هواجس متبادلة:

أبعاد تعثر العلاقات الروسية - الخليجية

15 December 2014


في نوفمبر الماضي، وقع حدثان يؤشران بقوة إلى مدى التعقيدات التي تواجه إمكانية تطوير العلاقات بين روسيا ودول الخليج العربية على نحو بناء ومستدام.

الحدث الأول هو أن زيارة وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، إلى موسكو يوم 21 نوفمبر، لم تسفر عن حدوث "تفاهمات" واضحة بين موسكو والرياض بشأن الأزمة السورية، أو التعاون والتنسيق بشأن أسعار النفط. وبالمقابل استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم 26 نوفمبر، وللمرة الأولى منذ بداية الأزمة السورية، وفداً حكومياً سورياً برئاسة وزير الخارجية السوري وليد المعلم. هذا علاوة على تصريحات بوتين في 23 نوفمبر، والتي لم يستبعد فيها أن يكون تخفيض أسعار النفط العالمية يجري بشكل متعمد من قبل شركاء روسيا في سوق الطاقة، حيث قال: "إذا ما تراجع سعر الطاقة عمداً، فإن ذلك سيؤثر أيضاً على من يقفون وراء ذلك".

الحدث الثاني هو الخبر الذي نشرته صحيفة "كوميرسانت" الروسية، في 24 نوفمبر، والتي تفيد بأن السلطات القطرية ترفض على نحو متزايد منح المواطنين الروس تأشيرات دخول إلى أراضيها، إذ تُعد قطر نقطة ترانزيت مثالية على طريق المواطنين الروس المسافرين إلى منطقة الخليج وبلدان آسيا وأفريقيا؛ وهو ما يعد انعكاساً للتوتر القائم ما بين الدوحة وموسكو بسبب الأزمة السورية، حيث تطالب قطر بشدة بإزاحة بشار الأسد وتمول بعض المجموعات المعارضة، وبسبب المنافسة في أسواق الغاز العالمية، إذ تتنافس روسيا بحدة مع قطر في أسواق الغاز. وعلى سبيل المثال، فإن توقيع العقد الروسي - الصيني الضخم في قطاع الغاز يؤثر على توريدات الغاز القطري المسال التي كانت تبغي الدوحة ضخه إلى السوق الصينية.

خلفية العلاقات الروسية - الخليجية

يعود الاهتمام الروسي بمنطقة الخليج إلى عهد روسيا القيصرية خلال القرن التاسع عشر، الذي برز خلاله ما عُرف بنظرية "العظمة"، التي صاغها العالم الجغرافي البريطاني الشهير "هالفـورد ماكندر" عام 1904، في كتابه الشهير "المحيط الجغرافي للتاريخ"، والتي يمكن تلخيصها في متوالية سببية كالتالي: "من يحكم شرق أوروبا يحكم قلب الأرض ""Heartland (أوراسيا)، ومن يحكم الأخـير يحـكم جزيـرة الـعالم وبالتـالي يحكـم العالـم كله".

وكانت محاولات وطموحات التوسع الروسي باتجاه وسط آسيا طوال القرن الثامن عشر تحمل حلماً روسياً بالوصول إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي والخليج، لكنها باءت بالفشل، إذ تصدت الإمبراطورية البريطانية في شبه القارة الهندية والخليج لهذا التوسع، وكانت أفغانستان هي الدولة العازلة "Buffer State" بين الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.

وبعد الحرب العالمية الثانية، نشبت الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة، والشيوعي بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق؛ حيث بدأت واشنطن سياسة الاحتواء، التي تصدت، ضمن أمور أخرى، لمحاولات التمدد السوفييتي باتجاه المياه الدافئة، ومثلت منطقة الخليج الجناح الجنوبي للحزام الشمالي، الذي أقامه الغرب لصد السوفييت ومواجهة الشيوعية في المنطقة. وفي هذه المواجهة انحازت دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، إلى جانب الولايات المتحدة والغرب، على الرغم من أن الاتحاد السوفييتي السابق كان من أوائل الدول التي اعترفت بتأسيس المملكة على يد الملك عبدالعزيز آل سعود، وأقام معها علاقات دبلوماسية في فبراير عام 1926، ولكنها قُطعت عام 1938، وخلال الحرب الباردة اتهم السعوديون الروس بدعم النظم الثورية والراديكالية العربية في مواجهة النظم المحافظة والمعتدلة.

