبي. وتدّعي الحكومة أن ديلو قُتل أثناء مقاومة الاعتقال، لكن أعضاء في المعارضة يقولون إنه قُتل خارج نطاق القضاء في عملية عسكرية. وخلال العملية نفسها، تم اعتقال عم الرئيس صالح ديبي أيضاً. ولا شك أن هذه العمليات تعكس الشقاق المتزايد داخل قبيلة الزغاوة، التي تُعد عائلة ديبي جزءاً منها. وتمثل هذه القبيلة ما يزيد قليلاً عن 5% من سكان تشاد، لكنها سيطرت على البلاد لمدة 30 عاماً بدعم من النخب الشمالية الأخرى التي تنتمي إلى التبو والجماعات العرقية العربية.

ويُلاحظ أن إحكام قبضة محمد ديبي على الجيش التشادي خلال الفترة الانتقالية، أدت إلى تقاعد أكثر من 100 جنرال مقرّب من والده. وفي الوقت نفسه، أنشأ ديبي حرساً جديداً، أطلق عليه "قوة التدخل السريع". وأدت هذه التحركات إلى زيادة التوترات داخل النخبة الحاكمة التشادية؛ بسبب المكانة التي اكتسبها أفراد الجماعات غير الزغاوية، وخاصةً الغورانين (الذين تنحدر منهم والدة الرئيس محمد ديبي) والعرب الموالين له، في الجيش. وعلى الرغم من أن محمد ديبي استخدم حتى الآن نظام المحسوبية الحالي لتهدئة المخاوف العرقية، فإنه قد يكرر نفس نمط رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، الذي ينتمي بروابط الدم إلى كل من الأورومو والأمهرة. فهل يستطيع الرئيس محمد كاكا، الذي ينتمي إلى الزغاوة لأبيه، وإلى التبو لأمه؛ تحقيق الوفاق القبلي بين الزغاوة والقبائل العربية الأخرى في تشاد؟

2- أول انتقال سلمي في دول حزام الانقلابات العسكرية: في خضم التيارات الإقليمية المضطربة المتقاطعة، والحروب الأهلية التي طال أمدها في ليبيا والسودان، والخلافات حول الاستفتاءات الدستورية في جمهورية إفريقيا الوسطى، والتغيير غير الدستوري للحكومات في دول حزام الانقلابات العسكرية؛ من شأن كل هذه الأمور أن تؤثر في آفاق السلام في تشاد. ولذلك، فإن استقرار البلاد أمر بالغ الأهمية لجهود تحقيق الاستقرار في حوض بحيرة تشاد ومنطقة الساحل. فعلى سبيل المثال، تمثل الأزمة في السودان تهديداً لاستقرار تشاد؛ إذ تشير التقديرات إلى أن أكثر من 550 ألف لاجئ من دارفور يواصلون عبور الحدود، والاستقرار في منطقة وداي، وهي منطقة هشة اقتصادياً واجتماعياً بالفعل. وعليه من المُحتمل أن تؤدي حالة عدم الاستقرار في تشاد إلى حدوث كارثة ليس فقط لشعبها، ولكن أيضاً لمنطقة الساحل وجمهورية إفريقيا الوسطى المجاورة. وهنا تكمن أهمية انتخابات تشاد في تحقيق الانتقال السياسي بشكل سلمي.

3- وضع معيار لكيفية استجابة المنظمات الإقليمية والقارية: من المتصور أن تضع انتخابات تشاد معياراً لكيفية استجابة منظمات مثل: الاتحاد الإفريقي والجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا، للتهديد الذي يشكله الانقلابيون كرؤساء. وهذا بدوره سيحدد مسار التحول في الغابون، والدول التي تحكمها مجالس عسكرية. وبالتالي فإن انتخابات تشاد تشكل اختباراً لتصميم الاتحاد الإفريقي على فرض القواعد والمبادئ المتعلقة بالتغييرات غير الدستورية للحكومات، المبينة في الأدوات السياسية مثل: إعلان لومي والميثاق الإفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم. ولعل ذلك يحمل آثاراً بالغة الأهمية ترتبط بفعالية الاتحاد الإفريقي، نظراً لتصريحاته وبياناته السابقة بشأن العملية الانتقالية في تشاد. وعليه بالإضافة إلى التداعيات المحلية وعبر الإقليمية، ستكون انتخابات تشاد بمثابة مؤشر لكيفية إدارة الاتحاد الإفريقي لعدد لا يُحصى من التحولات السياسية، وأنماط استجابته للتغييرات غير الدستورية المستقبلية.

