تحديات جديدة:

اتجاهات المستقبل والأمن القومي الأمريكي

08 August 2015


إعداد: عبدالغفار ­الديواني

تساعد الدراسات المستقبلية في معرفة التحديات الجديدة وكيفية مواجهتها، وتزيد أهميتها عندما ترتبط بتحديات الأمن القومي للدول، ومن ثم تُقدم لصانعي القرارات أفضل الخيارات لاتخاذ القرار المناسب، وفتح آفاق جديدة للتفكير والتخطيط في صناعة وصياغة السياسات.

وفي ضوء التحديات الضخمة التي تواجه الأمن القومي للولايات المتحدة في ظل الصراعات الدولية والتغيرات المناخية وقضايا الطاقة والهجرة وغيرها، يأتي الكتاب المُعنون "اتجاهات المستقبل والأمن القومي الأمريكي"، الذي حرره كل من "John T. Ackerman" وهو أستاذ مساعد للعلوم السياسية في جامعة أشفورد الأمريكية، و"Kathleen Mahoney-Norris" وهي أستاذة متخصصة في دراسات الأمن القومي في كلية القيادة والأركان الجوية. ويضم هذا الكتاب سبع دراسات أعدها مجموعة من الباحثين والخبراء المتخصصين.

الشركات العسكرية الخاصة "المرتزقة"

بدايةً يتطرق الكتاب إلى ظاهرة الشركات العسكرية الخاصة "المرتزقة"، ويُرجِع تزايد اعتماد الحكومة الأمريكية على هذه الشركات إلى تعاظم تأثير القدرات الاقتصادية بعد الحرب الباردة، وتزايد الخصخصة، والمشاركة في حروب مختلفة، فضلاً عن صعود حركات التمرد. ومن ثم، كانت الحاجة إلى دعم متخصص من تلك الشركات. وثمة إشكاليات عدة أُثيرت حول شركات "المرتزقة"، منها التكلفة، والمشروعية القانونية، فبعض هذه الشركات لا يوجد لها وضع مقنن، ناهيك عن إشكالية الجدل الأخلاقي حول ممارستها للعنف.

ويرى الكتاب أن هذه الظاهرة إذا لم يتم "تنظيمها"، فإن ذلك يؤثر سلباً على الأمن القومي الأمريكي، وذلك من خلال تقليل الإمكانات والقدرات الاستراتيجية في القتال على المدى الطويل، نظراً لتزايد دور هذه الشركات على مستوى الأعداد ونوعية الخدمات التي تقدمها. كذلك، فإنها تعمل على تشويه سمعة واشنطن في مجالات العدالة وحقوق الإنسان، فضلاً عن تقويض المصداقية الدولية للولايات المتحدة في تعزيز الديمقراطية.

وبناءً عليه، يشير الباحثون إلى عدة سياسات لتصحيح مسار الشركات العسكرية الخاصة، وتتمثل في تعزيز الشفافية والمساءلة من خلال وضع قواعد منظمة لعمل هذه الشركات، بالإضافة إلى التعامل مع الشركات الأمنية الخاصة باعتبارها عنصراً "مُكملاً" وليس "منافساً" للحكومة، وذلك من خلال مراجعة شروط التعاقد ووضع قواعد لضمان عدم الدخول في منافسة بين الطرفين على جميع المستويات بما فيها القدرات والإمكانيات العسكرية.

الديموغرافيا وأمن الطاقة

في هذا الجزء من الكتاب يوضح الخبراء كيف تؤثر الديموغرافيا وأمن الطاقة لدى أوروبا الغربية، على العلاقات الأمريكية – الأوروبية. فمن ناحية، وعلى مستوى الديموغرافيا، تعاني معظم أوروبا الغربية من انخفاض تعداد السكان وزيادة متوسط العمر المتوقع، بالإضافة إلى تناقص القوة العاملة إلى الربع بحلول 2050. ويتضح أثر ذلك في التالي:

1- اجتماعياً واقتصادياً: يتسبب في تحول سريع في التركيبة العمرية، وزيادة الإنفاق على المعاشات والصحة. كما أن تضاؤل نسبة القوى العاملة يعني قلة الموارد المتاحة لبرامج تحسين المعاشات والرعاية الصحية، مما يُسبب تُدني مستويات المعيشة.

2- عسكرياً: من المتوقع أن تعاني دول أوروبا الغربية من صعوبة في دعم قوتها العسكرية، من خلال تضاؤل حجم الإنفاق العسكري، وقلة حجم القوة العاملة في قطاع الدفاع "الأفراد"، وقلة نسب الشباب المتجهين للتجنيد.

وفي ذات السياق، تظل مسالة "الهجرة" من أكبر المشكلات التي تواجه دول أوروبا الغربية التي تجذب أكثر من مليون مهاجر سنوياً، مما يزيد من تعداد المواليد الأجانب، وتكمن آثار هذا المشكلة في الآتي:

1- ثقافياً: إحداث خلل في التوازن الثقافي لهذه الدول، فمثلاً من المتوقع أن تصل نسبة الأجانب في ألمانيا بحلول عام 2030 إلى 30%.

