الأوجه المتعددة لحرب المعلومات في أزمة أوكرانيا

21 March 2022


يبدو أن الحقيقة لا محل لها من الإعراب في الحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا، لذا فإن المعلومات تتعرض إلى بث متعدد المستويات بطريقة أعقد وأشمل مما عرفته الحروب منذ عصور ما قبل التاريخ. ومن هنا، فإن استدعاء أزمة الصواريخ الكوبية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في ستينيات القرن العشرين، كان كاشفاً عما جرى إخفاؤه، إذ سحبت الولايات المتحدة حينها صواريخ من تركيا في مقابل سحب السوفييت الصواريخ من كوبا، وهو ما جرى الإعلان عنه، في حين لم يُعلن عن الإجراء الأمريكي لأن هذا كان يمس القدرات والصورة الأمريكية في العالم، فاكتفى السوفييت بالإعلان عن تهديدهم الولايات المتحدة.

والحرب الجارية في أوكرانيا يوجد فيها المُعلن، والذي لا يُعلن عنه، والحقيقة لا يعلمها إلا دوائر مغلقة. وهذا يأتي في ظل تنامي مفهوم "حرب المعلومات" وتعقده، والذي يرى الخبير الأمريكي "مارتن ليبكي" أنه تندرج تحته؛ الحرب الإلكترونية، وحرب القيادة والسيطرة، وحرب قراصنة المعلومات، وحرب العمليات النفسية، وحرب المعلومات الاقتصادية، وحرب المعلومات الافتراضية. وهكذا، أصبحت حرب المعلومات متعددة المستويات والأهداف.

حرب المعلومات الهجومية:

إن أول خطوة اتخذتها روسيا في حرب أوكرانيا هي تدمير بنية الاتصالات للجيش الأوكراني، وتدمير جزء من شبكة المواصلات البرية التي تراها تمثل خطراً عليها، وبهدف شل قدرات القوات الأوكرانية على التواصل بفاعلية، وهو ما تم إخفاؤه من جانب كييف، مع عدم التركيز عليه من الجانب الروسي، حتى يصل إلى أهداف قد تتصل بتدمير بعض شبكات الاتصال الأوكرانية ذات الصبغة المدنية إذا لزم الأمر.

وما نجحت فيه روسيا عبر قدراتها في الحرب السيبرانية هو شل قدرات أوكرانيا في استغلال شبكة الإنترنت، فاستطاعت موسكو اختراق شبكات المعلومات الأوكرانية والهيمنة عليها بصورة نسبية، خاصة التي تعود للجيش الأوكراني، وبالتالي تمكنت من بناء رؤية دقيقة لبنية هذا الجيش وانتشاره وتسليحه، وهو ما يُسمى بـ "حرب المعلومات الهجومية،" مما أدى إلى تحرك دقيق وممنهج للجيش الروسي وجعله يتعامل مع نظيره الأوكراني بما يُمكن تسميته بـ "التعامل بالشوكة والسكينة"؛ أي قطع وحدات الجيش الأوكراني وكذلك المدن بعضها عن بعض، ثم تصفية القوات الوحدة تلو الأخرى، مع بث الرعب في المدن عبر القصف دون اقتحامها، ونشر معلومات يومية للأوكرانيين تسهم في رفع درجة الرعب لديهم من الحرب.

حرب المعلومات الدفاعية:

على جانب آخر، استخدم الأوكرانيون "حرب المعلومات الدفاعية"، بدءاً من الرئيس فولوديمير زيلينسكي الذي يبث رسائل من أماكن متعددة، منها الشوارع؛ لبناء الثقة لدى مواطنيه، ونشر تسريبات حول عدد الجنود الروس القتلى في المعارك، وكذلك بث معلومات مكثفة حول الضحايا من الأطفال الأوكرانيين لجذب تعاطف العالم. وفي الوقت الذي يبث فيه الأوروبيون والأمريكيون معلومات متدفقة حول دعم أوكرانيا بالأسلحة بصورة يومية، فإن مجريات الأحداث على الأرض لا تعكس وجود هذه الأسلحة التي تحتاج إلى تدريب وخطوط مواصلات مؤمنة لنقلها بعيداً عن القصف الروسي الذي طال غرب أوكرانيا وحدودها. ويعد بث هذه المعلومات، في جانب منه، تشتيتاً لجهود الروس مع تقديم الدعم المعنوي للأوكرانيين.

