طفرة نيودلهي:

دروس هندية لمواجهة الموجات القادمة لكورونا

26 April 2021


لم تكد تلوح بشائر انحسار جائحة كورونا في نيودلهي عقب بداية سريعة وناجحة لحملات التطعيم باللقاحات المضادة لكورونا، وبدء تخفيف الإجراءات الاحترازية، حتى شهدت الهند صعود الموجة الأكثر خطورة على الإطلاق لجائحة كورونا مع وصول أعداد الإصابات والوفيات لمستويات قياسية لم تشهدها من قبل، واستنزاف مخزونات الأكسجين، والضغط على المرافق الطبية بصورة غير مسبوقة. جاءت الموجة الجديدة بمثابة "إنذار متجدد" لدول العالم حول عدم انتهاء الجائحة، وإمكانية حدوث طفرات مفاجئة واستثنائية وغير متوقعة رغم عمليات التحصين والتطور السريع لتوزيع اللقاح، مما يزيد من تهديدات العودة إلى "المربع صفر" وفقًا للعديد من المتخصصين في القطاع الصحي.

استثنائية الموجة الجديدة:

كشفت الموجة الصاعدة لجائحة كورونا في الهند عن عدة ملامح لما يمكن أن تكون عليه الارتدادات الصحية الضاغطة لجائحة كورونا، واحتمالية حدوث تصدع للدفاعات الصحية تحت وطأة هجوم شرس للوباء بصورة غير متوقعة. وتمثلت أبرز هذه الملامح فيما يلي:

1- مستويات قياسية للإصابات والوفيات: سجلت الهند مستويات قياسية غير مسبوقة للإصابات والوفيات، تجاوزت الإصابات في 25 أبريل 2021 حوالي 349.6 ألف إصابة، في استمرار لتجاوز سقف 300 ألف إصابة لليوم الرابع على التوالي، بينما وصل عدد الوفيات إلى 2767 حالة وفاة، في رقم غير مسبوق منذ بداية الجائحة. وكانت الهند في سبتمبر 2020 قد شهدت معدلات إصابة وصلت إلى 100 ألف إصابة يوميًا، إلا أن الإصابات تراجعت بقوة على مدار الأشهر التالية مما اعتبره البعض مؤشرًا على الانتصار على جائحة كورونا، وبدء مرحلة التعافي. ووصل إجمالي عدد الإصابات في الهند حوالي 17 مليون حالة إصابة، فيما تجاوز عدد الوفيات حوالي 192 ألف حالة وفاة.

2- توسع خريطة انتشار الإصابات: تمددت جغرافيا انتشار الإصابات بفيروس كورونا بصورة سريعة للغاية، حيث تصدرت ولاية ماهاراشترا الولايات المنكوبة في الهند بأكثر من 4.23 ملايين إصابة، تليها ولاية كيرلا بحوالي 1.38 مليون إصابة، ثم ولاية كارناتاكا بحوالي 1.3 مليون إصابة، ثم ولاية تاميل نادو التي شهدت 1.07 مليون إصابة، وولاية أترا براديش التي شهدت 1.05 مليون إصابة منذ بداية الجائحة. 


3- الضغط على المرافق الصحية: شهدت الهند ضغوطًا غير مسبوقة على القطاع الصحي بها، حيث شهدت تزايدًا سريعًا في الإصابات فوق الطاقة الاستيعابية لكافة المستشفيات والمؤسسات الصحية، مما نجم عنه نفاد الأسرّة والأكسجين في المستشفيات، وامتلاء المدافن بالمتوفين، وعدم القدرة على التعامل مع الأعداد المتزايدة وفقًا لبعض التقارير الهندية، بالإضافة إلى فقدان بعض الولايات القدرة على التعامل مع الجائحة بصورة تامة بسبب تصدع نظام الرعاية الصحية، وعدم كفاية الأطقم الطبية للتعامل مع أعداد المصابين. وفي هذا الإطار، استنفد 33 مستشفى خاصًا في ولاية دلهي وحدها ما لا يقل عن 80% من وحدات العناية المركزة في فترة أيام معدودة، كما وضعت العديد من المستشفيات إعلانات بعدم توافر أماكن لاستقبال المرضى.

