إدارة الخلافات:

كيف تتعامل روسيا وتركيا مع أزمة إدلب؟

18 June 2019


تعكس إدارة الموقف في إدلب، في إطار التحركات الدبلوماسية والميدانية، تباينًا ملحوظًا في سياسات كل من روسيا وتركيا. إذ تبدي موسكو، دبلوماسيًا، حرصها على تنفيذ الاتفاقيات التي توصلت إليها مع تركيا بشأن إدلب، لا سيما اتفاق سوتشي، والتي تجاوزت استحقاقاتها السقف الزمني لقيام تركيا بإنهاء وجود الفصائل المتشددة. لكن المعطيات الميدانية تعكس تزايد استياءها، بحسب تقارير روسية، من استمرار الأوضاع في إدلب على حالها دون حدوث تطورات على الأرض، ونفاد صبرها حيال إصرار تركيا على التأجيل أو المناورة في هذا الشأن، وهو ما يثير، في المقابل، امتعاض الأخيرة التي تعتبر أن الحملة العسكرية التي يشنها النظام السوري في إدلب مدعومة جويًا بغطاء روسي يوفر لها الحركة على محاور إدلب وحماة بما يناقض اتفاق خفض التصعيد. لكن المتغير الأبرز ميدانيًا في هذا السياق يتعلق باحتمالات تمدد المواجهة المحدودة بين النظام السوري وتركيا وفرض قواعد اشتباك جديدة بين الطرفين قد تفتح الباب أمام مواجهة عسكرية. 

مؤشرات متعددة: 

اتساع نطاق التباين في السياستين الروسية والتركية إزاء ما يحدث في إدلب، يبدو جليًا في مؤشرات ثلاثة رئيسية تتمثل في:

1- مقاربات غامضة: حرص الطرفان على تغليب أسلوب المناورة في التعامل مع ملف إدلب، حيث يبديان حرصهما على التمسك بمخرجات آستانا وسوتشي، وهو ما ظهر من البيان التركي الصادر في 18 يونيو الجاري، في أعقاب الاتصال الذي أجرى بين وزيرى دفاع البلدين التركى خلوصى أكار والروسي سيرجى شويغو. لكن البيان لم يشر، في الوقت نفسه، إلى ما تم تناوله من تفاصيل في هذا الشأن، لا سيما بعد التطورات الميدانية الأخيرة التي كشفت عن دعم روسيا لتحركات النظام في إدلب. ووفقًا لتقارير عديدة، فإن المقاربة التي تتبناها موسكو تقوم على انتزاع بعض المناطق الرخوة، على نحو ترى أنه قد لا يؤثر على التفاهمات التي توصلت إليها مع تركيا، ويساعد في الوقت نفسه في إبعاد بعض الفصائل عن القواعد العسكرية الروسية، وهو ما لم تبد أنقرة تجاوبًا معه حتى الآن، باعتبار أن ذلك قد يفرض في النهاية خيارات محدودة ومساحة أقل من الحركة أمامها.

2- قواعد اشتباك جديدة: في مقابل ذلك، كشفت تقارير ميدانية عديدة ومتطابقة عن أن تركيا عززت من تواجدها العسكري في أعقاب استهداف النظام السوري لنقطة المراقبة التركية في مورك بريف حماة الشمالي، وهو ما دفع الجيش التركي إلى الرد بقصف مواقع عسكرية للنظام في ريفى حماة الشمالي والشمالي الشرقي بالمدفعية الثقيلة. 

وقد اعتبرت اتجاهات مختلفة ذلك بداية مرحلة جديدة من المواجهة بين الطرفين، على نحو يعزز فكرة فرض قواعد اشتباك جديدة، في سياق التحركات العسكرية لكل الأطراف. فبالإضافة إلى تعزيز الوجود العسكري السوري- الإيراني على أطراف إدلب، أصدرت "هيئة تحرير الشام"، وما تسمى بـ"حكومة الإنقاذ في إدلب" بيانًا دعت فيه إلى ضم مقاتلين جدد إلى صفوفها في إطار تلك المواجهات، وطالبت من لم يشارك في القتال بالدعم المالي كبديل.

