تحدي بكين- موسكو:

الفرص الاستراتيجية للقوى الغربية في آسيا الوسطى

12 March 2024


عرض: هند سمير

تُعد دول آسيا الوسطى بمثابة شريان حيوي يربط بين قارتي آسيا وأوروبا، ولاسيما أن تلك المنطقة تمتد من بحر قزوين في الغرب إلى الصين ومنغوليا في الشرق، ومن أفغانستان وإيران في الجنوب إلى روسيا في الشمال. وبسبب هذه الأهمية الاستراتيجية، فإن تفاعل القوى الغربية خاصة أوروبا والولايات المتحدة مع هذه الدول له تأثير كبير في الاقتصاد والأمن الإقليميين. إلا أن ذلك الأمر يواجه تحدياً روسياً صينياً، فمن ناحية تاريخية وثقافية، ترتبط دول آسيا الوسطى بروسيا لأنها كانت تحت مظلة الاتحاد السوفيتي السابق قبل استقلالها، ومن ناحية جيوسياسية، حاولت تلك الدول متابعة التحديث الذي يتضمن نهجاً يركز على البنية التحتية مع زيادة العلاقات مع الصين.

في هذا السياق، يتناول تقرير كتبه فلاديسلاف إينوزيمتسيف بعنوان "آسيا الوسطى واستغلال الفرص التاريخية" صادر عن المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري) تحليل الوضع الاقتصادي والجيوسياسي في آسيا الوسطى، كما يستكشف تاريخ التدخل الغربي اقتصادياً وسياسياً في المنطقة في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي، ويقيم التطلعات الروسية والصينية الحالية فيما يتعلق بدول آسيا الوسطى، فضلاً عن الخطوات التي اتخذتها هاتان القوتان لتأكيد نفوذهما. يقترح التقرير أيضاً تدابير ملموسة يمكن اتخاذها لتعزيز الوجود الغربي في هذه المنطقة الحيوية، مع تسليط الضوء على إمكانات آسيا الوسطى، كمكمل لروسيا أو بديل لها، ولو جزئياً على الأقل، كمصدر لموارد الطاقة والسلع الأساسية التي تفتقر إليها أوروبا بسبب سلاسل التوريد المعطلة نتيجة الحرب في أوكرانيا.

نظرة تاريخية: 

كان العقد الأول من استقلال دول آسيا الوسطى مدمراً، إذ تسبب انهيار الاقتصاد السوفيتي المركزي في حدوث فوضى اقتصادية؛ مما أدى إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي بنسبة 35% على الأقل بحلول عام 1995. في الوقت نفسه، أدت الصعوبات في بناء الهوية إلى سلسلة من الصراعات داخل دول المنطقة. إلا أن الخطوات نحو التعاون الدولي بين روسيا والغرب، مع الانبهار بجميع أنواع العولمة، الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، خلقت نافذة لمشاركة آسيا الوسطى مع الغرب كوسيلة للتعافي.

مع ذلك، ظل التعاون بين دول آسيا الوسطى وموسكو حاسماً في تفاعلات المنطقة، حتى نهاية التسعينيات، باستثناء تركمانستان الوحيدة، التي اختارت سياسة انعزالية. فعقب استقلالها، وقَّعت جميع دول آسيا الوسطى، باستثناء تركمانستان، اتفاقية مع روسيا للأمن الجماعي. منذ ذلك الحين، ظل التعاون العسكري مع روسيا قوياً. لكن في الوقت نفسه، أجبرت مخاوف التبعية والسعي لمصادر إضافية للنمو دول آسيا الوسطى على البحث عن شركاء آخرين لتأمين تنميتها. ومع اعتماد روسيا بشكل متزايد على صادرات السلع في التسعينيات، وتحولها السريع من مشترٍ موثوق به إلى منافس قوي لدول آسيا الوسطى، ظهرت الحاجة إلى التنويع والبحث عن شركاء جدد في التنقيب. 

أدى التحول الاقتصادي نحو الغرب إلى أولى نتائجه السياسية في آسيا الوسطى في عام 1999، حينما غادرت أوزبكستان معاهدة الأمن الجماعي، وانضمت إلى مجموعة غوام، وهي كتلة أنشأتها جورجيا وأوكرانيا وأذربيجان ومولدوفا بهدف إقامة تعاون أكثر كثافة مع القوى الغربية الكبرى. وبرغم أن ذلك جاء في وقت بدأت فيه العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة في التدهور، فإن موسكو كانت مشغولة بحرب أخرى مع الشيشان وانتقال الرئاسة في موسكو من بوريس يلتسين إلى فلاديمير بوتين. بحلول عام 2003، كانت آسيا الوسطى قد أقامت علاقات اقتصادية قوية مع الغرب، الأمر الذي أدى إلى إعادة توجيه تجارتها الخارجية بشكل كبير من روسيا إلى أوروبا.

