التحيز التكنولوجي:

رؤية نقدية لدور "الخوارزميات" في الثقافة والسياسة

27 February 2024


عرض: عبد المنعم علي

تؤدي الخوارزميات دوراً أساسياً في ربط التفاعلات بين مجالات التكنولوجيا والثقافة والسياسة في المجتمعات المعاصرة، ولاسيما أنها تؤثر في القرارات البشرية، والبرمجيات، والأجهزة، والعمالة، والطبيعة وغيرها. وبرغم أنه من المفترض أن تأخذ الخوارزميات طابعاً مجرداً، فإنها تواجه انتقادات بسبب تحيزها وعدم عدالتها بل وتكريسها لعدم المساواة في المجتمعات.

من هذا المنطلق، يقدم توبياس ماتزنر، في كتابه "الخوارزميات: التكنولوجيا والثقافة والسياسة"، رؤية نقدية لدور الخوارزميات في مجالي الثقافة والسياسة، خاصة فيما يتعلق بظروف الأجهزة والمواد والتعليمات البرمجية والبيانات، مع ربط ذلك بالمناقشات حول إشكالية التحيز التي تطرحها تكنولوجيا المعلومات.

تطور الخوارزميات:

يبدأ تاريخ الخوارزميات بالجذور الاشتقاقية لمصطلح "خوارزمية" باسم عالم الرياضيات الفارسي محمد بن موسى الخوارزمي، لكن الاستخدام الحديث للمصطلح يجب فهمه في ضوء التطورات المحددة في علم الرياضيات الغربية في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عندما تمت مناقشة أسس الرياضيات من زاوية جديدة تستند للحوسبة المعاصرة، وبالنظر إلى مسار تطور الخوارزميات، فقد مرّ بثلاث مراحل مهمة، كالآتي:

- الأرقام العابرة للحدود: برزت في القرن التاسع عشر، في ضوء النظرية التي قام بها جورج كانتور، والمعروفة باسم "المجموعات"، وذلك بهدف تطوير آلية للتعامل مع المجموعات الرقمية المختلفة مثل، توحيدها أو تقاطعها، بحيث يتم من خلال ذلك الخروج ببعض المسلمات الرئيسية لتلك المجموعات وتأسيس العمليات الحسابية لإثبات النظريات الرياضية من خلال تطبيق قواعد المنطق خطوة بخطوة، والتي أصبحت فيما بعد تتم من خلال الحاسب الآلي بدلاً من البشر.

- البطاقات المثقوبة: رسخت هذه المرحلة لتقنية معالجة البيانات الكهروميكانيكية، إذ شهدت ظهور التلغراف وما تبعه من ظهور مجموعة متنوعة من الأجهزة لتحويل الرموز إلى كهرباء وبالعكس، ومن ثم تحولت التكنولوجيا إلى أداة لمعالجة البيانات الإدارية. كما تم تطوير "معدات تسجيل الوحدات"، والتي استخدمت قبل ظهور أجهزة الحاسب الآلي الرقمية في الشركات والإدارة والحكومة وأصبحت البطاقات المثقوبة بمثابة ناقل بيانات شائع لأجهزة الحاسب الآلي القابلة للبرمجة.

- علم التحكم الذاتي: يُعد بمثابة المرتكز التاريخي للحوسبة الحديثة التي هي في الأساس التحقيق النهائي للنظرة السيبرانية للعالم، وفي هذا المجال برزت الخوارزميات كمدخل لحل المشكلات عبر تحويل مدخلات معينة إلى مخرجات محددة، وذلك من خلال توظيف التحكم الآلي والحوسبة الحديثة، إذ يمكن لتلك الخوارزميات تنظيم وتحليل المعلومات ونقلها والتحكم فيها، ويُمكن التدليل على ذلك بتوظيف علم التحكم الذاتي والحوسبة في أسواق الأوراق المالية من خلال عروض أسعار إغلاق الأسهم التي يتم التقاطها بصورة يومية، وكذلك المجموعة الكاملة لبيانات الأرصاد الجوية التي ينشرها مكتب الأرصاد الجوية من يوم لآخر، فهي جميعها سلاسل زمنية تعتمد على الخوارزميات، بالتالي أصبحت الحوسبة والخوارزميات جزءاً أساسياً من النظرة السيبرانية للعالم، وجدير بالذكر أنه قد تم توظيف التحكم الآلي في تطوير آلات الحوسبة خلال الحرب العالمية الثانية في العمليات العسكرية، وذلك من خلال العمل على التحكم في المدافع المضادة للطائرات.

