خسائر متبادلة:

ماذا لو انقطعت إمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا إلى أوروبا؟

01 February 2022


تصاعدت التوترات على الحدود المشتركة بين روسيا وأوكرانيا، مع حشد الأولى آلاف العسكريين مع جارتها منذ أواخر عام 2021، وعلى نحو دفع التقييمات الغربية للذهاب بأن موسكو باتت على وشك غزو الأراضي الأوكرانية بغية تنصيب رئيس موالٍ لها. وعليه، هددت الولايات المتحدة والقادة الأوربيون بفرض عقوبات اقتصادية موسعة على روسيا في حال شنها أي عمل عسكري ضد أوكرانيا، فيما عجلت القوى الغربية أيضاً بتسليح الجيش الأوكراني بمعدات عسكرية ثقيلة.

وتكهنت بعض الآراء الغربية بأن روسيا قد تتوسع في استخدام الغاز إلى أوروبا كسلاح جيوسياسي ضد الأخيرة، أو بمعنى آخر ستتجه موسكو لقطع كامل تدفقات الغاز إلى القارة الأوروبية؛ لمواجهة الضغوط الغربية المُحتملة عليها في حال غزو الأراضي الأوكرانية. ومع ذلك، يبدو أن استخدام خيار الغاز الروسي هو بعيد الاحتمال؛ لأنه لن يلحق أضراراً فقط بأوروبا، وإنما بالنظام الاقتصادي في روسيا أيضاً، كما أنه سيضر بسمعة موسكو كمورد عالمي موثوق فيه للغاز الطبيعي.

أزمة الطاقة:

تعد أزمة الطاقة التي مرت بها دول أوروبا في العام الماضي هي الأسوأ منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث واجهت القارة شحاً كبيراً في إمدادات الطاقة بما في ذلك الغاز الطبيعي، إلى جانب تراجع الطاقة المتجددة؛ مما دفع الكثير من الدول الأوروبية إلى إعادة تشغيل المحطات العاملة بالفحم. وفي تلك الظروف، بلغت أسعار الغاز الطبيعي في الأسواق الأوروبية نحو 6 أمثال مستواها ما قبل جائحة كورونا.

ومن بين أسباب الارتفاع القياسي لأسعار الغاز عالمياً وأوروبياً، الانتعاش الاقتصادي العالمي الاستثنائي بعد التعافي التدريجي من جائحة كورونا، إلى جانب تعطل إمدادات الغاز المُسال بسبب صيانة محطات التسييل لدى بعض المنتجين. كذلك يعتبر بعض المراقبين أن نقص إمدادات الغاز القادمة من روسيا تعد السبب الجوهري لأزمة الغاز في أوروبا خلال عام 2021.


وفي هذا السياق، اتهمت الوكالة الدولية للطاقة، موسكو بأنها عامل محوري في "الضيق المُصطنع" لأسواق الغاز الأوروبية، وعلى نحو اتضح جلياً عندما خفضت روسيا صادراتها من الغاز إلى أوروبا بنسبة 25% في الربع الرابع من عام 2021 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020، وبنسبة 22% مقارنة بمستوياتها في عام 2019.

وتوفر روسيا حوالي رُبع احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعي والمُسال معاً، وتبيع حوالي نصف إمدادات الغاز المنقولة عبر خطوط الأنابيب بموجب عقود طويلة الأجل، وباقي الإمدادات الأخرى من خلال السوق الفورية، والتي توقف معظمها في الأشهر الأخيرة من العام الماضي. 

وتسبب تباطؤ إمدادات الغاز الروسية إلى القارة الأوروبية، في تراجع مستويات تخزين الغاز عند 47% من السعة الكاملة اعتباراً من أوائل يناير 2022، ومقارنة بمتوسط 60% خلال العقد الماضي؛ مما أفقد الأسواق المرونة الكافية للتعامل مع الحالات الطارئة في الطلب على الغاز بسبب موجات الطقس البارد غير المُعتادة أو غيرها من الظروف الأخرى. 