واصطدم السوفييت والسعوديون في ساحات إقليمية عدة (اليمن وظفار)، غير أن المواجهة الأعنف كانت في الثمانينيات حين مولت الرياض حرب "الجهاد الإسلامي" ضد "الإلحاد الشيوعي" في أفغانستان بعد غزو الاتحاد السوفييتي السابق لها في نهاية عام 1979، اصطفافاً مع تحالف غربي بزعامة الولايات المتحدة لإخراج السوفييت من هناك. وكانت الكويت الدولة الخليجية الوحيدة التي احتفظت بعلاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي السابق منذ استقلالها عن بريطانيا منذ أوائل ستينيات القرن الماضي.

وعقب انتهاء الحرب الباردة، تنبأ كثيرون بمرحلة جديدة من العلاقات بين موسكو والرياض، لكن تراكمات "الحرب الباردة" وتركتها الثقيلة واتهامات روسيا للسعودية بدعم التمرد الشيشاني للانفصال عن روسيا، ودعم الجماعات الإسلامية المتطرفة في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز، وانشغال كل من الجانبين الروسي والخليجي بشواغله الخاصة. فالروس كانوا منشغلين بترتيب أوضاعهم في الداخل و"الجوار القريب"، وترتيب علاقاتهم مع الغرب في الخارج. وفي المقابل كانت دول الخليج منشغلة بترتيب أوضاعها ومعالجة تداعيات كارثة غزو العراق للكويت وحرب الخليج الثانية عام 1991، فكلها كانت عوامل كافية للقول إن العلاقات بين الجانبين تفتقد للدفء والثقة والإرادة السياسية لترتقي إلى مستوى العلاقات الطبيعية.

حوافز التقارب الروسي - الخليجي

مع بداية الألفية الثالثة توصلت روسيا ودول الخليج إلى قناعة مؤداها أنه حان الوقت لبداية جديدة للعلاقات بين الجانبين، خاصة على المستويين الاقتصادي والعسكري، وعدم السماح للخلافات السياسية بعرقلة التعاون في هذه المجالات. ففي 17 سبتمبر  2003، زار ولي العهد السعودي آنذاك، الأمير عبدالله، موسكو. وفي 2007، زار فلاديمير بوتين السعودية. وعلى هذه الخلفية، بدأت تنمو التجارة، وحصلت الشركات الروسية على عدد من العقود، خاصة في مجال النفط والغاز، حتى إن البلدين ناقشا إمكانية تزويد المملكة بدفعة ضخمة من الدبابات والمروحيات ومنظومات الدفاع الجوي.

وجرى هذا التطور على خلفية عدد من الحقائق والمستجدات السياسية على الجانبين الخليجي والروسي:

فعلي الجانب الخليجي، هناك أولاً الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على كافة دول المنطقة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ما دفع دول الخليج إلى البحث عن حلفاء دوليين آخرين لمواجهة هذه الضغوط وتوسيع خياراتهم السياسية والعسكرية، ومواصلة التفكير الجدي في استنباط آلية للأمن الجماعي تستوعب مجموعة من الأطراف الدولية الفاعلة في إطار ما يسمى "عولمة الأمن الخليجي" كصيغة جديدة للبحث عن بدائل وخيارات بديلة للأمن الأمريكي، خاصة بعد التقارب الأمريكي - الإيراني بشأن تسوية الملف النووي، منذ نوفمبر 2013.

وهناك ثانياً، ما يمكن أن نطلق عليه تشكل تحالف (4+2)، والذي يضم مصر والسعودية والإمارات والبحرين والكويت والأردن، بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، فنظراً لتبني واشنطن سياسة رافضة لدعم التغيير الذي فرضته ثورة 30 يونيو 2013 في مصر، فإن دول هذا التحالف وجدت دعماً، ولو معنوياً، من روسيا، خاصة أنها تحفظت منذ البداية على أي صعود سياسي لجماعة الإخوان المسلمين، في مصر وغيرها من الدول، وظلت محتفظة بتصنيفها كـ"جماعة إرهابية" على قوائمها الخاصة، وبالتالي أصبحت روسيا داعماً خلفياً لهذا التحالف الإقليمي، ومثلت ما يشبه "العازل" الذي يقلص حدة الضغوط التي تمارسها واشنطن ضده.