4- تشاد حلقة رئيسية في الحرب ضد الإرهاب: تتعلق إحدى قضايا الانتخابات التشادية بالتعاون العسكري، ولاسيما وجود القواعد العسكرية، وهو موضوع يثير الجدل والتوتر في منطقة الساحل التي تعاني من الإرهاب. وعلى مدى العامين الماضيين، أجبرت مالي وبوركينا فاسو والنيجر، كلاً من فرنسا والولايات المتحدة على سحب وحداتها العسكرية. وحدث ذلك لمصلحة تقارب هذه الدول الثلاث مع روسيا؛ بهدف محاربة الجماعات الإرهابية المسلحة. وفي حين لا يزال لدى فرنسا بضعة آلاف من الجنود المنتشرين في ثلاث قواعد في تشاد، فإن نتائج الانتخابات الرئاسية في هذا البلد، الذي يظل مرتكزاً رئيسياً في الوجود العسكري الفرنسي بمنطقة الساحل، يمكن أن تكون الأكثر أهمية بالنسبة لباريس. والأمر نفسه ينطبق على واشنطن التي أعلنت مؤخراً، بعد اتفاقها على سحب قواتها من النيجر، عن "إعادة تموضع" جنودها المتمركزين في تشاد. 

وهكذا فإن الموجة الأخيرة من الانقلابات في دول الساحل الغربي، إلى جانب اندلاع الحرب السودانية في إبريل 2023، جعلت تشاد تبدو وكأنها جزيرة استقرار في منطقة الساحل الكبرى، فضلاً عن كونها واحدة من الحلفاء القلائل الذين يمكن الاعتماد عليهم بالنسبة للغرب. كما يمكن أن تقدم تشاد، كونها الدولة الأولى من بين دول المنطقة التي تمر بمرحلة انتقالية سياسية وتنجح في تنظيم الانتخابات، نموذجاً يُحتذى به للمجالس العسكرية الحاكمة في دول الجوار.  

تحديات مُنتظرة:

يمكن الإشارة إلى أربعة تحديات كبرى تواجه تشاد في مرحلة ما بعد الانتخابات الحالية، وهي كالتالي:

1- التحديات الاجتماعية والعرقية: يمثل استمرار الصراع في السودان أحد التحديات الكبرى التي تواجه نظام الحكم في نجامينا؛ بسبب وجود روابط عائلية قوية في كل من تشاد والسودان. وتكفي الإشارة إلى أن الرئيس الراحل إدريس ديبي قد قاد انقلابه العسكري عام 1990 انطلاقاً من بوابة دارفور في السودان. وبالإضافة إلى ذلك، لا تزال التوترات الاجتماعية والعرقية مرتفعة في تشاد. ولم تقدم الحكومة الانتقالية أي حل حقيقي للأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها التشاديون منذ سنوات. ولم تنجح التدابير الأخيرة، مثل: الاتفاق مع المعلمين، وخفض ضرائب النقل ودعم المرافق، في تهدئة السخط الاجتماعي. بل على العكس من ذلك، أدت متأخرات أجور موظفي الخدمة المدنية، وارتفاع أسعار الوقود، وانقطاع المياه والكهرباء، إلى إضرابات متكررة. 

