الردع المبكر:

مراجعة استراتيجية الدفاع لأستراليا.. توازن أم تهديد للصين؟

02 May 2023


أعلنت أستراليا، في 24 إبريل 2023، عن مراجعة جديدة لاستراتيجيتها الدفاعية، تضمنت الكثير من الأمور التي تطال مختلف جوانب الدفاع، بما في ذلك نوعيات الأسلحة، وترتيبات القوات، والقواعد العسكرية، في ظل قناعة بأن الاستراتيجية الدفاعية التي اتُبعت على مدار عقود لم تعد كافية للحفاظ على الأمن القومي الأسترالي، مع وجود تغيرات كبيرة شهدتها البيئة المحيطة بالبلاد، وواقع دولي جديد آخذ في التشكل.

وفي هذا الصدد، قال وزير الدفاع الأسترالي، ريتشارد مارليس: "للمرة الأولى منذ 35 عاماً نعيد صياغة مهمة قوات الدفاع الأسترالية"، حيث إن الاستراتيجية القائمة منذ عقود على حماية الأراضي "لم تعد تفي بالمطلوب"، مؤكداً أنه في مواجهة الصين التي باتت أكثر قوة وطموحاً، ستحول أستراليا تركيزها إلى "ردع الأعداء" قبل أن يصلوا إلى حدودها سواءً في البحر أو الجو أو الفضاء الإلكتروني.

وبالتالي تبقى تساؤلات من قبيل ما الذي دفع أستراليا لإعادة النظر في استراتيجيتها الدفاعية؟ وما أبرز ملامح التغيير في هذه الاستراتيجية؟ وما الذي يمكن أن يترتب عليها من تداعيات؟

دوافع المراجعة:

أوضحت وثيقة المراجعة الأسترالية، الدوافع التي جعلت من الضروري إدخال تعديلات على استراتيجيتها الدفاعية. وبعض من هذه الدوافع مرتبط بتراجع تأثير الموقع الجغرافي كأحد عوامل الحماية، وبأنماط التسلح خاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وأيضاً بوضعية الحليف الأمريكي. وتتضح أهم هذه الدوافع في الآتي:

1- ارتفاع مستوى المخاطر: مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت أستراليا بعيدة عن مركز الثقل الاستراتيجي في أوروبا ونصف الكرة الشمالي. وحتى عندما نشبت بعض الصراعات في القارة الآسيوية بالقرب من أستراليا في سنوات لاحقة، ظلت المخاطر محدودة بالنسبة لها. أما الآن ومع انتقال مركز الثقل الدولي إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فإن أستراليا ترى أن أمنها القومي بات أكثر تهديداً، ومن ثم، وعلى حد قول وزير الدفاع، مارليس، فإن الاستراتيجية الدفاعية الممتدة على مدار عقود لم تعد كافية.

2- انتقال مركز الثقل الاستراتيجي العالمي إلى المنطقة القريبة من أستراليا: لا يرجع هذا الانتقال إلى أسباب اقتصادية فقط، في ظل طفرات النمو والتنمية التي شهدتها دول شرقي آسيا وعلى رأسها الصين، والتي باتت تناطح الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما لأسباب عسكرية أيضاً؛ فقد ظهر اتجاه لتخصيص موارد أكثر للميزانيات العسكرية، وفي بعض الأحيان بدرجة أقل من الشفافية كما هو الحال بالنسبة للصين. وتكاد تتطابق الرؤية الاستراتيجية بالنسبة للتحديث العسكري الصيني مع رؤية كل من الولايات المتحدة واليابان. ومن المنظور الأسترالي، لم تعد الولايات المتحدة القطب الأوحد، كما أن الصين باتت مهدداً للنظام الدولي القائم على القواعد، ومن تجليات ذلك بسط سيطرتها على بحر الصين الجنوبي. ولا يقف التخوف الأسترالي من الصين عند هذا الحد، وإنما هناك تخوف من تمددها تجاه الدول الجزرية جنوبي المحيط الهادئ.

3- المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين: تفرض هذه المنافسة تحديات غير مسبوقة لأستراليا، خاصة إذا ما نشب صراع مسلح. ولم يعد هذا الاحتمال مستبعداً كلية في ظل وجود أكثر من نقطة توتر بين الجانبين الأمريكي والصيني، أبرزها تايوان، وكذلك في ظل وصول درجات التصعيد إلى مستويات غير مسبوقة. كما أنه لا يمكن الفصل بين ما يجري في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والتطورات في مناطق العالم المختلفة، ومن ثم طبيعة علاقات المتنافسين الرئيسيين (واشنطن وبكين) بأطراف أخرى مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا؛ التي أصبحت العلاقات معها معقدة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية.