معضلة تحيز الخوارزميات:

اعتبر كثير من المحللين الخوارزميات إحدى القضايا الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، التي تتسم بقدر من التحيز والتمييز، نتيجة لاعتمادها على التطبيقات المعاصرة للتعلم الآلي والذكاء الاصطناعي وما ينتج عنه من تحيز عنصري في التنبؤ بالظواهر المجتمعية المختلفة. مع ذلك، هناك مجموعتان مترابطتان من المشكلات فيما يتعلق بتوظيف الخوارزميات في الأحداث المختلفة إحداهما، أنها تقوم بتحليل هذه الأحداث بطريقة متحيزة؛ والثانية أن القدرات الخوارزمية (المفترضة) تُحدِث تغييرات في المجتمع.

وتكمن الأهمية الاجتماعية للخوارزميات في ضوء دورها في ترسيخ عِدة ممارسات عالمية منها، "أتمتة عدم المساواة"، و"خوارزميات القمع"، و"أسلحة الدمار الرياضي" التي قامت الخوارزميات بجمعها وتفصيلها، فالخوارزميات غالباً ما تنتج نتائج تمييزية أو غير عادلة، لكنها تدعم أيضاً أو تمكن أو تقترح أو تضفي الشرعية على الأشكال الحالية والجديدة من الهيمنة وعدم المساواة.

وتُعد الخوارزميات شكلاً معيناً من أشكال التجريد، أي الصياغة المجردة لمشكلة ما، وتكمن الفكرة المركزية وراء مفهوم "الخوارزمية" غالباً في قدرته على التعبير عن نهج عام لحل مشكلة ما أو المهمة التي تلخص كل تفاصيل تنفيذ خطوات معينة، ونتيجة لذلك يُمكن وضع التجريد في نموذج محدد للحوسبة.

وعلى الرغم من أن هذا التجريد ضروري للاتصال بوجهات النظر الاجتماعية والتاريخية والأخلاقية والسياسية، فإن الخوارزميات تُستخلص من ظروفها المادية، والبيانات المستخدمة "لتدريبها"، والموضوعات التي تعالج بياناتها، ومن يستخدمها، ويتم في ضوء ذلك العمل التحليلي لفهم الظواهر ومسبباتها وكذلك النظر في البدائل المشمولة من خلال الممارسات وثيقة الصلة.

وفي سياق الخوارزميات، خاصة في علوم الحاسب الآلي، هناك العديد من المحاولات لإصلاح المشكلات السياسية، ومع ذلك فإن هذا الأمر لا يؤدي إلى افتراض حل المشكلة مرة واحدة وإلى الأبد، خاصةً وأن تفاعل الخوارزميات مع القضايا السياسية المختلفة يرتبط بفهم الممارسات السياسية وسياقها، وهي عملية ديناميكية ومتغيرة وتخضع لاعتبارات متباينة؛ وهذا الأمر سبب آخر يجعل تحليل الخوارزميات كعلاقات تكميلية سياسياً بطبيعته.

لقد باتت "التقنيات الخوارزمية" تساعد بصورة كبيرة على فهم البرامج والتطبيقات المختلفة، فضلاً عن استيعاب التعقيدات المختلفة في البرمجة، وفي تنظيمها بصورة تُعين بشكلٍ كبير في فهّم السياق السياسي والاجتماعي والعوامل الاقتصادية المختلفة؛ وذلك من خلال البرمجة الوظيفية المتباينة التي تساعد على معالجة مختلف القضايا، إذ أصبحت الحوسبة ذات طبيعة ديناميكية يمكنها الجمع بين أكثر من مؤثر لتحليل البيانات والمعلومات المختلفة.

الخوارزميات والعوامل المؤثرة:

ترتبط الخوارزميات بعلم التحكم الآلي، والذي يرتبط في حد ذاته بالألياف الضوئية و"الشبكة العالمية تحت سطح البحر"، التي تُشكل جزءاً رئيسياً من الإنترنت وعاملاً مُشكّلاً للخوارزميات. ونظراً لامتداد الكابلات البحرية على طول الشواطئ بين المدن الكبرى، وتزامناً مع الحرب الباردة، فقد بدأ الاهتمام بالسيطرة الوطنية على الكابلات لضمان أمن الاتصالات ذات الأهمية العسكرية المتزايدة. لذلك فإن الشبكة الموجودة تحت سطح البحر في الوقت الحالي أحدثت صراعات سياسية واقتصادية.

فعلى سبيل المثال، ما تزال المملكة المتحدة، التي كانت ذات يوم مركزاً لإمبراطورية عالمية تدير العديد من خطوط التلغراف والهاتف، مركزاً مهماً لحركة المرور على الإنترنت اليوم. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل جهاز المخابرات البريطانية يمكن أن يصبح فاعلاً رئيسياً في عمليات التجسس؛ علاوة على ذلك، ما تزال المستعمرات السابقة في كثير من الأحيان لديها اتصالات أسوأ بكثير بالإنترنت مما يعني بذل المزيد من الجهد أيضاً للأفراد للوصول إليها.

