مُعضلة التوازن :

كيف يعكس انتخاب كيلمان التنافس الأمريكي الصيني في فانواتو؟

20 September 2023


انتخب برلمان دولة فانواتو، الاثنين 4 سبتمبر 2023، ساتو كيلمان، رئيساً للوزراء، وذلك بعد أن تمت الإطاحة برئيس الوزراء إسماعيل كالساكاو، بعد 10 أشهر من توليه منصب زعيم البلاد، في خطوة تحمل أبعاداً دولية أكثر من كونها شأناً داخلياً. 

وعلى الرغم من أن فانواتو تُصنف ضمن قائمة الدول الصغيرة (Microstate)؛ حيث لا يزيد عدد سكانها عن 320 ألف نسمة، وتبلغ مساحتها نحو 12 ألف كيلومتر مربع، كما تقع في أقصى جنوب غرب المحيط الهادئ، لتجد نفسها منعزلة نتيجة بُعدها عن العالمين الشرقي والغربي، فإن الأزمة السياسية الأخيرة ودلالاتها جعلتها تكتسب زخماً دولياً واضحاً تحت شعار احتدام المنافسة بين الصين والقوى الغربية، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة الأمريكية. 

أزمة سياسية: 

ثمّة أبعاد تحيط بهذا الإجراء من قبل البرلمان في فانواتو، يمكن تسليط الضوء على أبرزها على النحو التالي:

1. حجب الثقة عن كالساكاو: دخلت فانواتو في أزمة سياسية منذ أغسطس 2023 عندما قدم زعيم المعارضة بوب لومان، اقتراحاً بسحب الثقة من رئيس الوزراء إسماعيل كالساكاو، منتقداً إياه بـأنه موالٍ للغرب، وأن سياساته ستضر بالبلاد سياسياً واقتصادياً. وقد حذّر الاقتراح الحكومة من أنها "يجب أن تدير علاقاتها بنزاهة، وألا تسمح لدولة فانواتو ذات السيادة بالانجرار إلى لعبة لا تريدها، وأن يتم استخدامها بشكل غير لائق من قبل الدول المتنافسة لممارسة الهيمنة في منطقتنا". 

وظهرت الأزمة السياسية عندما حصل الاقتراح على 26 صوتاً مقابل 23 صوتاً في البرلمان المؤلف من 52 مقعداً، وبالتالي، فشل الاقتراح في الحصول على الأغلبية المطلقة البالغة 27 مقعداً بسبب تغيب أحد النواب لظروف مرضية، الأمر الذي جعل كالساكاو يشكك في الاقتراح المقدم لسحب الثقة في البرلمان، زاعماً أنه لا يفي بالمتطلبات الدستورية، وكرد فعل على ذلك، رفعت المعارضة الأمر إلى المحكمة العليا في البلاد، والتي حكمت لصالح المعارضة؛ حيث أكدت أن الأغلبية المطلقة في هذه الحالة هي 26 صوتاً بموجب حضور51 عضواً في البرلمان.

وبناءً على ما سبق، تمت الموافقة على سحب الثقة من حكومة كالساكاو، وانتخاب البرلمان حكومة جديدة، وفي هذا الإطار، تمت عملية الاقتراع البرلماني لتسفر عن فوز ساتو كيلمان زعيم الحزب الشعبي التقدمي؛ حيث حصل على 27 صوتاً في البرلمان مقابل 23 لكالساكاو.

2. اتهام كالساكاو بالتقارب مع الغرب: اتهمت المعارضة كالساكاو أنه صديق للغرب، ولدية رؤية لتعميق علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها مثل فرنسا وأستراليا، وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى عدد من المؤشرات التي تعكس هذا الاتجاه، وأبرزها؛ توقيع فانواتو اتفاقاً أمنياً مع أستراليا، في 14 ديسمبر 2022، وقد تضمن الاتفاق تقديم كانبرا مساعدات إنسانية إلى فانواتو، فضلاً عن مساعدتها على الإغاثة في حالات الكوارث، وإنفاذ القانون، والأمن السيبراني، والدفاع، وأمن الحدود، والسلامة البحرية. كما لم يعارض كالساكاو رغبة واشنطن في إنشاء سفارة أمريكية في بلاده، لتكون على غرار استحداث سفارة أمريكية في مملكة تونغا وإعادة فتح الأخرى في جزر سليمان بعد غياب دام 30 عاماً. 

وبالتوازي مع ذلك، فقد وطد كالساكاو علاقته مع فرنسا، حيث زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فانواتو في يوليو 2023، وفي اجتماع قمة مع كالساكاو، أدان "الإمبريالية الجديدة في المحيط الهادئ"، في إشارة إلى تنامي النفوذ الصيني في المنطقة، وتعهد بتقديم دعم فرنسي أكبر لمواجهة بكين، معرباً عن اهتمام باريس الخاص بضرورة الارتقاء بالعلاقات الفرنسية الفانواتية، ومتطلعاً لضروة عودة الوكالة الفرنسية للتنمية إلى فانواتو للإسهام في تنميتها الاقتصادية. وقد تم توجيه انتقادات شديدة من قبل معارضي كالساكاو، كونه سيضر بوضع فانواتو "المحايد" بين الشرق والغرب، وربما سيعرض المساعدات التنموية المقدمة من الصين إلى الخطر.