4- عدم وجود هيكل أمني إقليمي راسخ: مثل هذا الوضع، وفي ظل هذا الحراك القوي اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، يزيد من فرص حدوث احتكاكات وصراعات، طالما لا توجد مثل هذه الهياكل الأمنية الراسخة للتعامل مع القضايا الساخنة. فحتى لو كانت الأطراف غير راغبة في نشوب الصراعات، فإنها يمكن أن تحدث بسبب سوء التقدير، والإدراكات المتعارضة، خاصة في وقت يتزايد فيه التلويح باستخدام الأسلحة غير التقليدية بما فيها النووية. وبما أن أستراليا تقع عند مفترق طرق منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فإن ذلك يجعلها تحت تهديدات استراتيجية وصفت بغير المسبوقة.

5- تضاؤل وقت التحذير الاستراتيجي: في ظل التطورات التكنولوجية التي شهدها المجال العسكري، وآليات الحرب السيبرانية، لم يعد التعويل على عامل الوقت كبيراً حتى يصل التهديد المباشر إلى الدولة كما كان في السابق.

6- تحديات التغير المناخي: تنطلق المراجعة الأسترالية من اعتبار التغيرات المناخية قضية أمن قومي، وأنها سوف تفرض تحديات متزايدة في الداخل والخارج على السواء، في ظل الحاجة للتعامل بكفاءة مع الكوارث الطبيعية، وتقديم المساعدات بخصوصها. كما أن التغيرات المناخية يمكن أن تزيد من معدلات الهجرة الجماعية. وكما هو معلوم، فإنه في حالة الكوارث الطبيعية خاصة الضخمة، تزداد الحاجة إلى القدرات العسكرية حتى على الصعيد الداخلي، وكل هذا يحتاج إلى تأهيل وتدريب وموارد وتنسيق مع الحكومات المحلية أيضاً.

مواجهة التهديدات:

تستدعي عناصر التهديد سالفة الذكر تعاملاً مختلفاً من أستراليا على الصعيدين الداخلي والخارجي، وذلك على النحو التالي:

1- وجود استراتيجية وطنية شاملة: هذه الاستراتيجية لا تقف فقط عند الجوانب العسكرية، وإنما تتضمن مختلف جوانب العمل، وتشارك فيها جميع الأجهزة. وفي إطارها، تتم تعبئة كل الموارد الوطنية من أجل الحفاظ على سيادة البلاد واستقرارها وأمنها القومي ورغد العيش لمواطنيها.

2- إعادة النظر في المفهوم التقليدي للدفاع عن أستراليا: لم تعد مستويات التهديد منخفضة أو متوسطة بل باتت عالية؛ بحكم أنها يمكن أن تأتي من قوى كبرى. ومن ثم فإن المفهوم الجديد يهدف إلى العمل على المحافظة على توازن قوى إقليمي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وكذلك تعزيز قدرات الردع، وزيادة المرونة الاستراتيجية، ورفع درجة الاستعداد العسكري الاستراتيجي، وتعزيز قدرات الصناعات الدفاعية الوطنية، والسعي لامتلاك التكنولوجيا العسكرية المتقدمة. وهذه العناصر وغيرها، تحتاج إلى استثمارات أكبر، مما يعني زيادة في الإنفاق العسكري. وهناك تفاصيل كثيرة تضمنتها الوثيقة الأسترالية بخصوص مختلف أنواع القوات البحرية والبرية والجوية من حيث القدرات المتاحة وما هو مطلوب من أجل رفع الكفاءة عند التعامل مع تحديات البيئة الاستراتيجية بما يضمن تحقيق أقصى درجات الأمن القومي، وبما يمثل رسالة حاسمة لأي تهديد خارجي، ويشمل ذلك أيضاً القدرات اللوجستية وعمليات الصيانة والتخزين والتصنيع.

3- تقوية التحالف مع واشنطن: إذا كان تحالف أستراليا مع الولايات المتحدة قد أدى دوراً مهما في السابق، فإن أهميته الآن تتزايد، ومن ثم فإن تقوية هذا التحالف تُعد من متطلبات المحافظة على الأمن القومي الأسترالي.

4- زيادة الشراكات الأمنية مع الحلفاء: شرعت أستراليا، منذ سنوات، في نسج شبكة من العلاقات الأمنية مع بعض دول المنطقة، وعلى رأسها اليابان والهند. وكان للولايات المتحدة دور في تشجيع هذه الشراكات، وأخيراً باتت واشنطن طرفاً في شراكات أمنية تضم أستراليا وهذه الدول، والمثال الأبرز هو تحالف "كواد" الذي يضم الولايات المتحدة وأستراليا واليابان والهند. كما أن أستراليا دخلت مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في شراكة أمنية أخرى تعرف اختصاراً بـ "أوكوس"؛ تقوم على دعم المصالح الأمنية والدفاعية للدول الثلاث.

ومن الأمور اللافتة في المراجعة الأسترالية أيضاً، الاهتمام بإقامة شراكات أمنية مع دول جنوب شرقي آسيا، وهي منطقة مجاورة للصين، وبينها وبين بكين نزاعات حول الحدود البحرية وملكية الجزر في بحر الصين الجنوبي. كما أن هناك سعياً لتفعيل ما أسمته الوثيقة بالدبلوماسية الدفاعية مع دول هذه المنطقة، والتي تتضمن إيفاد واستقبال عسكريين، وتوفير التدريب وبعض الموارد.

