هسبريس:

هل تنجح روسيا بتدويل الروبل في مواجهة هيمنة الدولار على التجارة الدولية؟

21 September 2022


تسعى روسيا بشكل بارز منذ ضمها شبه جزيرة القرم في عام 2014، لمواجهة “الهيمنة الدولارية”، حيث تدرك موسكو الأهمية القصوى للحد من اعتمادها الزائد على الدولار في المعاملات الاقتصادية والتجارية مع العالم، من حيث حماية سيادتها النقدية، وتخفيف مخاطر العقوبات الأمريكية والأوروبية على اقتصادها، خاصةً تلك التي تحد من قدرتها على الوصول إلى النظام المالي العالمي.

وتبلورت توجهات موسكو في هذا الشأن من جديد عقب اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022، حيث سعى الغرب لتضييق الخناق الاقتصادي عليها عبر فرض سلسلة واسعة من العقوبات تستهدف بالأساس إحكام عزلتها الدولية. ولهذا اتخذت الحكومة الروسية خطوات أكثر جدية للحد من استخدام الدولار في معاملاتها الدولية، مقابل زيادة استخدام الروبل الروسي والعملات الأخرى. وكان آخر هذه الخطوات إعلان مجموعة “غازبروم” الروسية، في 6 سبتمبر 2022، أن الصين ستبدأ تسديد ثمن شحنات الغاز الروسي بالروبل واليوان بدلاً من الدولار.

مواجهة الدولار:

ارتكزت الجهود الروسية الساعية للحد من انكشاف اقتصادها على الدولار الأمريكي، على ثلاثة جوانب رئيسية، وهي كالتالي:

1- خفض حصة الدولار من الاحتياطي النقدي الروسي واستبداله باليوان واليورو، ولهذا خفض البنك المركزي الروسي حجم الاحتياطيات النقدية المُقومة بالدولار بأكثر من النصف بين عامي 2013 و2020. فيما أعلن وزير المالية الروسي، في يوليو 2021، عن خطط للتخلص نهائياً من الأصول المقومة بالدولار في المحفظة الاستثمارية لصندوق الثروة السيادي الروسي.

2- خفض حصة الدولار في التجارة الروسية مع الدول الصديقة، وهو ما دفع موسكو إلى إبرام اتفاقيات متنوعة مع عدة حكومات أخرى لإعطاء الأولوية لاستخدام العملات المحلية في التجارة الثنائية.

3- الحد من اعتماد موسكو على البنية التحتية لنظام المدفوعات الدولية، حيث أنشأت روسيا نظام دفع إلكتروني محلي جديد يُسمى “مير” MIR، كما أطلقت في السنوات الماضية نظاماً لتبادل الرسائل بين البنوك يُطلق عليه “SPFS”، للعمل كبديل لنظام “سويفت” العالمي.

تحركات موسكو:

هناك عدد من المؤشرات التي تؤكد الخطة الروسية للتوسع في استخدام الروبل في التجارة الدولية، وأبرزها ما يلي:

1- الاعتماد على العملات المحلية في التبادل التجاري: سعت القيادة الروسية، وحتى قبل اندلاع الحرب الأوكرانية الحالية، للترويج إلى مبدأ الاعتماد على العملات المحلية في التجارة الثنائية مع الدول الأخرى، مدفوعة في ذلك بالتنافس الجيوسياسي مع الولايات المتحدة، وعلى نحو أسفر عن انخفاض حصة الدولار في التجارة الروسية من 67% في عام 2018 إلى 56% في عام 2020، مع زيادة حصة اليورو من 17% إلى 27%، والروبل من 13.6% إلى 14.7% خلال الفترة ذاتها، حسب تقديرات البنك المركزي الروسي.

علاوة على ذلك، زادت روسيا حصة الروبل في علاقاتها التجارية مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي من 54% في عام 2013 إلى 70% في عام 2019، وفقاً لمركز التصدير الروسي الحكومي (The Russian Export Center).

ومع تصاعد العقوبات الغربية الأخيرة ضد روسيا، أعلنت دول مثل أرمينيا وإيران وتركيا عن نيتها لتبني آلية سداد للسماح باستخدام الروبل الروسي في التبادل التجاري مع موسكو؛ بهدف تعزيز علاقاتهما التجارية، والالتفاف على العقوبات الغربية ضد روسيا.

