صربيا نموذجاً:

تحولات القوى الجيوسياسية في البلقان بعد حرب أوكرانيا

08 November 2023


عرض: هبة محيي

تشهد منطقة البلقان، في الآونة الأخيرة، تحولات عديدة للقوى الجيوسياسية، وخارطة النفوذ السياسي بعد الصراع الروسي الأوكراني، إذ تُسارع العديد من القوى الدولية والإقليمية إلى فرض نفوذها على المنطقة، كالصين وتركيا. وبما أن منطقة البلقان تقع في جنوب شرق أوروبا، فإن أي تغيير في موازين القوى السياسية في المنطقة ستترتب عليه تأثيرات ممتدة في الأمن الأوروبي.

من هنا، تحلل ورقة بحثية لمؤسسة هانس زايدل الألمانية حول "تحولات القوى الجيوسياسية في منطقة البلقان" في العام 2023، خارطة القوى السياسية الدولية والإقليمية البارزة التي تحاول فرض نفوذها على البلقان، ومظاهر التحولات السياسية في المنطقة، والإجراءات والمساعدات التي يجب أن تقدمها أوروبا لدول البلقان كي تحقق الاستقرار والديمقراطية، مما يؤهلها في نهاية المطاف للظفر بعضوية الاتحاد الأوروبي.

فاعلون دوليون بارزون: 

يُعد تحديد الدول المنتمية لمنطقة البلقان أمراً صعباً لأسباب جيوسياسية وكذا لاختلاف العلماء على ترسيم حدود المنطقة، لكن وفقاً للتعريف الشائع تضم البلقان عشر دول، هي: ألبانيا، البوسنة والهرسك، بلغاريا، كرواتيا، كوسوفو، الجبل الأسود، مقدونيا الشمالية، رومانيا، صربيا، سلوفينيا. وبسبب هذا العدد من الدول، من المتوقع أن يكون هناك العديد من الفاعلين الدوليين المؤثرين في المنطقة الذين تتمايز مصالحهم وتأثيراتهم، وفقاً لعوامل عديدة، منها الصراعات الداخلية في دول المنطقة. وطرح التقرير أولئك الفاعلين البارزين، على النحو الآتي:

1) روسيا: لا يمكن حصر الدور الروسي في البلقان في الصراع الروسي الأوكراني وتبعاته على المنطقة، إذ اهتم هذا الدور منذ فترة طويلة بالسيطرة على الفاعلين المحليين في البلقان، واستخدامهم لتأجيج الصراعات الداخلية والإبقاء على هشاشة دول المنطقة، ومن أمثلة ذلك، دعم روسيا لرئيس جمهورية صربيا لسنوات لتحقيق انفصال دولته عن البوسنة والهرسك. وبالنظر للتأثير الاقتصادي لروسيا في المنطقة، فإن خير مثال هو أزمة الطاقة التي تعرضت لها المنطقة عقب الصراع الروسي الأوكراني، حيث قامت أوروبا برصد حزمة إعانات بقيمة مليار يورو لتخفيف الآثار المتفاقمة الناجمة عن الحرب.

2) الولايات المتحدة الأمريكية: أسهمت واشنطن منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً بدور ملحوظ في إعادة الأمن النسبي إلى المنطقة عند نشوب الصراعات الإثنية والحروب، في الوقت الذي عجزت فيه أوروبا عن تقديم مساعدات مُجدية لإعادة السلام إلى المنطقة، ومنذ ذلك الوقت فإن الولايات المتحدة من أبرز الفاعلين في المنطقة، ويمكن لمس ذلك بالنظر إلى عدد الدول المشتركة من البلقان في حلف شمال الأطلسي.