ارتباطاً بذلك، هناك ما بات يُعرف بــ "خوارزميات التوجيه" التي تحدد المسارات المختلفة التي تتلقى منها دول العالم الاتصال بالإنترنت ومسارات هذا الاتصال، ومن الممكن عرقلة أو اختطاف حركة مرور الإنترنت إلى وجهة معينة، ولا تستطيع خوارزميات التوجيه تحديد جودة المسار، بخلاف ما يمكنها قياسه في موقعها (على سبيل المثال، عدد الحزم الواردة والصادرة، وأوقات سفر الإشارة، وما إلى ذلك).

في هذا الإطار، يركز الكتاب على سياسة الخصوصية والمراسلة السحابية لتوضيح السياسات المعقدة التي يمكن أن يقدمها اعتماد الخوارزميات على الخدمات، على سبيل المثال، فإن الخدمة التي تُعرف باسم منصة تطوير تطبيقات الويب والجوال - والتي تدمجها جوجل في نظام التشغيل الآندرويد الخاص بها للهواتف الذكية- تُعد أحد العناصر العديدة التي تساعد على حل مشكلة معينة تتعلق بالهواتف الذكية. مع ذلك، بالنسبة لمبرمجي التطبيقات الشبكية، فإنها تمثل مشكلة، إذ تستخدم الهواتف المحمولة عند التحرك العديد من الطرق المادية المختلفة للوصول إلى الشبكة. ومع تغيير عناوين الشبكة، فإنها تحتاج إلى معرفة العنوان الحالي لذلك العميل لتسليم تلك الرسالة.

لتحقيق هذا الهدف، ستحتاج خدمة المراسلة إلى تتبع عناوين جميع عملائها طوال الوقت، وهذا الامر يُمثل تحدياً يؤثر في البيانات والمعلومات التي يجب الحصول عليها، علاوة على أن الجهود المبذولة لتتبع جميع المستخدمين باهظة تقنياً واقتصادياً للعديد من مطوري التطبيقات، بالتالي هناك جانبان مهمان هما، الطابع المتصل بالشبكة والموزع بشكل متزايد "للأجهزة"، وحقيقة أن أوقات الإرسال أصبحت مقياساً مناسباً لتقييم الخوارزميات، بالإضافة إلى وقت التشغيل التقليدي ومساحة التخزين.

مثل هذه الجوانب لها أيضاً عواقب على المستوى الأكثر تجريداً الذي تتم فيه مناقشة الخوارزميات في علوم الكمبيوتر وهندسة البرمجيات. إن معالجة البيانات بسرعة اليوم لا تعني فقط ابتكار خوارزميات تتطلب دورات معالجة قليلة؛ ولعل أحد العوامل المحورية للغاية هو معالجة البيانات محلياً قدر الإمكان، حتى بالنسبة للمهام الموزعة، وذلك لتقليل الحاجة إلى الاتصال.

على الجانب الآخر، باتت الخوارزميات تقوم بأعمال البشر بصورة كبيرة، وعلى الرغم من ذلك فإن جميع التطبيقات الخوارزمية تتضمن أشخاصاً بشريين وموضوعات ذات مواقع مختلفة، وحتى الحالات البارزة للاستقلالية الخوارزمية، مثل السيارات ذاتية القيادة، تعني إعادة تشكيل المجموعات الخوارزمية البشرية الموجودة بدلاً من مجرد استبدال الكائنات البشرية بالخوارزميات.

من المؤكد أن الخوارزميات تجعل العديد من الوظائف عفا عليها الزمن. ومع ذلك، فإن هذا لا يحدث أبداً بالطريقة التي تحل بها الخوارزميات محل العمل الذي كان يقوم به الإنسان حتى الآن. على سبيل المثال، أصبح لدى العديد من المتاجر الآن ميزة الدفع الذاتي ومع ذلك، لا توجد خوارزمية تقوم بمسح البضائع وتساعد الخوارزميات فقط على جعل الاحتيال أكثر صعوبة.

ختاماً؛ إن الخوارزميات لا يمكن فهمها بشكلٍ كافٍ إلا من خلال مفاهيم مجردة ومعممة أو مبادئ أولية أو أساسية مثل قابلية الحساب أو البرمجة مع الأخذ في الاعتبار التكوين المشترك للخوارزميات ومكملاتها، المجردة والملموسة بهدف الاعتراف بتعددية المشاركين وتمكين اتصالات جديدة بالقضايا السياسية المهمة التي تتضمن الإقصاء، والتمييز، وظروف العمل، والأثر البيئي، وما إلى ذلك.

وبالرغم من حالة التقدم التي أحدثتها الخوارزميات في الكثير من الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، فإن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال استبدال الدور البشري، فلا يزال هو المؤثر في صناعتها وتطويرها وتغذيتها بالبيانات المختلفة وكذلك ما تزال هناك الكثير من المهام تتطلب العامل البشري.

المصدر:

Tobias Matzner, Algorithms: Technology, Culture, Politics, New York, NY: Routledge, 2024.