2- اجتماعياً: يسبب ارتباط العنصر الطائفي والإثني بالمهاجرين اضطراباً اجتماعياً في الدول الغربية، كما أن ثمة صعوبة في التكامل والاندماج بين المهاجرين والمجتمع الأصلي بسبب التجانس التاريخي للمجتمعات الأوروبية.

3- اقتصادياً: قد تواجه هذه الدول مشكلات اقتصادية بسبب استنزاف هؤلاء المهاجرين للموارد المتاحة.

4- سياسياً: يزداد نفوذ الأقليات "المهاجرين" في هذه الدول مع مرور الزمن، مما يؤثر على السياسة الخارجية للدول، وبالتالي لن يدعمون قرارات تجاه جماعاتهم الأصلية.

من ناحية أخرى، وفيما يتعلق بأمن الطاقة، تعد معظم دول أوروبا الغربية دول تابعة في مجال الطاقة، وتتركز التبعية في استيراد الغاز الروسي. وتسعى موسكو إلى استغلال هذا الأمر كسلاح سياسي لكسب مزيد من القوة في القارة الأوروبية، وقد اتضح ذلك خلال أزمتي جورجيا وأوكرانيا. ورغم ذلك، سيستمر الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي بسبب تزايد الطلب عليه.

وتأسيساً على ما سبق، يشير الكتاب إلى الآثار المترتبة على الولايات المتحدة وعلاقاتها مع الدول الغربية، وتتمثل هذه الآثار في:ـ

عدم اشتراك الدول الأوروبية في العمليات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة، وذلك حال ضعف الاقتصاديات الأوروبية، وتضاؤل الناتج المحلي الإجمالي، والتركيز على الشأن الداخلي، ما يجعل من الصعب تمويل عمليات عسكرية لمساندة واشنطن في تحركاتها العسكرية الدولية. 

استمرار "التبعية" لروسيا في مصادر الطاقة سيزيد من حالة "عدم الرغبة" لدى الدول الغربية للمشاركة في التحركات الدولية، مما يجعل البوصلة تتجه نحو صراع روسي - أمريكي للحصول على مزيد من النفوذ الدولي.

وفي كلتا الحالتين، سيكون على الولايات المتحدة أن تدفع الثمن بعد احتمالية تبدد التحالف التاريخي مع الغرب، وعليها أن تبحث عن حلفاء جدد أو عليها أن تواجه تحديات أمنها القومي بمفردها.

التغيرات المناخية في القطب الشمالي

يتطرق الكتاب في هذا الصدد إلى تأثير التغيرات المناخية في القطب الشمالي على مصالح وأهداف الأمن القومي الأمريكي من خلال عدة أبعاد، أولها الخلافات السيادية المتزايدة حول الموارد الطبيعية والطرق التجارية، والنفوذ العسكري المتزايد، وثانيها الإضرار بالأمن البيئي الناتج عن هذه التغيرات.

ويؤكد الكتاب على أهمية أن يكون تغير المناخ في المنطقة القطبية الشمالية وتداعياته، محوراً أساسياً في الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي، بالإضافة إلى عدة خطوات يجب أن تكون متضمنة في الاستراتيجية الأمريكية تجاه القطب الشمالي، كالتالي:ـ

1- محلياً: تعزيز الأمن الداخلي بما فيه الأمن البيئي من خلال البرامج العلمية وتعزيز تبادل المعلومات بين المؤسسات المعنية لرصد هذه التغيرات المناخية وآثارها، كما يجب على الولايات المتحدة التصديق على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ومواصلة عمليات المسح الجيولوجي للبحار والمحيطات.

2- دولياً: يجب أن تستمر واشنطن في علاقاتها الجيدة مع كندا، وتعمل بطريقة أكثر انفتاحاً مع روسيا لإيجاد أرضية مشتركة لحل الخلافات والصراعات القطبية، بالإضافة إلى الضغط على "مجلس القطب الشمالي" للموافقة على قبول أعضاء الاتحاد الأوروبي بصفة "مراقب" من أجل توفير المعلومات وتأكيد الاهتمامات البيئية، واقتراح توسيع دور هذا المجلس كمنظمة فاعلة ومهيمنة، والتأكيد على حظر الحفر في هذه المنطقة، بالإضافة إلى التعاون العسكري مع دول المنطقة القطبية الشمالية من أجل الأمن المشترك.

الآثار الناتجة عن مخلفات الفضاء

يوضح الباحثون المقصود بالمخلفات الفضائية المدارية Orbital  Space Debris بأنها مجموعة من النفايات الناتجة عن مخترعات الإنسان،  وتشمل هذه المخلفات أي شيء لم يعد له حاجة في الفضاء كقمر صناعي مُعطل أو أجزاء من الصواريخ الفضائية.

ويُحذر الكتاب من الآثار الوخيمة لمخلفات الفضاء، حيث تتراكم هذه الفضلات بصفة مستمرة، مما يؤدي إلى تصادم كارثي بينها وبين الأقمار الصناعية أو مع بعثات الرحلات الفضائية، وبالتالي تؤثر بالسلب على سلامة الأطقم الفضائية. كما أن هذه المخلفات تجعل من الصعب التحكم في الأجهزة المدارية الموجودة في الفضاء، ما يؤثر سلباً على الأمن القومي الأمريكي.