3) تركيا: استغلت أنقره موقعها الاستراتيجي المتميز في آسيا وأوروبا، وكذا دورها المؤثر في الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي لتصبح فاعلاً سياسياً مهماً في البلقان. وتعتمد تركيا حالياً على اتباع ديناميكيات سياسية خارجية تؤهلها لفرض نفوذها على العديد من المناطق، كالشرق الأوسط، والقوقاز ومنطقة البلقان. وتتمتع منطقة البلقان بأهمية جيوسياسية لتركيا، فهي تشكل امتداداً جغرافياً لها في القارة الأوروبية، وبالتالي فإن استقرار تلك المنطقة سينعكس عليها، الأمر الذي دفع تركيا لبذل جهود حثيثة لحفظ الأمن والاستقرار في المنطقة، عبر المشاركة بعناصر من الجنود والشرطة في القوات الدولية المشتركة في البوسنة والهرسك، وكوسوفو.

4) دول الخليج العربي: شهدت السنوات الأخيرة اهتماماً اقتصادياً مكثفاً من قبل دول الخليج العربي بمنطقة البلقان، وقد يتحول هذا الاهتمام إلى نفوذ جيوسياسي على المدى البعيد، فعلى سبيل المثال، كثفت المملكة العربية السعودية والإمارات الاستثمارات في كل من البوسنة والهرسك وصربيا، خاصة في مجالات الطيران والبنية التحتية والدفاع. 

5) الصين: تُعد بكين منافساً سياسياً لأوروبا في البلقان، حيث تنتهج العديد من السياسات لخلق أنظمة موالية وداعمة لها عبر استراتيجيات توفير الإقراض والدعم الاقتصادي غير المشروط. وشهد الدور الاستراتيجي الصيني في البلقان نمواً مطرداً في الأعوام الأخيرة من خلال الحضور الإعلامي الصيني في المنطقة، كما حال اتفاقية التعاون بين صربيا والصين عام 2016، والتي تنص على إجراء حوار إعلامي بين البلدين يهدف إلى رسم صورة إيجابية للصين وسياساتها في أجهزة الإعلام الصربية. وعززت أزمة "كورونا" وتوابعها النفوذ الصيني في البلقان، ولاسيما أن دول المنطقة عانت أزمات اقتصادية واجتماعية خاصة في صربيا.

6) أوروبا: يشهد الدور الأوروبي ضعفاً في تأثيره في البلقان مقارنة بالفاعلين الدوليين الآخرين في المنطقة، ولاسيما أن حزمة المساعدات المالية والاستثمارات الأوروبية في دول البلقان بعد حرب أوكرانيا غير كافية لفرض نفوذ أوروبا في المنطقة، فضلاً عن عدم وجود موقف موحد من دول الاتحاد الأوروبي تجاه دول البلقان، وإن كانت هنالك بعض الخطوات الأوروبية المؤثرة مثل، منح الاتحاد الأوروبي البوسنة والهرسك صفة دولة "مرشّحة" لنيل عضوية الاتحاد أواخر العام الماضي.

صربيا والتحولات السياسية:

تطَرق التقرير إلى التحولات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة البلقان نتاجاً للحرب الروسية الأوكرانية، إذ يرى أن هناك اتجاهاً متنامياً في المنطقة للاقتراب من أوروبا والابتعاد عن روسيا. هنا تظهر صربيا، كأحد النماذج على هذا الاتجاه، لكونها أكثر الدول التي تملك علاقات سياسية وتاريخية وثقافية وطيدة مع روسيا. إذ تُعد موسكو حليفاً أساسياً لصربيا في قضية إعلان كوسوفو انفصالها عن دولة صربيا واعتبارها دولة مستقلة، كما لا يزال يُنظر إلى روسيا على أنها حامية جميع الشعوب السلافية، ناهيك عن أن الدولتين هما صاحبتا الأغلبية الأرثوذكسية السلافية في المنطقة.

ويشكل العامل الطاقوي سبباً أساسياً في تبعية صربيا لروسيا، إذ تقترب نسبة واردات الغاز الطبيعي الصربية من روسيا من نسبة 100%، حيث توفر موسكو الغاز لصربيا بأسعار منخفضة نسبياً. كما أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حاول مراراً تعيين بلغراد (عاصمة صربيا)، كمكان محتمل للمفاوضات في الصراع الروسي الأوكراني. أضف إلى ذلك، أن صربيا تعتمد على روسيا في دعم صناعة التسليح، إذ ارتفع الإنفاق الدفاعي لها بين عامي 2015 و2021 بنسبة 70% بزيادة قدرها 1.4 مليار دولا سنوياً، وتأتي روسيا وبيلاروسيا في مقدمة الدول الموردة للأسلحة لصربيا.