4- استنزاف مخزونات الأكسجين: شهدت الهند استنزافًا سريعًا لمخزونات الأكسجين في فترة قياسية وضغوطًا على الاحتياطات، حيث أطلقت شركة "ماكس هيلث كير" التي تدير شبكات مستشفيات في عدد من ولايات الهند نداء استغاثة لطلب إمدادات طارئة من الأكسجين عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد دفع ذلك نيودلهي لوضع تدابير لنقل خزانات الأكسجين بالقطارات السريعة، وتأمين شحنات الأكسجين من جانب قوات الشرطة، وطلب مساعدة بعض الدول مثل ألمانيا في تأسيس سريع لمرافق إنتاج الأكسجين على نطاق واسع. فالطاقة الإنتاجية الحالية للأكسجين تصل إلى 6900 طن متري يتم استهلاكها سريعًا، مما سيتطلب تجديد المخزون في وقت قريب للغاية، مما دفع رئيس الوزراء الهندي نريندرا مودي للتعهد بتسليم 100 ألف أسطوانة أكسجين بصورة عاجلة لمواجهة الجائحة.

5- إعادة تأسيس المستشفيات الميدانية: سارعت الهند بعمليات تأسيس مراكز صحية ميدانية في المدارس والمجمعات الرياضية لرفع الطاقة الاستيعابية للقطاع الصحي بصورة سريعة لمواجهة الانتشار السريع للفيروس، ورفع الضغط عن المستشفيات، وهو ما يكشف عودة حالة الطوارئ للقطاع الصحي في مشهد شبيه للغاية بما شهدته الهند ودول العالم مع بداية الموجة الأولى لانتشار فيروس كورونا. 

6- عودة إجراءات حظر السفر: قامت العديد من الدول بحظر السفر من وإلى الهند بصورة سريعة للغاية، وهو ما أعاد للأذهان ذكرى بداية الجائحة وإجراءات حظر السفر وتدابير الإغلاق العالمي. وفي حال استمرار هذه الإجراءات لفترة طويلة فسيواجه الاقتصاد الهندي تحديات مضاعفة للتكيف مع انقطاع الاتصال بأقاليم العالم بعد تراجع حدة الجائحة وعودة حركة الطيران والسفر والانتقال بصورة تدريجية.

دروس الحالة الهندية:

تتجاوز دلالات "التحور الهندي" مجرد موجة جديدة من جائحة كورونا لتكشف عن دروس جديدة في مسار "التعلم التراكمي" الذي بدأته البشرية من نقطة البداية مع انتشار الجائحة، ووصل إلى مداه الأقصى مؤخرًا، وتتمثل أبرز هذه الدروس الرئيسية فيما يلي:

1- التحسب للطفرات الفيروسية: لم تنتهِ عملية تطور فيروس كورونا، فبعد التحورات التي شهدتها جنوب إفريقيا وبريطانيا وكاليفورنيا، ظهر التحور الهندي الذي يتضمن تهديدات مزدوجة تجمع بين سرعة الانتشار والقدرة على التخفي من الجهاز المناعي مما يجعله أكثر فتكًا وتسببًا في وفاة المصابين، ويعني ذلك أن الطفرات في فيروس كورونا قد تتسبب في صعود "موجات متعددة"، وأننا بصدد معركة طويلة مع انتشار الفيروس.

2- الارتداد السريع لحالة الطوارئ الصحية: تؤكد الحالة الهندية ضرورة التمسك بحالة الاستعداد القصوى في القطاع الصحي، والاستمرار في ضخ الموارد المالية في توسيع الطاقة الاستيعابية لمؤسسات الرعاية الصحية بالتوازي مع تعزيز قدرات "المرونة" و"الارتداد السريع" لحالة الطوارئ الصحية بما يتضمنه ذلك من سرعة تخصيص الموارد لتعزيز الطاقة الاستيعابية للمستشفيات، وزيادة أعداد الأطقم الطبية، والتوسع في إنتاج الإمدادات التي تشمل تعزيز مخزونات الأكسجين بصورة سريعة لاستيعاب ضغوط الطلب في ظل الموجات المحتملة لانتشار جائحة كورونا.