3- تضارب مصالح: في سياق الرؤية ذاتها، يشير بعض المراقبين الروس إلى أن إدلب تعكس نقطة تضارب مصالح بين كافة الأطراف، حيث لا تخفي موسكو امتعاضها من دعم أنقرة للتنظيمات الإرهابية في إدلب الذي يزيد، في رؤيتها، من احتمالات قيام الجيش السوري بشن مزيد من العمليات ضدها، بدعم روسي وإيراني، في حين ترى أنقرة أن موسكو تدعم التحركات العسكرية للنظام بغطاء جوي لتنفيذ مقاربتها الجديدة التي تهدف إلى إبعاد تلك التنظيمات عن المناطق التي تتواجد فيها قواعدها العسكرية، وهو ما سيدفعها إلى مطالبة موسكو بوقف تلك التحركات فورًا. 

سيناريوهات محتملة: 

تطرح تكتيكات التعامل الثلاثي الروسي– التركي– السوري مع التطورات الميدانية في إدلب ثلاثة سيناريوهات محتملة قد تتجه إليها: يتمثل الأول، في الاحتواء، حيث قد يدفع النهج البراجماتى الأطراف المختلفة إلى معالجة الأزمات الطارئة، والعودة إلى موازنة المصالح من أجل الحفاظ على تماسك التفاهمات التركية– الروسية ورأب الصدع الذي يفرضه ملف إدلب، على اعتبار أن استمرار هذه التفاهمات يعتبر أولوية لدى الجانبين خاصة في ظل تأزم علاقة كل منهما مع الولايات المتحدة، إلى جانب حرص موسكو على دعوة أنقرة باستمرار إلى ضرورة المضى قدمًا في تنفيذ استحقاقات إدلب حتى يتم تحريك المسار السياسي من خلال حل إشكاليات اللجنة الدستورية.

وينصرف الثاني، إلى الانفلات المحدود، الذي قد يحدث في حالة العمل بقواعد الاشتباك الجديدة مع استمرار قوات النظام على خط المواجهة مع التنظيمات الإرهابية في إدلب واندلاع جولات متبادلة من التصعيد مع تركيا مع تعثر المسار السياسي للتسوية. وهنا، ترجح اتجاهات مختلفة بروز مسار إدارة الملف بشكل غير معلن بين كل من أنقرة وموسكو، بحيث تسمح الأولى للثانية باستمرار العمليات العسكرية بعيدًا عن التاثير على النفوذ التركي في إدلب وضبط تحركات قوات النظام باتجاه  التنظيمات الإرهابية فقط والابتعاد عن مد قواعد الاشتباك إلى نقاط الانتشار التركي عسكريًا. 

ويتعلق الثالث، بإعادة حسابات الأطراف، وذلك في إطار ديناميكية الوضع في إدلب، نظرًا لحالة السيولة التى تفرض من آن لآخر تطورات ضاغطة. وهنا، فإن اتجاهات المواجهة داخل إدلب لا يمكن فصلها عن متغيرات عديدة منها قلق روسيا تجاه التوافق الملحوظ في المواقف بين الولايات المتحدة وتركيا والاتحاد الأوروبي حول التطورات في إدلب، وسعيها في الوقت نفسه إلى توجيه رسالة لواشنطن بأنها ما تزال تتحكم في تحديد اتجاهات الصراع داخل سوريا وتحركات المنخرطين فيه، لا سيما فيما يتصل بإيران، وهو ما بات يكتسب أهمية خاصة من جانبها، لا سيما بعد أن كان التأكيد على ضرورة إخراج القوات الإيرانية من سوريا أحد محاور الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى سوتشي في 14 مايو 2019. 

 وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن هناك تحديات عديدة تواجه استمرار التفاهمات الروسية– التركية في إدلب، ربما يتزايد تأثيرها مع الانتقال إلى الملف السياسي، إلا أن براجماتية الطرفين تدفع إلى انتهاج إدارة مرنة لاحتواء الخلافات، خاصة أن حساباتهما وموقعهما من الأزمات الأخرى لا توفر خيارات عديدة أمامهما في هذا السياق.