دبلوماسية الجوار:

فرص نجاح بكين في تهدئة توترات بحر الصين الجنوبي

16 August 2023


أجرى وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، في الفترة من 10 إلى 13 أغسطس 2023، جولة إلى كل من سنغافورة، وماليزيا، وكمبوديا، في أول زيارة خارجية له منذ إعادة توليه وزارة الخارجية، في 25 يوليو، خلفاً لتشين غانغ، وذلك بدعوة من وزراء خارجية الدول الثلاث. وقد جرت مناقشة سُبل تعميق التعاون الاقتصادي، فضلاً عن تعزيز الاتصالات الاستراتيجية بين الجانبين.

سياقات مأزومة:

أحاطت بجولة وانغ يي، مجموعة من السياقات، سواءً المتعلقة بالوضع الإقليمي في منطقة جنوب شرق آسيا، أو بالصين والدول الثلاث، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

1. تصاعد التوتر بين بكين ومانيلا: جاءت الجولة بعد أيام قليلة من التوتر الذي شاب العلاقات بين الصين والفلبين، على خلفية الحادث الذي شهده بحر الصين الجنوبي، حيث اتهمت مانيلا قوات خفر السواحل الصينية بتوجيه خراطيم المياه نحو زوارق فلبينية، كانت تقوم بنقل معدات إلى جزيرة سيكند توماس التي تسيطر عليها مانيلا في جزر سبراتلي، وهي الجزر المتنازع عليها بين الفلبين والصين، واستدعت مانيلا السفير الصيني لديها لإبلاغه الاحتجاج على تلك التصرفات. 

وفي السياق، فقد أبدت واشنطن، تأييدها لموقف مانيلا في مواجهة الصين في هذا الحادث، إذ أكدت الخارجية الأمريكية أن تصعيد الصين المتكرر للوضع الراهن في بحر الصين الجنوبي، يمثل تهديداً مباشراً للسلام والاستقرار الإقليمييْن. وفي المقابل، فقد طالبت بكين الولايات المتحدة بالتوقف عن استخدام قضية بحر الصين الجنوبي لزرع بذور الفتنة، واحترام سيادة الصين ومصالحها في بحر الصين الجنوبي، واحترام جهود دول المنطقة لدعم السلام والاستقرار في هذه المنطقة. كما طالبت الفلبين بإبعاد سفينة حربية مُعطّلة، ترجع لفترة الحرب العالمية الثانية، تركتها الأخيرة بشكل مُتعمد قبل ما يزيد عن 20 عاماً، وتعمل كموقع عسكري في بحر الصين الجنوبي، لتعزيز مطالبتها بالسيادة في منطقة سيكند توماس التي تقع داخل منطقتها الاقتصادية الخالصة.

2. فرض واشنطن قيوداً تقنية على الصين: تتزامن جولة وزير الخارجية الصيني إلى الدول الثلاث، مع فرض واشنطن، في 10 أغسطس 2023، قيوداً جديدة على الاستثمارات الأمريكية في مجال التقنيات الحديثة بالصين، شملت قطاعات ثلاثة هي الشركات العاملة في أشباه الموصلات الكهربائية وأشباه الإلكترونيات الدقيقة، وتكنولوجيا المعلومات الكمومية، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، وقد أبدت بكين اعتراضها على تلك القيود ووصفتها بأنها "إكراه اقتصادي حاد" و"ترهيب في مجال التكنولوجيا"، داعية الولايات المتحدة إلى وقف تسييس القضايا التجارية والاقتصادية والتكنولوجية وتحويلها إلى أدوات وأسلحة. 

وجدير بالذكر أن الاقتصاد الصيني يواجه في الفترة الأخيرة العديد من الصعوبات التي أثرت سلباً في معدلات أدائه. ومن أبرز المؤشرات على ذلك؛ تراجع نسبة النمو التي حققها الاقتصاد الصيني في الربع الثاني من هذا العام، والتي بلغت 0.8%، نتيجة عدة عوامل، من بينها ضعف الطلب المحلي وتراجع الصادرات واضطراب القطاع العقاري. وهو الأمر الذي يثير مخاوف بشأن عدم نجاح بكين في تحقيق النمو المستهدف لهذا العام البالغ 5%.

3. انتقادات غربية للانتخابات في كمبوديا: شهدت كمبوديا، التي تُعد من أبرز حلفاء الصين في جنوب شرق آسيا، في أواخر يوليو 2023، إجراء انتخابات عامة، غابت عنها المعارضة، وقوبلت بانتقادات غربية، وأسفرت عن فوز حزب الشعب الكمبودي بزعامة رئيس الوزراء هون سين، بنسبة 82% من الأصوات، والذي أعلن التنحي عن منصبه، بعد 40 عاماً في الحكم، وتسليم السلطة إلى نجله الجنرال هون مانيه الذي شكل الحكومة الجديدة.