وفي الوقت نفسه، تتصاعد التوترات بين الأعراق في جميع أنحاء تشاد. ويعاني الجنوب والوسط من الصراع بين الرعاة والمزارعين، والذي تفاقم بسبب الانقسامات القائمة منذ فترة طويلة على أساس الهوية؛ مما أدى إلى عودة المطالب الانفصالية. كما تتعرض المقاطعات الشرقية لضغوط غير مسبوقة بسبب وصول اللاجئين السودانيين. ومن المُرجح أن يؤدي التنافس على الوصول إلى الموارد، وخاصةً الأراضي، وارتفاع التضخم، إلى زيادة هذه التوترات.

وفي كل الأحوال، سوف تكون إحدى أولويات الرئيس ديبي، بعد إعلان فوزه في الانتخابات الحالية، هي الصحة، في بلد تُعد فيه المؤشرات الصحية، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، من بين أدنى المعدلات في العالم؛ إذ يبلغ معدل وفيات الأمهات والرضع 860 حالة وفاة لكل 100 ألف مولود حي، و72 وفاة لكل 1000 مولود حي، وذلك على التوالي. ومن ناحية أخرى، ترتبط هذه التحديات بالوصول العادل إلى مياه الشرب (حوالي 15% في بعض المناطق) والصرف الصحي الذي يظل معدل الوصول إليه (20%) أحد أدنى المعدلات في العالم.  

2- تحدي إدارة الثروة النفطية: تمتلك تشاد عاشر أكبر احتياطي نفطي مؤكد في إفريقيا، وقد برزت كمصدر مهم في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما بدأ الإنتاج من حقول نفط دوبا في الجنوب ويصدر عبر خط أنابيب يمر في أراضي الكاميرون إلى ساحل المحيط الأطلسي. وفي إطار التحوط الجيوسياسي والتجاري، وقّعت الحكومة التشادية شراكات بترولية مع شركات كبرى: من الولايات المتحدة (إكسون)، وفرنسا (ألف)، وماليزيا (بتروناس)، والصين (سي أن بي سي). وبينما ظل الإنتاج الذي يتراوح بين 150 ألف و200 ألف برميل يومياً، متواضعاً مقارنة ًبما تنتجه ليبيا ونيجيريا؛ أصبح النفط ركيزة لاقتصاد تشاد؛ مما أدى إلى مضاعفة حجم الناتج المحلي الإجمالي خمسة أضعاف منذ عام 2000. واليوم، يمثل قطاع النفط 30% من الناتج المحلي الإجمالي لتشاد، و86% من الدخل من الصادرات، و62% من إيرادات الميزانية. 

وعليه فقد أسهم النفط منذ البداية وبشكل أساسي في تشكيل سياسات تشاد الداخلية والخارجية؛ إذ كان بمثابة أداة للسيطرة الداخلية ووسيلة لبسط النفوذ في الخارج. ومع ذلك، لا تزال غالبية سكان تشاد تواجه فقر الطاقة؛ إذ لا يتمكن سوى 10% فقط من السكان من الحصول على الكهرباء؛ مما يؤكد التفاوت الصارخ بين الثروة النفطية والتنمية الاجتماعية داخل البلاد. ولعل هذا التحدي التنموي يشكل أولوية قصوى للرئيس القادم.

3- تحدي "الدولة حارس البوابة": يواجه رئيس تشاد المُنتخب، ديبي، تحدياً هائلاً نابعاً من إرث سياسة "حراسة البوابة" التي أسسها والده الراحل. لقد حول هذا النظام تشاد فعلياً إلى "دولة حارس البوابة"؛ إذ تمارس النخبة الحاكمة وشبكات المحسوبية التابعة لها السيطرة على الجوانب الحيوية للاقتصاد والسياسة، بما في ذلك عائدات الضرائب والقروض الأجنبية والمساعدات. وتزيد مثل هذه السيطرة المركزية من مخاطر المنافسة السياسية وتزيد من خطر عدم الاستقرار. 