الهيمنة الأوراسية:

يُعد منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وقتاً حاسماً لمنطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي بشكل عام ولآسيا الوسطى بشكل خاص. ففي أقل من عامين، تدهورت العلاقات بين روسيا والغرب، كما فرض كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات على أوزبكستان استمرت حتى عام 2009. وسارع رئيس أوزبكستان لإبرام معاهدة الصداقة والتعاون بين دولته والصين، وانسحب من مجموعة غوام. كل هذه التطورات غيرت خطط روسيا إلى حدٍ كبير، وجذبت اهتمام الكرملين بشكلٍ أكبر إلى آسيا الوسطى. وسعت موسكو لاستعادة التأثير والسيطرة في المنطقة من خلال مبادرات جيوسياسية واقتصادية مختلفة تهدف إلى توحيد السلطة السياسية وتعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول السابقة للاتحاد السوفيتي.

ركز الكرملين على "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي"، وهو كتلة تضم، بالإضافة إلى روسيا، دول آسيا الوسطى في المقام الأول. ولم تكن روسيا مهمة للغاية بالنسبة للمنطقة سواء باعتبارها مستثمراً أجنبياً رائداً أم كشريك تجاري لا غنى عنه، لكنها أدت دوراً حيوياً في العديد من المجالات الأخرى، إذ شكلت أهمية بالغة بالنسبة لكازاخستان، باعتبارها دولة عبور لصادراتها ووارداتها. فضلاً عن أن ثلاثاً من دول آسيا الوسطى الخمس –أوزبكستان وقرغيزستان وطاجيكستان– أصبحت تعتمد على روسيا كوجهة رئيسية لعمالها المهاجرين.

على الصعيد العسكري، ظلت روسيا طوال هذه السنوات القوة العسكرية والسياسية الرئيسية في المنطقة، واقتصر اعتماد آسيا الوسطى العسكري والتكنولوجي على روسيا. وعلى عكس الحال في مجال الأعمال والاقتصاد، فقد فشلت دول آسيا الوسطى في التخلص من اعتمادها على النماذج العسكرية والأمنية السوفيتية والروسية. بشكل عام، يرى التقرير أن المشروع "الاندماجي" الروسي غير فعَّال خاصة مع ضعف التكامل الاقتصادي، والتعاون السياسي فضلاً عن الشوفينية الثقافية الروسية، وهو ما يمنح القوى الغربية فرصاً في المنطقة. 

الصين تدخل المعركة:

لعدة قرون مارست الصين نفوذها في آسيا الوسطى من خلال سلسلة من الركائز التجارية والسياسية على طول طريق الحرير. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، سارعت الصين إلى الاعتراف بسيادة دول آسيا الوسطى. مع ذلك، تطورت العلاقات ببطء، بسبب انخفاض الإمكانات الاقتصادية لدول آسيا الوسطى وتقليل قادة الصين من احتياجاتهم من الهيدروكربونات، فضلاً عن أن بكين لم تأخذ في اعتبارها مصالح الغرب في المنطقة. كل هذا قد تغير مع تسارع النمو الاقتصادي في المنطقة، وتزايد الوجود الأمريكي بسبب "الحرب على الإرهاب". وقد تم توقيع معاهدة الصداقة والتعاون بين الصين وكازاخستان في عام 2002، ثم مع جيرانها.

مع وصول الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السلطة، تبنت بكين استراتيجية جديدة توسعية اقتصادياً، تم الإعلان عنها في خطاب شي التاريخي لعام 2013 بعنوان "حزام واحد، طريق واحد". وعلى مدى السنوات العشر التالية، أولت الصين اهتماماً كبيراً بالمنطقة. إذ تركز الاستثمارات والتجارة الصينية بشكل شبه كامل على قطاع الموارد، الذي يعاني من قيود متأصلة. فضلاً عن التنمية الزراعية، والتي أثارت مخاوف جدية بين السكان المحليين، إذ يعتقد كثيرون أن الصين تريد شراء كميات كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة.

مع ذلك، لا ينبغي أن يُنظر إلى نفوذ بكين المتزايد في المنطقة على أنه أمر لا رجعة فيه، خاصة أنه يُنظر إلى الصين بأنها غريبة ثقافياً وتبدو حازمة للغاية بحيث لا يمكن أن تكون شريكاً مناسباً، كما يذهب التقرير.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تعاون الصين مع دول خارج المنطقة يثير المخاوف بشأن طموحات بكين في الهيمنة، علاوة على ذلك، فإن التعافي البطيء للصين من أزمة فيروس "كورونا"، ومشكلات الديون وعدم السداد يزيد المخاوف من احتمال حدوث تباطؤ اقتصادي في آسيا.