أما على الجانب الروسي، فثمة عاملان استراتيجيان يفسران اهتمام روسيا المتزايد بمنطقة الخليج الحيوية، خاصة منذ صعود بوتين للسلطة أوائل عام 2000، أولهما أن إعادة بروز دور روسيا كقوة عظمى تفرض على موسكو ضرورة إظهار ثقلها على المسرح الدولي، وثانيهما أن الأوضاع الأمنية في الشرق الأوسط وتداعياتها قد تضر منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وربما روسيا نفسها.

مجالات التعاون الروسي - الخليجي

في المجال الاقتصادي، يمثل قطاع الطاقة أحد المجالات الأساسية التي تتلاقى فيها المصالح الخليجية والروسية، إذ تدرك دول الخليج أن روسيا، بوصفها أكبر منتج للنفط خارج منظمة "أوبك"، وأكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم، لديها تأثير كبير في أسواق الطاقة العالمية. وتنظر روسيا إلى دول الخليج، لاسيما السعودية، كحليف لها في سوق الطاقة العالمية، وليس منافسة أحدهما للآخر. ويتم التنسيق والتعاون بين روسيا والدول العربية في مجال الطاقة في إطار محورين أساسيين، أولهما: الحفاظ على استقرار السوق النفطية وضمان حد أدنى لأسعار النفط، وذلك من خلال التحكم في حجم الإنتاج، خاصة أن روسيا تشارك في اجتماعات "أوبك" كمراقب، وثانيهما: استثمارات شركات النفط الروسية في قطاع النفط والغاز الخليجي، من خلال المشاركة في عمليات البحث والتنقيب وتطوير الإنتاج. وقد شكل إنشاء "منتدى الغاز" للدول المصدرة للغاز عام 2008، مع قطر التي تُعد ثالث أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا وإيران، خطوة مهمة في هذا الاتجاه، بالنظر إلى أن نصف الاحتياطيات العالمية من الغاز الطبيعي توجد في دول منظمة "أوبك".

أما في مجال التعاون العسكري، فإنه في الوقت الذي تسعى فيه روسيا جاهدة لتنويع قاعدة عملائها في مجال مبيعات الأسلحة لتشمل دولاً أخرى غير الصين والهند، خاصة بعد أن فقدت أسواقها المهمة المتمثلة في سوريا والعراق وليبيا، ليس انطلاقاً من اعتبارات سياسية أو أيديولوجية، ولكن نظراً لما تمثله عوائدها من مورد مهم للدخل القومي؛ تسعى موسكو إلى فتح أسواق جديدة في الأردن ودول الخليج العربي، والتي تعد سوقاً تقليدية للولايات المتحدة والدول الغربية. كما أن دول الخليج أيضاً تبحث عن مصادر تسليح جديدة خارج إطار الدور الأمريكي في هذا الخصوص.

وفي هذا السياق، فإن إمكانية تزويد موسكو لدول الخليج بقدرات صاروخية ذات أهمية أمر له أولوية بالغة. فدول الخليج تحتاج إلى مثل القدرات قياساً على أنواع التسلح الأخرى الموجودة لديها. ويعود السبب الأساسي في ذلك إلى أن الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، تمتنع تقليدياً عن تزويد الشركاء في المنطقة العربية بقدرات صاروخية قوية خوفاً من استخدامها ضد إسرائيل لاحقاً. وحتى الآن، فإن أبعد صاروخ لدى دول المنطقة هو الصاروخ (CSS-2) الصيني الذي يبلغ مداه 2400 كيلومتر، وتمتلكه السعودية منذ عام 1988، وربما كان اقتناء هذا الصاروخ هو أحد الدروس التي خرجت بها دول المنطقة من الحرب العراقية - الإيرانية.