حافة الحرب:

شهدت الأزمة بين روسيا وأكرانيا تصعيداً غير مسبوق منذ أواخر العام الماضي، واتهمت القوى الغربية موسكو بالاستعداد لغزو الأراضي الأوكرانية، وهو ما يتبين على النحو التالي:

1- حشد قوات روسية: صعّدت روسيا من موقفها ضد أوكرانيا، حيث حشدت أكثر من 100 ألف جندي وأسلحة ثقيلة على الحدود بين البلدين، إلى جانب نشر قوات روسية في بيلاروسيا. واتهمت القوى الأوروبية موسكو بالتخطيط لغزو أوكرانيا، ومحاولة تنصيب زعيم موالٍ لروسيا في هذا البلد.

2- استعدادات عسكرية لحلفاء أوكرانيا: في ظل التصعيد العسكري الروسي، اتجهت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية إلى تزويد الجيش الأوكراني بمعدات عسكرية ثقيلة؛ لمواجهة أية خطر روسي مُحتمل. كما أبدى حلف "الناتو" استعداده في حالة وجود أي عدوان عسكري ضد أوكرانيا، قائلاً إنه "وضع قواته في حالة تأهب". 

3- التهديد بعقوبات ضد موسكو: توعدت الإدارة الأمريكية والقادة الأوربيون بفرض عقوبات اقتصادية شديدة على روسيا، قد تصل إلى فرض عقوبات على الرئيس فلاديمير بوتين، وذلك في حالة القيام بأي عمل عسكري ضد أوكرانيا. كما تدرس القوى الغربية حرمان موسكو من نظام المدفوعات الدولي "سويفت"، بالرغم من أن الفكرة تواجه معارضة قوية من بعض الدول الأوروبية. 

4- التهديد بوقف تشغيل خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2": هددت الولايات المتحدة والقوى الأوروبية بوقف تشغيل خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" الجديد، الذي يربط بين ألمانيا وروسيا عبر بحر البلطيق، وذلك في حالة حدوث أية أعمال عدائية ضد أوكرانيا. وألمحت ألمانيا بأن تصعيد الأزمة الأوكرانية قد يعني إلغاء هذا المشروع، ونهاية خط الأنابيب.

ارتدادات مُحتملة:

يشكك بعض الغربيين في أن موسكو ستتبنى نهجاً عقلانياً في التعامل مع الأزمة الأوكرانية، حيث يصر الرئيس بوتين، بحسب الآراء الغربية، على إعادة تشكيل التحالفات السياسية في أوروبا، والحد من انحياز قادة أوروبا الشرقية ناحية الغرب، كذلك تحجيم نفوذ حلف "الناتو" في هذه المنطقة. وبناءً عليه، ربما يكون مُحتملاً شن عمل عسكري روسي ضد أوكرانيا في المستقبل المنظور، وهو ما ستكون له ارتدادات واضحة على سوق الغاز الأوروبي، وذلك على النحو التالي:

1- قطع إمدادات الغاز الروسي تماماً عن أوروبا: في هذا السيناريو الأكثر تطرفاً، يمكن لشركة "غازبروم" الروسية الرد على أي عقوبات اقتصادية على موسكو بقطع إمدادات الغاز تماماً عن قارة أوروبا، وهذا من شأنه أن يشل أنظمة الطاقة في القارة وينتج عنه ارتفاع هائل في أسعار الغاز والطاقة عموماً. ويرى الكثيرون أنه ليس مرجحاً أن تلجأ روسيا إلى هذا الخيار.

2- تقليص كميات الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا: في حالة نشوب حرب، قد تتوقف عملياً تدفقات الغاز عبر أوكرانيا، وذلك إما من جانب موسكو أو بسبب ظروف الحرب؛ وهو ما يضع على المحك تدفقات غاز بنحو 40 مليار متر مكعب تلتزم روسيا بنقلها سنوياً عبر أوكرانيا بموجب اتفاقية تنتهي في عام 2024. ومن شأن ذلك أن يمنح موسكو نفوذاً لإملاء شروطها على أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وكذلك الترويج لأهمية خط أنابيب "نورد ستريم 2".