وفي هذه السياق، طرح العلماء أفكاراً جديدة للتخلص من مخلفات الفضاء وآثارها، ومنها:

1- استخدام أجهزة ريبوتات لجمع هذه المخلفات، ودفعها خارج الغلاف الجوي للاحتراق قبل أن تصل سطح الأرض، ولكن يظل تزويد هذه الأجهزة بالوقود مُكلف جداً.

2- الحد من انتشار هذه المواد في الفضاء بمنع إنتاجها، وذلك من خلال سياسات واتفاقيات دولية بين الولايات المتحدة وغيرها من الدول، ومن ثم حظر الاختبارات الفضائية التي تنتج مواد غير مرغوب فيها.

3- تقوية الأقمار الصناعية قبل إطلاقها في الفضاء، بحيث يجعلها أقل عرضة لهذه التصادمات، ويزيد من فرص بقائها.

4- وضع قواعد وآليات للرقابة على الفضاء، وإيجاد بدائل لقدرات الأقمار الصناعية. 

خلايا الوقود الميكروبية

يؤكد الكتاب على أنه ظل ندرة الموارد المتاحة، تبقى تكنولوجيا "خلايا الوقود الميكروبية" Microbial Fuel Cell سبيلاً جديداً يُوفر مزيداً من المياه والطاقة، وذلك من خلال إعادة استخدام الفضلات (الصرف، وبقايا الطعام ..إلخ).

وتشير الدراسة إلى أن هذه التكنولوجيا غير منفصلة عن اهتمامات وقضايا الأمن القومي الأمريكي، ويمكن تطبيقها في جميع المجالات، ويُستفاد منها على المستوى القومي في تقليل تبعية الولايات المتحدة في مصادر الطاقة والمياه، ما يؤدي إلى تقليل الصراعات المسلحة في جميع أنحاء العالم التي تتدخل فيها الولايات المتحدة.

ويمكن لتكنولوجيا "خلايا الوقود الميكروبية" توفير ما يصل إلى 50 مليون دولار يومياً، كما تساعد على تعزيز أمن الدول ضد التهديدات الإرهابية، والتخلص من النفايات الصحية بعد الحروب أو الكوارث الطبيعية، فضلاً عن إكساب الحكومات شرعية من خلال توفير الخدمات والمرافق للمواطنين، ويمكن أن تصبح أداة دبلوماسية واقتصادية لنشر السلام والديمقراطية التنموية.

مستقبل القوات الجوية

يتطرق الكتاب في الجزء الأخير منه إلى الحديث عن مستقبل القوات الأمريكية الجوية، من خلال تسليط الضوء على شقين، هما:ـ

1- نظم القيادة والتحكم command and control: يركز الكتاب هنا على مدى الاستفادة التي يمكن الحصول عليها من تعظيم الجوانب الإنسانية في معالجة المعلومات وصناعة القرارات في نظم القيادة والتحكم داخل القوات الجوية الأمريكية، إذ رغم تطور البيئة المعلوماتية، يظل تحديد أولويات القرارات في عقول البشر. ويبقي التحدي أن تنشأ نظم للقيادة والتحكم تجمع بين العقول البشرية ونظم المعلومات.

 وفي هذا السياق، يشير الباحثون إلى أهمية تواجد العنصر البشري في نظم الرقابة والتحكم للقوات الجوية، ويتأتى ذلك من خلال تأهيل العنصر البشري، والتركيز على المهام المكلف بها، والأهداف المحققة، مع الأخذ في الاعتبار بيئة العمل.

2- إيجاد طرق بديلة لوقود الطائرات: يشير الكتاب إلى أنه بات من الضروري البحث عن بدائل للوقود في ظل الندرة، ويتعلق هذا الأمر بشدة بالولايات المتحدة كونها المستهلك الأول للنفط في العالم، كما أنها لا تستطيع أن تُغطي الطلب الداخلي على النفط من خلال الإمداد المحلي الحالي، فهي  تستورد ما يقرب من 60% من النفط المطلوب. وبالطبع يمتد أثر ذلك إلى المؤسسة العسكرية الأمريكية التي تحتاج إلى توفير إمداد مستمر لتشغيل مركباتها، خاصةً القوات الجوية التي تستهلك 73% من النفط المستهلك سنوياً من قِبل المؤسسة العسكرية. وتأتي أهمية البحث عن بديل للوقود في ظل الأوضاع غير المستقرة في الشرق الأوسط، وفي ظل سعى الولايات المتحدة إلى عدم التبعية في مصادر الوقود.

 * عرض مُوجز لكتاب: "اتجاهات المستقبل والأمن القومي الأمريكي"، والصادر في يناير 2015 عن الجامعة الجوية الأمريكية.

المصدر:

John T. Ackerman, Kathleen Mahoney-Norris, Future Trends and US National Security (USA, Air University Press, January 2015) pp 302.