3. سياسات كيلمان المتقاربة مع الصين: مع وصول ساتو كيلمان رئيساً للوزراء في فانواتو، للمرة الخامسة، تُشير معظم التقديرات إلى أن فانواتو ستدخل المعسكر الشرقي، أو بعبارة أخرى، ستكون أكثر قرباً من الصين على حساب أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، ويتضح ذلك من خلال سياسات كيلمان السابقة وتصريحاته الحالية والتي تتمثل في عدد من المؤشرات أبرزها؛ طرد كيلمان 12 فرداً من الشرطة الفدرالية الأسترالية من فانواتو في عام  2012 عندما كان رئيساً للوزراء، بعد أن تم إيقافه أثناء مروره عبر أحد المطارات الأسترالية بحجة اعتقال الشرطة الأسترالية مستشاره بتهمة الاحتيال الضريبي.  

كما سافر خلال فترة توليه المنصب كرئيس وزراء عام 2015، إلى بكين في يونيو من نفس العام، للقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ، وتعهد بتوثيق العلاقات بين البلدين. ويرى مراقبون أن كيلمان يدرك أهمية التقارب مع النخبة الصينية، لكون بنك الصين للاستيراد والتصدير يُعد أكبر دائن لفانواتو؛ حيث تمثل ديونه ثلث الدين المستحق عليها، وفقاً لصندوق النقد الدولي. وفي أول خطاب له، أوضح رئيس الوزراء الجديد أن الاتفاق مع أستراليا، والذي يدعو إلى إقامة "تعاون أمني يتسم بالكفاءة والفعالية" لم يُصدق عليه من قبل البرلمان، وسيتم التخلي عنه بشكل نهائي، وهي إشارة تعكس تحولاً استراتيجياً واضحاً لرؤية فانواتو بقيادة كيلمان. 

تداعيات مُحتملة:

لا شك في أن الأزمة السياسية التي تعرضت لها فانواتو لها أبعاد دولية، وذلك في ظل التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في جنوب المحيط الهادئ، مع سعيهما إلى تعزيز نفوذهما بين الدول الجزرية التي لم تحظ باهتمام كبير من القوى العظمى منذ الحرب العالمية الثانية، وفيما يلي التداعيات المتوقعة دولياً من تلك الأزمة:

1. قلق الغرب: بانتهاء الصراع داخل برلمان فانواتو وفوز كيلمان -الحليف المقرب للصين- بزعامة الحكومة، يتوقع السياسيون الغربيون أن فانواتو ستنضم إلى المعسكر الصيني مثل جزر سليمان، التي وقعت اتفاقية أمنية مع بكين في مارس 2022، أثُيرت بموجبها المخاوف في أستراليا ونيوزيلندا، وكلتاهما حليفتان لواشنطن، بسبب احتمال بناء قاعدة عسكرية صينية على أراضي جارتهما. وفي هذا السياق، يرى مراقبون أن تقارب كيلمان مع الصين سيبدأ بتفاهمات اقتصادية أكبر، منها إعادة جدولة الديون والبحث عن فرص للاستثمار، وربما سينتهي بإبرام اتفاق أمني من شأنه أن يعزز المخاوف من تنامي النفوذ الصيني العسكري في المنطقة. 

2. توتر في العلاقات بين أستراليا وفانواتو: من المُؤكد أن التقارب بين كانبرا وبورت فيلا سينتهي مع وجود كيلمان في السلطة، فوعوده بانتفاء الاتفاق الأمني المبرم مع أستراليا تعني انحسار نفوذ الأخيرة، وفقدانها لمكانتها المرجوة من خلال تعزيز علاقاتها الأمنية مع فانواتو. 

3. تراجع النفوذ الأمريكي في المحيط الهادئ: من الواضح أن واشنطن لم تُقدر سياسات كالساكاو المتوازنة، والتي كانت يمكن أن تكون "ثغرة" لفتح الباب لمزيد من احتواء فانواتو لصالح الغرب وإبعادها عن الصين. وفي هذا السياق، يمكن القول بإن الإدارة الأمريكية الحالية لم تقدم أي دعم سياسي أو معنوي لحكومة كالساكاو، فهي تكتفي فقط بحوار المنتديات والوعود بتعزيز الشراكات دون تقديم دعم تنموي ومادي ملموس. وبناءً على ذلك، فإن التقارب المحتمل بين كيلمان وبكين سيكون مؤشراً على تراجع فرص واشنطن في تعميق نفوذها في تلك الدول الصغيرة أمام صعود الصين.

وفي التقدير، يمكن القول إن الغرب فقد فرصة لتعزيز علاقاته مع بورت فيلا في خضم وجود كالساكاو على رأس السلطة، فمع عودة كيلمان إلى رئاسة الحكومة، ستكون الصين فازت بشريك جديد بجانب جزر سليمان، الأمر الذي سيعزز نفوذها في منطقة جنوب المحيط الهادئ على حساب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. وفي هذا الإطار، لا يمكن الحديث عن أن الصين كان لها اليد العليا في إقالة رئيس الوزراء السابق إسماعيل كالساكاو نظراً لأنه كان على علاقة طيبة مع الصينيين، وحاول البحث عن مسار للتوازن بين بكين وواشنطن وحلفائها، فالمشكلة تتلخص في أن التوازن لم يلق دعماً من قبل الغرب من ناحية، ولم يقنع النخبة السياسية الفانواتية بجدوى التقارب الأمني مع الغرب -وفي مقدمته أستراليا- على حساب تجاهل المصالح الاقتصادية والتنموية التي تقدمها الصين لبورت فيلا.