2- الحد من ظاهرة “البترودولار”: تسعى روسيا لتعزيز الروبل كعملة مُعتمدة لتسوية مبادلات الطاقة الدولية، وأصدرت موسكو مرسوماً في مارس 2022 يقضي ببيع الغاز والنفط الروسي إلى “الدول غير الصديقة”، وفقاً للتعبير الروسي، بالروبل بدلاً من الدولار واليورو، وهو شرط أساسي لاستمرار عقود الغاز مع تلك الدول.

وبموجب تلك الآلية، سيقوم العملاء بفتح حسابين بنكيين لدى “غازبروم بنك” Gazprombank، أحدهما بالعملة الأجنبية، والآخر بالعملة الروسية، على أن يودع مستوردو الغاز الأوروبيين اليورو في حساب العملة الأجنبية، ثم يقوم “غازبروم بنك” بتحويل تلك العملات إلى الروبل من خلال سوق الصرف، وإرسالها بعد ذلك إلى حساب مستورد الغاز المقوم بالروبل. وتعطي تلك الآلية سلطة تقديرية للسلطات الروسية في تسعير الغاز، علاوة على نقل مخاطر سعر الصرف للعملاء.

وقد نفذ الرئيس فلاديمير بوتين تهديداته بشأن وقف تدفقات الغاز إلى الدول التي ترفض الامتثال لتلك الآلية، مثل بولندا وبلغاريا وهولندا وفنلندا والدنمارك ولاتفيا، والتي رفضت الدفع بالروبل مقابل الحصول على الغاز، وهذا ما رفع أسعار الغاز إلى مستويات قياسية، وفاقم أزمة الطاقة التي تعانيها القارة الأوروبية.

وبخلاف العملاء الأوروبيين، اتفقت موسكو أيضاً مع كبار مشتري الغاز الروسي الآخرين مثل الصين وتركيا على تسوية مباشرة لجزء من مدفوعات مستحقات الصادرات بالروبل واليوان الصيني، وبذلك تتحول روسيا تدريجياً نحو تسوية مبادلات الطاقة الخارجية من خلال عملات أخرى بخلاف الدولار واليورو.

3- السعي لإدراج عملات جديدة في الاحتياطي النقدي العالمي: حاولت روسيا على مدار السنوات السابقة إدراج عملتها ضمن العملات الرئيسية في الاحتياطيات النقدية العالمية، حيث اقترحت منذ أكثر من عقد تنويع قائمة العملات في سلة حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي وعملات الاحتياطي النقدي العالمي عن طريق إدراج عملات دول البريكس، والروبل تحديداً، ضمنها. بيد أن ذلك المقترح قُوبل بالرفض من قِبل صندوق النقد الدولي بسبب عدم قدرة العملة الروسية على تلبية الطلب الهائل على العملات.

دوافع رئيسية:

تتنوع الدوافع وراء سعي موسكو لتدويل عملتها “الروبل” في التجارة الدولية، وهو ما يُمكن استعراضه على النحو الآتي:

1- دعم قيمة العملة المحلية: فقد الروبل الروسي حوالي 70% من قيمته مقابل الدولار الأمريكي منذ بداية الحرب الأوكرانية حتى مطلع شهر مارس الماضي، حيث تراجعت قيمته من حوالي 80 روبلاً للدولار الواحد في 23 فبراير 2022 ليلامس مستويات منخفضة بحلول 7 مارس الماضي عند 139 روبلاً لكل دولار. ولكن لم يستمر الوضع على هذا الانخفاض، حيث استطاع الروبل أن يصبح العملة الأفضل أداءً في العالم هذا العام، مُسجلاً مستويات أفضل من قبل الحرب، ليصل إلى نحو 60.55 روبل لكل دولار.

ويرجع انخفاض سعر الصرف الروبل في بداية الحرب الأوكرانية إلى العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على موسكو، والتي تمثل أبرزها في تجميد أصول البنك المركزي الروسي لدى دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وعزل بعض البنوك الروسية عن نظام “سويفت” العالمي. لكن سرعان ما اتخذت السلطات الروسية خطوات مكثفة لدعم عملتها، مثل قرار بيع الغاز بالروبل، وربط الروبل بالذهب؛ بهدف التأكيد على مكانة روسيا كقوة كبرى لديها القدرة على التأثير في النظام المالي العالمي.