المشاركة الغربية:

بحلول نهاية عام 2023، تطور المشهد الجيوسياسي والجيواقتصادي في آسيا الوسطى. ولعل التطور الأكثر أهمية هو "عودة التاريخ" الذي يتجسد في تحول كل من روسيا والصين إلى منافسين للغرب على المستوى العالمي، إن لم يكونا أعداء. هذا، إلى جانب فشل المحاولات الأمريكية في تهدئة أفغانستان وإرساء الديمقراطية فيها، وهو ما يجعل آسيا الوسطى منطقة تتاخم ثلاث مناطق حاسمة: روسيا، والصين، والعالم الإسلامي، وجميعها منخرطة في خطابات ومواقف مناهضة للغرب، وفقاً للتقرير. في هذه الظروف، تعتبر دول آسيا الوسطى شريكاً مثالياً للغرب.

تتعزز فرصة الشراكة في ظل الجغرافيا السياسية المتغيرة للطاقة. فمع عزم أوروبا على عدم الاعتماد على الطاقة الروسية، فمن الأهمية أن يجد الغرب مصادر جديدة للطاقة. وتُعد دول آسيا الوسطى الاختيار الأكثر عقلانية (خاصة كازاخستان، أكبر منتج لليورانيوم في العالم). وحتى الآن، كان النفط والغاز من آسيا الوسطى يصلان إلى أوروبا عبر المرور عبر الأراضي الروسية، ولعل العمل مع كازاخستان ودول آسيا الوسطى الأخرى لإنشاء طرق بديلة للسوق الأوروبية عبر كازاخستان وبحر قزوين وأذربيجان وجورجيا وتركيا قد يساعد على تخفيف هذه المشكلة على المديين المتوسط والطويل.

على الجانب الآخر، يتمتع الغرب بقوة تحويلية يمكن تفعيلها في المنطقة، خاصة أن دول آسيا الوسطى هي دول علمانية تخشى تصاعد المد الديني المتطرف، خاصة من أفغانستان المجاورة، وتتطلع إلى الغرب بحثاً عن كيفية تحديث اقتصاداتها. وبحلول عام 2022، عززت كل من أوروبا والولايات المتحدة مكانتهما كأكبر مستثمرين في المنطقة، إذ تم ضخ أكثر من 100 مليار دولار في قطاعات مختلفة من الاقتصاد الإقليمي منذ بداية القرن الحادي والعشرين.

خطوات عملية: 

يطرح التقرير مجموعة مقترحات على القوى الغربية لتعزيز دورها في آسيا الوسطى في مجابهة التحدي الصيني الروسي، منها، إطلاق العنان لإمكانات موارد الطاقة في المنطقة لاستخدامها من قبل الدول الأوروبية من خلال تطوير ممر وسطي عبر بحر قزوين يربط آسيا الوسطى وأذربيجان بأوروبا، إما عبر تركيا أو البحر الأسود. أضف لذلك، المنافسة مع الصين في تطوير البنية التحتية باستخدام الهندسة الأوروبية ذات المستوى العالمي والموارد المالية الغربية التي تتجاوز الموارد المالية الصينية.

من جانب آخر، ثمة أهمية لتطوير مبدأ استراتيجي لاستبدال واردات السلع من روسيا إلى دول الاتحاد الأوروبي بسلع من آسيا الوسطى، بما في ذلك الاهتمام بتنويع مصادر اليورانيوم عبر التعاون مع كازاخستان في مجال الطاقة النووية مع إنشاء مركز تنسيق عالي المستوى بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وآسيا الوسطى لتعزيز الحضور الغربي والتعاون العسكري. كذلك، يمكن لكازاخستان، أن تكون عاملاً موازياً لموسكو في تعزيز السلام والأمن، لما لها من مبادرات بارزة في السياسة الخارجية، بما في ذلك تلك التي تركز على نزع السلاح النووي ومنع الانتشار النووي.

يرى التقرير أيضاً أنه من المهم تعاون القوى الغربية مع السلطات المحلية لتعزيز التعليم والعلوم والتكنولوجيا في آسيا الوسطى للتصدي لتسرب المهارات وتعزيز التنافس مع الجامعات الروسية والصينية. كما أن التركيز على تحسين معايير التعليم وتقديم فرص للشباب لتحقيق التميز قد يكون أداة فعالة لمقاومة التطرف في المنطقة. إضافة إلى دعم الدول الغربية رواد الأعمال المحليين في آسيا الوسطى لمكافحة الفساد وتعزيز سيادة القانون، وتقديم التكنولوجيا المالية الحديثة وفتح الوصول إلى أسواق رؤوس الأموال العالمية، بحيث تتحول المنطقة إلى قاعدة بديلة للشركات الروسية التي تسعى للهروب من سيطرة نظام بوتين.

أخيراً، يحتاج الغرب في آسيا الوسطى إلى مواقف أكثر فعَّالية، مع التركيز على التوسع الأوروبي وتعزيز التعاون للتصدي للتحديات الجيوسياسية والاستفادة من الفرص الاقتصادية في المنطقة.

المصدر:

Vladislav Inozemtsev, “Central Asia: Making Use of a Historic opportunity”, Russie.Eurasie.Visions, No. 132, Ifri, December 2023.