جدوى البدائل:

ربما لن يكون من السهل على القارة الأوروبية استبدال كامل تدفقات الغاز المنقولة عبر الأراضي الأوكرانية، ويتبين ذلك على النحو التالي:

1- الاعتماد على خط أنابيب يامال "بيلاروسيا - بولندا - ألمانيا": يمكن لشركة "غازبروم" الروسية إعادة بعض من الإمدادات إلى خط أنابيب "يامال" البالغ طاقته حوالي 33 مليار متر مكعب. ولكن لن يكون تعزيز النقل عبر بيلاروسيا دون ثمن سياسي أو اقتصادي بالنسبة لأوروبا، فقد سبق أن هدد الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، في مناسبات عديدة، بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا، وذلك رداً على أي عقوبات من جانب الاتحاد الأوروبي عقب أزمة المهاجرين مع بولندا.

2- اللجوء إلى مشتريات إضافية من الغاز المُسال: يبدو الخيار الأوقع أمام أوروبا هو زيادة مشتريات الغاز المُسال من الأسواق الفورية، لكن ذلك سيدفع أسعار الغاز للصعود أيضاً، وستشتري القارة أي كميات إضافية من الغاز المُسال بعلاوات سعرية عالية للغاية. وفي الفترة الأخيرة، حاولت الولايات المتحدة طمأنة حلفائها الأوروبيين بأنها ستؤمن لهم إمدادات كافية من الغاز، في حالة حدوث تدخل عسكري ضد أوكرانيا. وأجرت الإدارة الأمريكية مؤخراً جولات دبلوماسية مع عدد من منتجي الغاز في الشرق الأوسط، فضلاً عن النرويج وأستراليا؛ لضمان تأمين احتياجات أوروبا من الغاز. غير أنه يبدو من الصعب على أولئك المنتجين الوفاء بكافة احتياجات أوروبا من الغاز، مع تراجع فائض الإنتاج، ناهيك عن ارتباطهم بعقود طويلة الأجل مع العملاء في آسيا ومناطق أخرى في العالم. 

3- الاعتماد على الفحم أو الطاقة النووية: قد يجبر تفاقم أزمة الطاقة، الدول الأوروبية على اللجوء لإعادة تشغيل مزيد من محطات الكهرباء العاملة بالفحم، أو حتى تخلي بعضها مثل ألمانيا عن خطط لغلق محطات نووية في العام الجاري.


برجماتية التعامل:

على عكس التقييمات العسكرية الغربية، دافع المسؤولون الروس، بما في ذلك الرئيس بوتين، بصفة متكررة عن أن موسكو ليس لديها نية لغزو أوكرانيا، أو حتى تنصيب رئيس موالٍ لها في هذا البلد؛ وهو ما يعني تفادي حدوث أزمة طاقة هائلة. ويرى بعض المراقبين أن قطع كامل إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا هو سيناريو بعيد الاحتمال، حتى في حالة الغزو الروسي لأوكرانيا.

فليس في مصلحة أي من الجانبين، قطع كامل إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، حيث إنه لن يضر الاقتصاد الأوروبي فقط، وإنما الروسي أيضاً، كما سيضر بسمعة موسكو كمورد موثوق فيه للغاز، وقد يدفع أوروبا للتخلص من اعتمادها على الغاز الروسي إلى الأبد. وتاريخياً أيضاً، ظلت تدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا مستمرة من دون انقطاع خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة روسيا، أو حتى في أعقاب ضم موسكو شبه جزيرة القرم في عام 2014. 