لقد أعطى نظام ديبي الأب الأولوية لتأمين الدعم الدولي، والحفاظ على التحالفات الداخلية، وإدارة التمرد، في حين احتكر توزيع الدخل من "حراسة البوابة" التي يتقاطع فيها المجتمع المحلي مع الاقتصاد الخارجي. ومع ذلك، فقد أدى هذا النهج إلى عزل النخبة السياسية عن اهتمامات المجتمع المدني، وأعاق الوصول على نطاق أوسع إلى الفرص الاقتصادية الضرورية للتنمية. ويتعين على الرئيس ديبي أن يتغلب على هذه التعقيدات لتعزيز التنمية الشاملة ومعالجة الأسباب الجذرية للهشاشة السياسية. وبينما يتوفر الدعم الدولي في الوقت الحالي، فإن المخاوف المُلحة تدور حول الحفاظ على التحالفات الداخلية والسيطرة على الحدود الإقليمية لمنع التمرد. ومع ذلك، فإن النضال من أجل السيطرة على البوابات لم يُترجم إلى تحسين أسلوب حياة الناس. ولا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت القيادة الجديدة بقيادة محمد ديبي ستتحدى هذا الوضع، لكن فهم ديناميكيات سياسات "حراسة البوابة" أمر بالغ الأهمية لحشد الجهود نحو التنمية الحقيقية في تشاد.

4- تحدي تنويع الشراكات الاستراتيجية: مع وجود الكثير من الاضطرابات والصراعات في المناطق المجاورة لها، سيتعين على تشاد أن تتبنى موقفاً حذراً على المدى القصير فيما يتعلق بموقعها في الصراع السوداني وعلاقاتها مع دول الساحل. وإذا قرر الرئيس ديبي الاستمرار في تنويع شركائه الأمنيين، فسيتعين عليه أن يكشف عن خططه ويضمن التنسيق بين مختلف الفاعلين، مثل: فرنسا والولايات المتحدة، وربما روسيا خاصةً في مجال تدريب ودعم الجيش. 

إن القيام بذلك سيساعد على تجنب ظهور المعلومات المُضللة والخطابات التحريضية في تشاد، أو الأسوأ من ذلك، المواجهة المباشرة بين حلفائها. ويرى البعض أن قرار التهديد بطرد الولايات المتحدة هو خطوة تكتيكية لتعزيز صورة ديبي قبل الانتخابات والإشارة إلى انفتاحه على القضاء على النفوذ الغربي دون التضحية بأهم حليف له، وهو فرنسا. وقد اقترح خبراء أمنيون أن ذلك جزء من استراتيجية مساومة لزيادة الدعم الأمريكي للحكومة التشادية. وقد يتم سحب قوة طوارئ أمريكية صغيرة مؤقتاً، لإعادة تموضعها في تشاد بعد الانتخابات. ويعزى هذا الاهتمام العالمي بالتمركز في تشاد إلى قيمتها الجيوستراتيجية، فهي تقع على مفترق طرق بين الشمال والغرب والوسط الإفريقي، بما يجعلها مكاناً مثالياً للجهات الفاعلة العالمية. كما تستضيف تشاد مناورات عسكرية أمريكية، فضلاً عن قاعدة فرنسية كبيرة، واستقبلت قوات فرنسية ودولية من الاتحاد الأوروبي بعد طردها من بوركينا فاسو ومالي والنيجر. وتشاد هي الفناء الخلفي لكثير من مناطق الصراع الملتهبة في ليبيا والسودان، ودول بحيرة تشاد.  