وتتطلب "حرب المعلومات الدفاعية"، المنع والوقاية، وذلك باتخاذ التدابير اللازمة من البداية، بحماية نظم المعلومات لمنع وصول المهاجمين لها، مثل اتخاذ إجراءات إخفاء المعلومات وتشفيرها، وكذلك التحكم في الدخول لنظم المعلومات. وعلى الجانب الوقائي، منعت موسكو استخدام مواقع "فيس بوك" و"توتير" و"إنستجرام" في الداخل الروسي، وهو ما حجّم من درجة التأثير الغربي على الروس. وفي هذا الصدد، أجرى "مركز ليفادا" المستقل استطلاعاً للرأي في شهر فبراير الماضي أظهر أن 62% من الروس يعتمدون على المحطات الوطنية في الأخبار، في الوقت الذي يزداد فيه الإقبال على شبكة الإنترنت الروسية "يان دكس"، وكذلك شبكة التواصل الاجتماعي " فكونتاكتي".

حرب استدعاء المعلومات: 

كشفت الحرب الروسية - الأوكرانية عن كذب عصر السماوات المفتوحة. ففي خلال الحرب الأمريكية في العراق عام 2003، تم بث المعارك على الهواء، بينما في حرب أوكرانيا لا يُسمح لمحطات التلفاز بالوجود مباشرة على جبهات القتال، بل على مسافة منها، ويتم أحياناً إبعاد المراسلين عن خط النار. وغني عن القول إن الصورة في عصر المعلومات أفضل من الكلمة، ولكن في الحرب الجارية تظهر الصورة طبقاً للسياقات التي يرغبها الطرف الذي يبثها، وبالتالي فإن الحقيقة هنا جزئية وليست كاملة.

ومن جانبه، يُسوق الغرب صورة قائمة عن "القنبلة الاقتصادية" التي ستدمر الاقتصاد الروسي وتشل قدراته، في الوقت الذي كانت فيه روسيا تمتلك تدابير احتياطية حتى في مجال البنوك، فهي والصين سعيا إلى إقامة شبكتي تحويل بين البنوك بعيداً عن الشبكة الغربية، فضلاً عن اعتماد موسكو نظام "الصفقات المتكافئة". كما يُسوق الغرب لنصب فخ لروسيا في أوكرانيا لاستنزافها، وضعف العقيدة القتالية لدى الجندي الروسي، لتصبح لدينا "حرب مصطلحات" لها دلالتها؛ مثل "النازيون" الذي أُطلق من قِبل الروس على المقاومة الأوكرانية، ولهذا المصطلح وجود في أوكرانيا، إذ إن النازيين الجدد موجودون في أوكرانيا، لكن روسيا تعممه على كل من يقاومها. وكل ذلك يقودنا إلى حرب تعتمد على استدعاء المعلومات، ومنها على سبيل المثال الآتي:

1- استدعاء التاريخ: جرى استدعاء التاريخ السياسي والقومي لهذه المنطقة، وهنا موسكو استدعت روسيا القيصرية وليس الاتحاد السوفييتي، باعتبار "القرم" جزءاً منها، وأن أوكرانيا جزء أصيل منها.

2- استدعاء "هتلر": إذ استدعاه كل طرف بطريقته، فالروس حينما أطلقوا النازية على حكام أوكرانيا أردوا تصدير الرعب للأوروبيين بذكريات الحرب العالمية الثانية وفظائعها. في حين أن الأوروبيين يشبهون بوتين بـ "هتلر" بصور مختلفة؛ فمن وجهة نظرهم، كما دمر هتلر ألمانيا، يدمر بوتين روسيا ويدمر اقتصادها ويغامر بجيشها. هذا في الوقت الذي تتصاعد فيه "فوبيا بوتين" لتأخذ منحنيين داخل أوروبا؛ أحدهما متعلق بضعف الجيل الحالي أمام الأجيال التاريخية التي قادت وصنعت أوروبا، فبوتين هو القوة والقيادة غير العاجزة، وهذا ما يسوقه المخطط الروسي في أوروبا عبر العديد من الوسائط. بينما هناك "شيطنة" لبوتين وروسيا في أوروبا والولايات المتحدة ووصلت إلى حد منع تدريس الأدب الروسي في الجامعات، ومعاملة الروس المتجنسين أو الفنانين الروس على أنهم جزء من المنظومة الروسية، لتصبح قيم الديمقراطية الغربية على المحك بصورة غير مسبوقة.