ولم تتعطل إمدادات الغاز الروسي للقارة الأوروبية سوى لفترات زمنية محددة مع احتدام الخلافات مع أوكرانيا حول دفع مديونيتها لموسكو في عام 2008، إلا أنها ظلت إلى حد كبير مستقرة. وفي هذا الصدد، يشير بنك "جولدمان ساكس" الأمريكي إلى أن السيناريو الأساسي في التوقعات هو "عدم حدوث اضطراب في إمدادات الغاز الروسي"، محذراً من أن أي اضطراب مدفوع بالعقوبات الاقتصادية على روسيا سيكون بمنزلة "دمار متبادل"، لذا ليس من مصلحة أي طرف وقف تدفق الغاز عبر أوكرانيا، على حد تقدير البنك.

دروس مستقبلية:

بشكل عام، يحمل التصعيد العسكري الأخير بين روسيا وأوكرانيا، بلا شك، عواقب اقتصادية بالنسبة لأوروبا، مع احتمالية انخفاض تدفقات الغاز التي من شأنها أن تدفع أسعار الطاقة في القارة للارتفاع المستمر. وفي هذا الإطار، حذرت النائب الأول للمدير العام لصندوق النقد الدولي، جيتا جوبيناث، من أن الصراع المتصاعد بين روسيا وأوكرانيا سيؤدي على الأرجح إلى زيادة تكاليف الطاقة، وتصاعد الضغوط التضخمية. ومن هنا، تدفع الأزمة الحالية القارة الأوروبية نحو تبني سياسات جديدة لتأمين الطاقة بها في المستقبل، وذلك على النحو التالي: 

1- تقوية البنية التحتية للغاز المُسال: حققت أوروبا تقدماً كبيراً في بناء شبكات متكاملة للغاز الطبيعي ومحطات لاستقبال الغاز المُسال، وبطاقة تصل نحو 208 مليارات متر مكعب سنوياً؛ وهي ضعف حجم واردات السائل التي تتراوح بين 90 إلى 100 مليار متر مكعب سنوياً، وفقاً لـ "ستاندرد آند بورز جلوبال بلاتس". وبالرغم من ذلك، لا تزال أجزاء من أوروبا الوسطى والشرقية في حاجة لتقوية البنية التحتية للغاز المُسال، من أجل تنويع خيارات استيراده، وتقليص الاعتماد على روسيا مستقبلاً.

2- تطوير سياسات تخزين الغاز: ترى الوكالة الدولية للطاقة أن من أهم الدروس التي على أوروبا استيعابها من الأزمة الحالية، هي تطوير سياسات جديدة لعمليات تخزين الغاز الطبيعي، بحيث تتضمن تحسين اللوائح لضمان وجود مستويات كافية من المخزون لدى المنشآت الاستراتيجية الحكومية أو الشركات، بالإضافة إلى تعزيز قواعد الإفصاح والشفافية في إدارة المخزونات.

3- تعزيز قدرات الطاقة المتجددة: على الأرجح أن تدفع الأزمة الحالية، أوروبا نحو تخصيص مزيد من الاستثمارات لصالح مشاريع الطاقة المتجددة، الأمر الذي لن يكون له مردود إيجابي فقط على البيئة من حيث خفض انبعاثات الكربون الصادرة عن قطاع الطاقة الأوروبي، وإنما أيضاً تعزيز أمن الطاقة في أوروبا، والحد من تعرض القارة لتقلبات السوق.  


ختاماً، يمكن القول إن سيناريو "قطع كامل إمدادات الغاز الروسي إلى قارة أوروبا" هو بعيد الاحتمال؛ نظراً لآثاره الاقتصادية السلبية والشاملة على الجانبين الروسي والأوروبي معاً. ومع ذلك ليس مستبعداً أن يؤدي تصاعد التوترات بين روسيا من جهة، وأوروبا والولايات المتحدة من جهة أخرى، إلى تراجع محتمل في إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، خاصة عبر الممر الأوكراني؛ وهو ما ستنجم عنه أضرار اقتصادية للقارة، ولكنها ستكون بطبيعة الحال أقل وطأة من قطع كامل لتدفقات الغاز.