كما أن الصراع بين القوى العالمية على النفوذ في منطقة الساحل، يشكل رصيداً ومخاطرة بالنسبة لتشاد. واستغل الرئيس ديبي رحلته إلى موسكو في يناير 2024، ليس فقط لإرسال إشارة قوية إلى باريس، التي أكدت على الفور التزامها الأمني تجاه نجامينا، بل أيضاً لممارسة السياسة الداخلية. وإدراكاً منه لتزايد المشاعر المُعادية لفرنسا، وصف ديبي اجتماعه مع الرئيس فلاديمير بوتين بأنه إعمال لمبادئ السيادة والاستقلال. وفي حين أن تنويع الشراكات الأمنية ساعد في الوقت الحالي على ترسيخ النظام من خلال التمويل والمعدات العسكرية، إلا أنه من الممكن أن تنفتح جبهات جديدة من عدم الاستقرار. ومن الممكن أن تنشأ انقسامات بين عناصر النظام الموالية لروسيا والعناصر الأخرى الموالية للغرب، في حين قد تقرر المعارضة السياسية والعسكرية طلب الدعم من موسكو أو العواصم الغربية. وبعبارة أخرى، فإن الرسائل المتضاربة التي ترسلها السلطات التشادية بشأن المشاعر المُعادية لفرنسا في البلاد قد تأتي بنتائج عكسية من خلال جعل تحالفات البلاد مصدراً للخلاف الداخلي، وذلك هو التحدي القادم.

مستقبل تشاد:

يمكن القول إن مستقبل تشاد بعد العودة إلى الحكم الدستوري يحمل في طياته مزيجاً من التفاؤل والحذر، ويتوقف على قدرتها على مواجهة التحديات الرئيسية والاستفادة من الفرص المُحتملة؛ إذ لا يخفى أن البلاد تواجه حالة من الهشاشة بما في ذلك إرث "الدولة حارس البوابة"، والحاجة إلى تنويع الشراكات الاستراتيجية. ومع ذلك، فمن خلال معالجة هذه التحديات بشكل مباشر، يمكن لتشاد أن ترسم طريقاً نحو الاستقرار والتنمية والقيادة الإقليمية. ويطالب الشباب على وجه الخصوص بدولة أكثر شمولاً وإنصافاً. 

وسيكون تنظيم الانتخابات التشريعية، التي لم يتم تحديد موعدها بعد، أول اختبار جدي للرئيس ديبي. كما ستعتمد مصداقية هذه الانتخابات على إجرائها ضمن إطار زمني معقول ووفقاً لمبادئ الشفافية، ولاسيما مع مراجعة قوائم الناخبين. وقد تكون مثل هذه التدابير الخطوة الأولى نحو إعادة إرساء قواعد الممارسة الديمقراطية في البلاد، وإرساء أسس مصالحة وطنية حقيقية. وعلى المدى المتوسط، يمكن لهذه الجهود أيضاً أن تُمكن الرئيس ديبي من استعادة الثقة الاجتماعية، وكسر دائرة العنف المرتبطة بالصراعات العرقية التي تتزايد في جميع أنحاء تشاد؛ من خلال إشراك المجتمعات المحلية بشكل أكبر في حل النزاعات، وتعزيز قدرات الأجهزة الأمنية والقضائية.

ومن الممكن أن تؤدي جهود تحقيق الاستقرار والإصلاح الناجحة إلى فترة من النمو والازدهار المستدامين في تشاد، من خلال دعم مبادئ الحكم الرشيد، والتنويع الاقتصادي، والتعاون الدولي. وعلى العكس من ذلك، فإن الفشل في معالجة المظالم الأساسية وحالة الضعف المؤسسية يمكن أن يؤدي إلى إدامة الهشاشة والصراع، وتفاقم تحديات الحكم، وتقويض آفاق السلام والتقدم في البلاد. وعليه؛ من المُرجح أن يتشكل مستقبل تشاد من خلال قدرتها على التعامل مع هذه الديناميكيات المعقدة، وإقامة تحالفات سياسية شاملة، وإعطاء الأولوية لرفاهية مواطنيها. وفي نهاية المطاف، تستطيع تشاد، من خلال سد الفجوات الموروثة عن الحكومات السابقة ومتابعة تطبيق الإصلاحات الهادفة وتعزيز التماسك الاجتماعي، أن تطمح إلى مستقبل واعد يساعد على استقرارها ويعزز نفوذها الإقليمي في بيئة أمنية مضطربة.