5- الترحيب بأدوار قوى من خارج المنطقة: لا يقتصر هذا الترحيب على الأدوار السياسية والاقتصادية، وإنما يتضمن كذلك الجوانب العسكرية. وفي هذا السياق، ترحب أستراليا بعلاقات أوثق مع دول الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي "الناتو".

6- الاهتمام أكثر بالمناطق الشمالية للبلاد: يتمثل ذلك في رفع كفاءة القواعد الموجودة بالفعل في المناطق الشمالية من أستراليا، وإنشاء قواعد جديدة، وتزويدها بأسلحة أحدث، ونظم استطلاع أكثر تقدماً، والربط بينها وبين المناطق الجنوبية للبلاد، بحيث يسهل تقديم الدعم للقواعد الشمالية. ويرجع الاهتمام أكثر بالمناطق الشمالية؛ نظراً لكونها الأقرب إلى الصين.

7- الانتقال إلى التسليح النوعي: لعل المثال الأبرز في هذا السياق، حيازة الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، فقد ألغت أستراليا صفقة ضخمة لحيازة غواصات فرنسية، قبل الدخول في عملية الحصول على مثل هذه الغواصات بالاستفادة من خبرات كل من واشنطن ولندن في هذا المجال. وتلك الغواصات سوف تكون من الأصول المهمة في القوة العسكرية الأسترالية، وستساعد في تنفيذ الاستراتيجية الدفاعية الجديدة، وسترفع من قدرات القيام بضربة عسكرية بعيدة المدى، وتزيد من كفاءة حرب الغواصات المضادة، أي أنها لن تكون مفيدة في الدفاع فقط، وإنما يمكن استخدامها في الهجوم إذا اقتضت الضرورة ذلك.

8- إعطاء اهتمام أكبر للجوانب المعلوماتية والتكنولوجية والسيبرانية: يهدف ذلك إلى رفع كفاءة القيادة والسيطرة والاتصالات الدفاعية، مع درجة تأمين أكثر ضد الاختراقات، وما يتطلبه ذلك من كفاءات عالية مدربة، مع الاستفادة من خبرات الدول الحليفة والصديقة، وتعزيز التعاون معها في هذا المجال.

9- تحديد توقيتات زمنية لإنجاز المهام: المقصود هنا أن يتم إنجاز الأولويات العاجلة لأستراليا حتى عام 2025، ومن ثم تأتي الأمور التي تحتاج إلى وقت أطول في الفترة من 2026 إلى 2030، ثم بداية من العام 2031 يكون قد تم ترسيخ القوة المتكاملة المطلوبة.


موقف الصين:

بعيداً عما ستفرضه تلك المراجعة الدفاعية من تغييرات والتزامات داخلية وإعادة ترتيب الأولويات وتوزيع الموارد بالنسبة لأستراليا، فإن لها تداعيات ترتبط بما يمكن تسميته قراءة أطراف خارجية لها. وبطبيعة الحال ليس المقصود هنا الأطراف المتحالفة مع كانبرا، فمن المنطقي أن تكون مرحبة بهذه المراجعة، لكن المقصود تلك الأطراف التي كانت من ضمن أسباب قيام أستراليا بالمراجعة، وتحديداً الصين التي لها مواقف معروفة سلفاً. 

فالصين ابتداءً تنكر ما يُوجه إليها من اتهامات بخصوص قدراتها العسكرية المتزايدة، وما يطالها من غموض تراه أستراليا وأطراف أخرى، كما أن بكين تؤكد أن الهدف مما تقوم به على الصعيد العسكري ليس استهداف الآخرين، وإنما حماية أمنها ومصالحها القومية في ظل ما تراه من تربص بها ومحاولات مستمرة للتدخل في شؤونها الداخلية. كذلك تعارض الصين ما تقوم به الولايات المتحدة على صعيد توثيق تحالفاتها العسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وإقامة شراكات أمنية جديدة بما فيها "كواد" و"أوكوس". وبالنسبة لمسألة الغواصات النووية، تراها الصين أمراً خطراً ليس فقط على الصعيد العسكري، وإنما أيضاً على صعيد النظام الدولي لمنع الانتشار النووي، حيث إنها تذهب إلى أن هذه الصفقة مع أستراليا تمثل انتهاكاً لقواعد هذا النظام، وهناك منازلة دبلوماسية فنية متواصلة بينها وبين الأطراف الثلاثة للصفقة في إطار الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول هذا الملف.

ختاماً، لقد سبقت المراجعة الدفاعية الأسترالية مراجعة أخرى يابانية وجاءت في ظل توترات متواصلة في شبه الجزيرة الكورية، وزيادة حدة التصعيد حول تايوان. ويبدو من الصعب الجزم بما إذا كانت مثل هذه الأجواء من شأنها تحقيق الاستقرار لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ في ظل توازنات جديدة للقوى أم أن سباق التسلح وتباعد الرؤى يمكن أن يدخل هذه المنطقة في أتون صراعات مسلحة؟