مع ذلك، فإن ثمة أسباباً دافعة لصربيا للتحول عن حليفتها روسيا منها، طموح الرئيس الصربي لبسط نفوذ بلاده على البلقان والنظر له كفاعل سياسي مهم، وليس مجرد حليف لروسيا، ولاسيما بعد تحقيق صربيا للتطورات الاقتصادية والتكنولوجية في السنوات الأخيرة. كذلك الرغبة في تعميق العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي، خاصة ألمانيا. فالأخيرة تُعد الشريك التجاري الأكثر أهمية لصربيا بعد إيطاليا. ومن أبرز مؤشرات تحول صربيا عن دعم روسيا هو سلوكها التصويتي في جلسة الأمم المتحدة 2 مارس 2022، حيث انضمت إلى الأغلبية الساحقة في الجمعية العامة للأمم المتحدة وأصدرت قراراً يدين تصرفات روسيا في أوكرانيا.

توجهات مقترحة

من خلال تحليل خارطة الفاعلين والتحولات السياسية البازغة في البلقان، يرى مركز هانس زايدل الألماني أنه إذا أرادت الدول الأوروبية تقوية وتثبيت مصالحها ونفوذها في المنطقة، فعليها اتباع استراتيجيات سياسية خارجية وأمنية محددة، كي لا تصبح مهددة من قبل جنوب شرق أوروبا، خاصة مع تصاعد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة. لذلك، يقترح المركز بناء استراتيجيات أمريكية أوروبية منسقة مع حلف "الناتو" لتحجيم دور الصين وروسيا في المنطقة كقوى سياسية كبرى، ناهيك عن السعي لإحداث توافق بين وجهات نظر الشركاء الأوروبيين الرئيسيين، للعمل بشكل استراتيجي أكثر قوة وتأثيراً، فلا يزال هنالك حتى الآن اختلاف بين السياسات المنتهجة بواسطة العواصم الأوروبية تجاه منطقة البلقان، وخاصة بين برلين وباريس.

يدعو المركز أيضاً إلى تكثيف العلاقات الدبلوماسية الألمانية مع المجر، وذلك لتوقيعها اتفاقيات مع روسيا تتعهد بإمدادها بالغاز الروسي، مع تعزيز الجهود المبذولة لتطبيق الديمقراطية والاستقرار في دول البلقان، خاصة دولة البوسنة والهرسك، من خلال تدعيم دور الحوار المجتمعي والهياكل الداعمة للديمقراطية وتطبيق القانون في تلك البلدان.

أيضاً، من المهم دفع المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي والبلدان المرشحة للانضمام للاتحاد من منطقة البلقان، ولاسيما أن هذا الأمر يُعد الورقة الرابحة للاتحاد لفرض نفوذه السياسي في المنطقة، إضافة إلى إمداد دول البلقان بحزمة من المساعدات المالية لمواجهة الأزمات المحلية والأزمات الناتجة عن حرب روسيا وأوكرانيا كأزمة الطاقة، وتكثيف الاستثمارات الأوروبية في المنطقة، وخاصة الاستثمارات الألمانية. 

أخيراً، يدعو المركز إلى تعزيز الحوار الأوروبي المتعلق بالسياسة الأمنية بطريقة هادفة والاهتمام بعملية إصلاح القوات المسلحة وعلاج مواطن القصور، لتلبية احتياجات الأمن الإقليمي، والعمل على نقل الخبرات الرائدة لدول البلقان لمساعدتها على تدعيم واستقرار الأمن في بلدانها.

المصدر:

Hanns Seidel Stiftung, Geopolitische Machtverschiebungen im Balkanraum, Herdegen, Matthias, 2023.