عقبات التقارب الروسي - الخليجي

ثمة مجموعة من العقبات لاتزال تحول دون تطوير العلاقات بين روسيا ودول الخليج. فعلى الصعيد السياسي، تعد كل من الأزمة السورية، والملف النووي الإيراني، أبرز أهم أوجه الخلاف الخليجي مع موسكو، ففي كلا الملفين تلعب روسيا دوراً أساسياً في تطوراتهما ومسارهما، ولا تقترب بشكل ما للرؤية الخليجية بشأنهما. ففي مسار الأزمة السورية، ترفض روسيا إطاحة الأسد بالقوة، وتقترح تسوية سياسية على أساس بيان جنيف الصادر في 30 يونيو 2012، أي من خلال حوار داخلي من دون شروط مسبقة وإملاءات خارجية. وفي مسار الملف النووي الإيراني، لم تكتفِ موسكو بدعم حق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية، وتزويدها بمفاعلات نووية جديدة، بل إن الرئيس الروسي بوتين طالب العاهل السعودي الملك عبدالله، خلاله اتصال هاتفي بينهما في 10 نوفمبر 2013، بأن تلعب السعودية دوراً دافعاً للجهود الدولية للتوصل إلى اتفاق مع طهران بشأن ملفها النووي، وعدم التفريط في فرصة التفاهم مع طهران لأن تداعيات الفشل سترتد سلباً على العالم، خاصة منطقة الخليج.

وعلى صعيد التعاون في مجال الطاقة، فإن ثمة ثلاثة  تحديات تواجه علاقات الخليج وروسيا، يتمثل أولها في محدودية مستوى تكنولوجيا صناعة النفط الروسية، قياساً بنظيراتها لدى شركات النفط العالمية. أما ثانيها فهو المقاربة التي اعتمدتها الشركات الروسية لنشاطها في المنطقة، حيث لجأت هذه الشركات لتمويل استثماراتها من البنوك المحلية، بدلاً من اعتمادها على رأس المال الروسي.

أما التحدي الثالث، والمستجد، فهو التنسيق بشأن أسعار النفط، فروسيا تثير هواجس ربما لا أساس لها من الصحة حول وجود تفاهمات أمريكية سعودية منذ مارس الماضي لخفض أسعار النفط من أجل معاقبة روسيا على موقفها من الأزمتين السورية والأوكرانية، وهو ما لا توجد أي مؤشرات على صحته، على الأقل لأن السعودية وكافة مصدري النفط تضرروا كثيراً من هذا الخفض، كما أن البعض يردد أن السعودية تسعى للتعامل مع النفط الصخري الأمريكي؛ والتالي تنتفي أسباب الميل الروسي لتفسير تراجع أسعار النفط بأنه يعد "مؤامرة ضد روسيا"، خاصة في ظل عدم الاستجابة السعودية - الخليجية لدعوات خفض الإنتاج لرفع الأسعار، والتي تتبناها دول أخرى منتجة للنفط، وعلى رأسها روسيا وإيران وفنزويلا.

وعلى صعيد التعاون الأمني والعسكري بين روسيا ودول الخليج، فثمة تحدٍ يفرض نفسه، هو أن العلاقات الروسية ـ الخليجية لاتزال في طور التكوين، ولم تحظ بالدفء المطلوب أو الثقة المناسبة حتى الآن، بل هي غير واضحة المعالم بالنسبة لمستوى السقف الذي يمكن أن تصل إليه، في ضوء الارتباطات الراهنة لدول المنطقة، خاصة تلك القائمة مع الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا السياق يبدو لافتاً رفض الروس تزويد مصر بصواريخ روسية بالستية متوسطة المدى تستطيع إصابة العمق الإيراني، بدعوى اتفاقهم مع الأمريكيين على رفض بيعها لبلدان عدة في الشرق الأوسط والعالم، بعد توقيع معاهدة الحد من إنتاج وانتشار الصواريخ البالستية بين موسكو وواشنطن.

ومن ناحية ثانية، فإن إعلان السعودية أنها تستطيع المساعدة في مواجهة الإسلام المتطرف في روسيا الفيدرالية، قد فهمته بعض الدوائر في موسكو بأنه قد يحمل تهديداً مبطناً من جانب الرياض التي يمكن أن تساعد المتطرفين، في مناطق روسية مختلفة، كداغستان والشيشان ومناطق الفولجا، بصورة مباشرة أو عبر صناديق خيرية، إذا لم تتراجع موسكو عن مواقفها، في سوريا على سبيل المثال. وفي المقابل، فإن تعاون روسيا مع إيران يُفهَم سعودياً على أنه وسيلة ضغط روسية على المملكة.