أبعاد الجولة:

ناقش وزير الخارجية الصيني، مع نظرائه وكبار مسؤولي الدول الثلاث التي قام بزيارتها، العديد من الملفات والقضايا، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

1. تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري: شملت جولة وزير الخارجية الصيني إلى الدول الثلاث، تأكيد تعزيز أواصر التعاون الاقتصادي والتجاري، ولاسيما أن تلك الدول أعضاء في رابطة "الآسيان" مع الصين، وذلك في مجالات الاستثمارات والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والطاقة والبنية التحتية. إّذ تُعد الصين أكبر شريك تجاري لكمبوديا، حيث بلغ حجم تجارة السلع بين البلدين في عام 2022، ما يزيد عن 16 مليار دولار. كما صارت الصين أكبر شريك تجاري لماليزيا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما في ذات العام، ما يزيد عن 110 مليارات دولار.

وهدفت بكين من جراء تلك الزيارة إلى تعميق التعاون مع الدول الثلاث، باعتبارهم أعضاء نشطين في مبادرة الحزام والطريق الصينية، إلى جانب تفعيل مبادرات الصين الدولية مع الدول الثلاث، وهي مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية. 

2. الدعوة لتهدئة التوترات في المنطقة: أعرب وانغ يي، خلال الجولة، عن أمل بلاده في قيام دول المنطقة بأداء دورها القيادي في تأمين السلام والاستقرار في بحر الصين الجنوبي، مُؤكداً استعداد الصين للعمل مع دول رابطة جنوب شرق آسيا "الآسيان"، لتسريع المشاورات حول مدونة السلوك، والتي تجري دول "الآسيان" مفاوضات بشأنها مع الصين، بهدف تهدئة التوتر في بحر الصين الجنوبي، وكذلك السعي للتوصل إلى اتفاق في أقرب وقت بشأن وضع قواعد إقليمية تتسق مع القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة بشأن قانون البحار. وقد قوبلت هذه الرغبة من جانب الصين، بالتأييد من قبل سنغافورة، التي أبدى رئيس وزرائها، لي هسين لونغ، خلال لقائه بوانغ يي، دعم بلاده لدور "الآسيان" في تعميق التعاون مع الصين والحفاظ بشكل مشترك على السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة. كما طالب وانغ يي، خلال الجولة، الفلبين بضرورة التعاون مع الصين لنزع فتيل التوتر في بحر الصين الجنوبي، مُشيراً إلى استعداد بلاده لتسوية الخلافات مع الفلبين عبر الحوار بين البلدين. 

3. اتهام واشنطن بإشعال الأزمات في المنطقة: انتقد وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، الولايات المتحدة الأمريكية بسبب قمعها الدول الناشئة، واصفاً واشنطن بأنها "أكبر مصدر لعدم الاستقرار في العالم"، مُتهماً إياها بالتواطؤ مع بعض القوى الإقليمية لإثارة الفوضى والخلاف في بحر الصين الجنوبي، عبر استغلال مسألة قيام الفلبين أخيراً بالنقل غير القانوني لمواد بناء إلى منطقة ريف ريناي، وهي جزء من جزيرة نانشا الصينية، لإشعال أزمة بين الصين والفلبين، وتأجيج المواجهة وتعريض السلام والهدوء في بحر الصين الجنوبي للخطر، في محاولة لخدمة أهدافها الجيوسياسية، وفقاً لرؤية وانغ يي.

4. دعم الحكومة الجديدة في كمبوديا: مثّلت زيارة وزير الخارجية الصيني إلى كمبوديا، دعماً للحكومة الجديدة في بنوم بنه، في مواجهة الانتقادات الغربية للانتخابات العامة التي جرت أخيراً، إذ وصفها وانغ يي بأنها "انتصار كبير"، كما أكد نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية المكلف سوك تشيندا سوفيا، أن "زيارة وانغ تأتي في وقتها وتمثل دعماً قوياً لكمبوديا". ومن جانبه، أبدى وانغ استعداد الصين لتعزيز التضامن والتعاون مع كمبوديا، في إطار التعاون الثنائي "السداسي الماسي"، الذي يغطي مجالات السياسة، والقدرة الإنتاجية، والزراعة، والطاقة، والأمن، والتبادلات الشعبية.