2- مواجهة العقوبات الغربية: استخدمت الولايات المتحدة الدولار كسلاح (Dollar Weaponizing) رداً على العمليات العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية؛ وذلك عن طريق فرض حزمة من العقوبات الاقتصادية التي تستهدف تقويض قدرة موسكو على الوصول إلى العملات الأجنبية خاصةً الدولار، وهو ما دفع بوتين للبحث عن حلول وأدوات لمواجهة العقوبات الغربية والتقليل من تأثيرها على الاقتصاد الروسي. وفي هذا الصدد، يُنظر إلى تدويل الروبل باعتباره من الأدوات المُتاحة أمام القيادة الروسية للتحايل على تلك العقوبات والتخفيف من حدة ارتداداتها السلبية.

3- ضمان استمرار تسوية المعاملات التجارية: يعكس اتجاه روسيا لزيادة الاعتماد على العملات المحلية في تجارتها الثنائية مع شركائها، سعيها لتيسير حركة صادراتها ووارداتها وتسهيل معاملاتها الاقتصادية والتجارية مع باقي دول العالم، وسط العقوبات الغربية بقيادة الولايات المتحدة على موسكو. وهذا ما يعزز استقرار ميزان المدفوعات الروسي، ويقوض قدرة الولايات المتحدة على توظيف النظام المالي العالمي لتحقيق أهدافها السياسية.

مُحددات النجاح:

يتوقف نجاح روسيا في سياسة تدويل الروبل، التي تحاول ترويجها منذ أعوام، على عدد من المُحددات المهمة، ويُمكن توضيحها من خلال النقاط التالية:

1- مكانة الروبل كعملة احتياطية عالمية: بالرغم من الجهود الحثيثة لروسيا لتنويع سلة العملات في الاحتياطي النقدي العالمي، فإن عملتها المحلية “الروبل” لم تستطع أن تحتل نسبة تُذكر من الاحتياطيات العالمية للعملات الأجنبية حتى الربع المُنتهي في مارس 2022. وحتى وإن ارتفعت مشتريات الدول الصديقة لموسكو من الروبل في المستقبل، فهذا لا يعني تحوله إلى عملة احتياطيات رئيسية لدى البنوك المركزية لتلك الدول.

ويُظهر الشكل التالي أن الروبل لم يصبح عملة احتياطية عالمية حتى الآن، حيث يُوضح أن الدولار يستحوذ على حوالي 58.88% من الاحتياطيات العالمية حتى الربع الأول من العام الجاري، مقابل نسبة تتجاوز 70% في أواخر التسعينيات، ومقارنةً بحصة اليورو التي تبلغ نحو 20.06%، ويأتي الين الياباني في المرتبة الثالثة بنسبة 6.36%.

2- مساهمة الروبل في نظام المدفوعات الدولية: يستحوذ الروبل الروسي على نسبة ضئيلة في المدفوعات الدولية، حيث تم استخدامه في حوالي 0.2% فقط من إجمالي المدفوعات التي تمت عبر نظام “السويفت” حتى ديسمبر 2021، مما يضعه في المرتبة العشرين بين العملات العالمية، ويسبقه في الترتيب كل من الكرونة الدنماركية، والزلوتي البولندي، والراند الجنوب أفريقي.

3- مدى اعتبار الروبل عملة ذات غرض انتقائي أم دولية: إن الاتفاقات التي تبرمها روسيا مع الدول المُرتبطة بها تجارياً لاستخدام العملات المحلية في معاملاتهما الثنائية، لا تعني سوى أن الروبل يُمكن استخدامه على نطاق محدود بين الدول ذات المصلحة فقط، وبالتالي ليس معنى ذلك أنه قابل للتدويل في المعاملات التجارية الدولية التي لا تكون روسيا طرفاً فيها. ويدلل على ذلك، ارتفاع حصة الروبل في التجارة الثنائية مع شركائها التجاريين مثل الصين، مقابل انحسار حصته في التجارة العالمية والاحتياطات الدولية.

الخلاصة مما سبق، أن الروبل لن يتمكن من أن يصبح عملة دولية في المستقبل القريب؛ نظراً لعدم قدرته على التنافس مع العملات المُهيمنة على الاقتصاد العالمي خاصةً الدولار الأمريكي، بيد أن العقوبات الأمريكية المُتصاعدة ضد بعض الدول، واستخدام الدولار كسلاح في هذا الشأن، قد تُحفزان العديد من الدول للسير على خُطى روسيا فيما يتعلق بتقليص الانكشاف على الدولار، وعلى نحو يدعم نشوء نظام مالي عالمي قائم على عملات أساسية متنوعة.

*لينك المقال في هسبريس*