3- استدعاء روح روسيا القومية: ما لا يعلنه الروس أنهم يعانون أزمة هوية متعلقة بـ "أمركة" الشباب الروسي بصورة متصاعدة منذ التسعينيات، وهي مرتبطة بالنزعة الاستهلاكية للثقافة الغربية خاصة الأمريكية؛ عنوانها (ماكدونالدز/ كوكاكولا). وهذه الأجيال التي ولدت منذ الثمانينيات وحتى الآن، لا تعرف روسيا القيصرية ولا مجد الاتحاد السوفييتي، إلى أن صار هناك تيار في روسيا موالٍ للغرب، كان صداه واضحاً في اندلاع تظاهرات في 60 مدينة روسية يوم 6 مارس 2022 مناهضة للحرب على أوكرانيا، وهذا ما يعتبره الروس المحافظون تياراً عدائياً من الداخل ويمثل خطراً على الدولة. وأراد بوتين توظيف هذه الحرب أيضاً في إعادة القومية الروسية لمجدها وبث روحها في الداخل الروسي، ومن هنا كان استدعاء التاريخ والجغرافيا السياسية مهماً.

4- استدعاء الدين: تصاعد دور الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا ومع أتباعها في شرق أوروبا، وهي لديها خلافات عقيدية مع الكنيستين البروتستانتية والكاثوليكية في أوروبا. لكن على الضفة الأوروبية، جرى تسريب صورة للسيدة العذراء في ألوان علم أوكرانيا تحمل سلاحاً للدفاع عن البلاد.

5- استدعاء حرب العراق: مثّلت حرب العراق في عام 2003 ثغرة في حرب المعلومات ضد الولايات المتحدة والغرب، حيث أدت إثارة روسيا قضية معامل الجراثيم ومختبرات الحرب البيولوجية إلى شن حملة ضد كذب الولايات المتحدة فيما يتعلق بأسباب غزو العراق وتحديداً ما تردد حول امتلاك أسلحة الدمار الشامل، فضلاً عن مبررات تدمير العراق الذي يبعد آلاف الكيلو مترات عن الولايات المتحدة. في حين أن أوكرانيا تقع على الحدود الروسية، وتمثل تهديداً لها في حالة وجود أسلحة بيولوجية أو نووية بها.

اختراق معلوماتي متبادل:

إن كل ما سبق يقودنا نحو تطورات متلاحقة في الاختراق المعلوماتي من طرفي الحرب (روسيا/ الغرب). وفي هذا الصدد، فإن مختبر الطب الشرعي الرقمي التابع للمجلس الأطلسي، يتابع عن كثب تحركات روسيا عبر المجالات العسكرية والإلكترونية والمعلوماتية، مستفيداً من خبرة سنوات في مراقبة الوضع في أوكرانيا. فيما تستخدم موسكو الدعاية والمعلومات المُضللة بكثافة، ومن ضمن ذلك اختراق قراصنة روس قناة "أوكرانيا 24" وبث مقطع للرئيس الأوكراني يوم 16 مارس الجاري يدعو فيه الأوكرانيين للاستسلام، والتوقف عن الحرب، والتخلي عن أسلحتهم. وهذا المقطع كان به عيوب فنية، سرعان ما قامت وسائل الإعلام الأوكرانية بالرد عليه، ثم ظهر الرئيس زيلينسكي في فيديو قصير يفضح زيف هذه الرسالة المنسوبة لروسيا.

على جانب آخر، أدرك الغرب أن أحد أسباب انسحاب السوفييت من حرب أفغانستان هو أمهات القتلى الروس الذين مارسوا ضغوطاً للانسحاب آنذاك، لذا عمل الغرب على اختراق الرأي العام الروسي في الحرب الأوكرانية الحالية عبر بث رسائل موجهة له حول الضحايا الروس في هذه الحرب، مستخدماً في ذلك عدة وسائل، منها موقع أوكراني بالروسية يبث معلومات يومية عن الأسرى والقتلى الروس، وعبر راديو "أوروبا الحرة" الناطق بالروسية، وكذلك راديو "ليبرتي". وكل هذا يجري مع محاولات لدعم معارضي الحرب في الداخل الروسي بالمعلومات، وذلك عبر مقاطع "تيك توك".

الخلاصة، الحقيقة في حرب أوكرانيا تكاد تكون غائبة، لكن المؤكد أن هذه الحرب هي إعلان فشل لإعادة ترسيم المصالح بين القوى الصاعدة والغرب الذي يستحوذ على أكثر من نصف اقتصاد العالم. وبالتالي فإن الصين تصطف مع روسيا مع أخذ مسافة؛ حفاظاً على مصالحها، والهند تترقب الحرب دون إدانة روسيا، وألمانيا تريد استثمار الحرب الراهنة لاستعادة قوتها التي حُجمت مع الحرب العالمية الثانية، والبرازيل تتطلع لأخذ مكانتها في ظل تراجع الغرب. فالحرب هنا هي "حرب مصالح واقتصاد ونفوذ"، والضحية أوكرانيا التي ذهبت في علاقتها بالغرب بعيداً من دون أن تُراعي أنها على خط النار.