قيود إقليمية ودولية:

ثّمة قيود وعقبات تقف أمام محاولات بكين تهدئة التوترات في منطقة بحر الصين الجنوبي، ويمكن استعراض أبرزها على النحو التالي:

1. توتر علاقات الصين مع "الآسيان": رغم ارتباط بكين بعلاقات قوية مع دول جنوب شرق آسيا، بالنظر إلى كونها أكبر شريك تجاري لها، فإن هذه العلاقات يشوبها التوتر، بسبب إصرار الصين على المطالبة بالسيادة على بحر الصين الجنوبي، وهو موقف يتعارض مع مطالبات باقي دول المنطقة، ومنها إندونيسيا وبروناي وفيتنام والفلبين وماليزيا. ويؤشر ذلك الأمر على أن محاولات التوصل إلى حل توافقي بين الصين ودول "الآسيان" بشأن مدونة سلوك الأطراف في بحر الصين الجنوبي، قد تجد بعض المعوقات، فضلاً عن تصعيد التوتر الجيوسياسي في منطقة "الآسيان" على خلفية تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين في المنطقة.

2. محاولات الصين تكريس الأمر الواقع: يُعد توجه الصين نحو فرض الأمر الواقع في منطقة بحر الصين الجنوبي، أحد القيود الرئيسية التي قد تعرقل جهودها لتهدئة التوترات في المنطقة، ويؤكد ذلك رفضها وعدم اعترافها بحكم التحكيم الدولي الصادر في عام 2016، لصالح الفلبين. فضلاً عن قيامها ببناء جزر عسكرية صناعية في بحر الصين الجنوبي. وهو ما يعني أن ممارسات بكين تعتبر أحد مسببات التوتر في المنطقة، حيث تهدف الصين على ما يبدو إلى إجبار الدول الأخرى التي لها مطالبات بالسيادة في بحر الصين الجنوبي على الرضوخ لها في نهاية المطاف.

3. استمرار الخلاف الصيني  الفلبيني حول الجُزُر المُتنازع عليها: تصر الفلبين على التمسك المطلق بسيادتها على جزيرة سيكند توماس المتنازع عليها مع الصين، إذ صرّح الناطق باسم مجلس الأمن القومي الفلبيني جوناثان مالايا، في 7 أغسطس 2023، بأن مانيلا «لن تتخلى أبداً» عن تلك الجزيرة، ويؤشر هذا الموقف على استمرار التصعيد بين الجانبين، وهو الأمر الذي قد يُنذر بتكرار الحوادث البحرية بين قوات البلدين في بحر الصين الجنوبي، والذي قد يتطور إلى الأسوأ، ولاسيما مع تبني الولايات المتحدة لموقف مانيلا في خلافاتها مع بكين. 

4. مواصلة عسكرة المناطق البحرية: حذّرت ماليزيا، التي تُعد إحدى الدول التي تتنازع على السيادة في بحر الصين الجنوبي، على لسان رئيس وزرائها أنور إبراهيم، في 10 أغسطس 2023، من تداعيات ما قد يترتب على ما وصفها بالأنشطة غير القانونية و"عسكرة المناطق البحرية"، وذلك في إشارة ضمنية إلى الصين، من انعكاسات خطرة على الأمن والاستقرار في منطقة جنوب شرق آسيا. ومع ذلك، أشار إلى وقوف بلاده على الحياد في الصراع المتصاعد في بحر الصين الجنوبي بين الولايات المتحدة والصين. وهو ما يمكن تفسيره بإدراك كوالالمبور لأهمية العلاقات الاقتصادية والتجارية القوية التي تربطها مع بكين، وحرصها على عدم المخاطرة بإغضاب الصين، بإعلانها حيادها من جهة، وكذلك إبقاء المجال مفتوحاً أمام إمكانية التوصل إلى توافق مع بكين بشأن تسوية خلافاتهما في بحر الصين الجنوبي من جهة أخرى.

وفي التقدير، يمكن القول إن جولة وزير الخارجية الصيني الأخيرة في جنوب شرق آسيا، تؤكد محورية تلك المنطقة في مجالات اهتمام السياسة الخارجية الصينية، باعتبارها تمثل الفناء الخلفي للصين، وقد جاءت في خضم سياقات يشوبها التوتر والخلافات مع بعض دول "الآسيان"، في محاولة من جانب بكين لإظهار الحرص على منح الأولوية للقنوات الدبلوماسية واللجوء إلى الحوار كأسلوب لتهدئة التوترات في منطقة بحر الصين الجنوبي، بما يقلص من تأثير التحركات الأمريكية لتأجيج الأزمات في المنطقة وتطويقها. ومع ذلك، فإن هذه الفرص تواجه بالعديد من العقبات والتحديات التي ربما تقلل من احتمالات إمكانية نجاح بكين في تهدئة الأوضاع في بحر الصين الجنوبي.