3- أولوية حملات التحصين القومية: إن حملات التطعيم في مواجهة جائحة كورونا لم تعد اختيارًا، فاللقاح يبدو الأمل الوحيد في مواجهة جائحة متجددة غير مسبوقة في عقود ممتدة. وقد ساهم بطء الهند في عمليات تطعيم المواطنين، واقتصار عمليات التحصين على كبار السن وموظفي الخطوط الأمامية، في تصاعد حدة الموجة الجديدة للجائحة، حيث قامت الهند بتطعيم 8% من مواطنيها بجرعة واحدة من اللقاح، وحوالي 1% من المواطنين بالجرعتين الكاملتين، وهو ما جعل رئيس الوزراء الهندي يطالب بدعم الولايات المتحدة والدول الغربية في توفير مواد تصنيع اللقاحات. وتتمثل المفارقة في امتلاك نيودلهي أكبر مرافق تصنيع اللقاحات في العالم، ووصفها من جانب العديد من المتابعين بأنها "مصنع لقاح العالم"، ووجود نسختين من اللقاحات الهندية يتم التطعيم بهما فعليًا.

4- وقف "حرب المعلومات" ضد اللقاحات: تزيد الأزمة من أهمية مواجهة الأخبار الكاذبة وحملات التضليل المعلوماتي حول اللقاحات والشائعات المنتشرة حول الفاعلية أو الآثار الجانبية بعيدة المدى غير المؤكدة وغيرها من مظاهر التشكيك غير المبرر في اللقاحات التي تؤدي لتثبيط عزائم الجمهور ودفعهم لعدم تلقي اللقاحات، وهو ما شهدته الهند مؤخرًا وبصورة غير مسبوقة. ويكفل الإشراف الطبي على تلقي اللقاحات ومراعاة مشروطيات سلامة الحصول عليه من جانب الأطقم الطبية التدابير الكافية لتأمين حصول الأفراد على اللقاحات. ومن الضروري التصدي لنشر الشائعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصةً المجموعات المغلقة على واتس آب وتليجرام التي قد تبدو بعيدة عن الرقابة العامة للمحتوى المنشور حول فيروس كورونا. 

5- مخاطر عقد الانتخابات الحاشدة: على الرغم من أهمية الانتخابات في عملية التداول الديمقراطي للسلطة، إلا أن عقد إجراءات الاقتراع في خضم الجائحة والسماح بالحملات الانتخابية واحتشاد جماهير المؤيدين للمرشحين يعد ضمن المحفزات السريعة لانتشار الفيروس مجددًا، حيث شهدت الهند عقد فاعليات الانتخابات التشريعية في ولايات البنغال الغربية وتاميل نادو وكيرالا وآسام وإقليم بونديشيري، وهو ما تسبب في الانتشار السريع للإصابات في هذه الولايات، وتجاوز الإصابات قدرةَ مؤسسات الرعاية الصحية على الاستيعاب بصورة غير مسبوقة.

6- تهديدات الفعاليات الرياضية والدينية: إن الدرس الأهم للتحور الهندي هو حتمية التشبث بتدابير التباعد الاجتماعي وعدم السماح بالتجمعات الرياضية والدينية، حيث تسبب السماح بعقد دورات الكريكيت وحضور الجمهور إلى الملاعب في سرعة انتشار الجائحة، كما أدى تصريح السلطات الهندية لمهرجان "كوميه ميلا" الديني وقيام ملايين الهندوس بالغطس في نهر الجانج دون أي تدابير وقائية أو صحية إلى تفشي الإصابات بصورة غير مسبوقة بعد عودة المشاركين في الاحتفال الديني إلى ولاياتهم.

ختامًا، إن الموجة الأخيرة لجائحة كورونا في الهند تُعيد التأكيد مجددًا على جغرافيا الاتصال التي تربط العالم حتى في ظل تشديد قيود السفر، وقدرة الطفرات الجديدة لفيروس كورونا على تخطي الحواجز والتسبب في انتشار الإصابات بصورة سريعة مما يزيد من أهمية التضامن العالمي والتصدي لاحتكار اللقاحات وتوفيرها للدول النامية، وتجسير الفجوة الضخمة في عمليات التحصين بين الدول المتقدمة والدول الفقيرة باعتبار أن الخلاص من الجائحة يتحقق للجميع في الوقت نفسه ودون تفرقة.