أزمة مادورو:

لماذا تصاعدت الاحتجاجات الشعبية في فنزويلا؟

07 June 2017


تشهد فنزويلا منذ مطلع شهر أبريل الماضي احتجاجات عنيفة ضد حكومة الرئيس الاشتراكي "نيكولاس مادورو" الذي تولى السلطة عام 2013، خلفًا للرئيس الراحل "هوجو شافيز"، حيث نزل مئات الآلاف من المواطنين إلى الشوارع، مطالبين برحيله، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة خلال العام الجاري. وفي المقابل يتهم "مادورو" المعارضة بمحاولة القيام بانقلاب ضده بدعم أمريكي.

وتأتي هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات في سياق أزمة متعددة الأبعاد تواجهها واحدة من أهم بلدان أمريكا الجنوبية منذ حوالي ثلاث سنوات.

تصاعد الاحتجاجات

لا يمكن اعتبار الاحتجاجات التي تشهدها فنزويلا في الوقت الراهن حدثًا غير متوقع بالنظر إلى تصاعد الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تواجهها البلاد منذ عام 2014، وهو العام الذي شهد موجة ضخمة من الاحتجاجات ضد مادورو اعتراضًا على ارتفاع مستويات العنف في المدن، والتضخم والنقص الحاد في السلع الأساسية. 

ولا تنفصل المظاهرات الأخيرة عن تصاعد موجة الاحتجاجات التي شهدتها فنزويلا خلال الأشهر الماضية؛ حيث اندلعت في ديسمبر الماضي (2016) اضطرابات واسعة النطاق، عقب القرار المفاجئ للرئيس الفنزويلي بإلغاء العملة "فئة المائة بوليفار". وما يميز الموجة الحالية من الاحتجاجات، أنها تُعد الأكثر دموية واستدامة منذ عام 2014. كما أن المعارضة أصبحت أكثر تنظيمًا وتوحدًا عما سبق، ونجحت في استقطاب عدد كبير من المتظاهرين فيما يُعرف بـ"أم المظاهرات" في التاسع والعشرين من إبريل الماضي.

لماذا الآن؟

على الرغم من أن الاحتجاجات التي تشهدها فنزويلا خلال الفترة الحالية لها أسباب هيكلية؛ إلا أن هناك عددًا من الأسباب التي يمكن وصفها بالطارئة أو المستجدة التي تسببت في تصاعد وتيرة وحدة هذه الاحتجاجات، وكذلك اتساع نطاقها الجغرافي، وزيادة أعداد المشاركين فيها. وتتمثل تلك الأسباب في:

أولا- تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد: مع تراجع أسعار النفط الذي يعد المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي، والذي يمثل حوالي 96% من إجمالي صادراتها؛ تراجع معدل النمو الاقتصادي، وانخفضت قيمة العملة الوطنية بشكل حاد، فضلا عن التراجع الكبير في الاحتياطي الأجنبي لدى فنزويلا إلى ما يقرب من 10 مليارات دولار، مما يجعلها مهددة بالإفلاس. ووفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي فمن المتوقع أن يصل معدل التضخم إلى 720.5%، ومعدل البطالة إلى 25% بنهاية العام الجاري.

ثانيًا- ارتفاع معدلات البطالة والفقر: ساهمت الأزمة الاقتصادية في وقوع أزمة إنسانية خطيرة في ظل النقص الحادّ في الأغذية والأدوية وغيرها من السلع الأساسية، مما أدى إلى تفشي الجريمة وعمليات السلب والنهب إلى معدلات غير مسبوقة، وقيام المواطنين باقتحام حدود فنزويلا مع كولومبيا والمكسيك للحصول على احتياجاتهم الغذائية. كما تدهورت أوضاع المستشفيات، مما تسبب في ارتفاع حالات الوفاة وانتشار الأمراض. فضلا عن تفاقم مشكلة الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، الأمر الذي دفع الكثير من الشركات إلى الإغلاق. كما قامت الحكومة بتقليص أيام العمل إلى يومين فقط أسبوعيًّا في محاولة منها لتوفير الكهرباء.

ثالثًا- انتشار الفساد الذي كان سببًا إضافيًّا في تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، واندلاع الاحتجاجات؛ حيث جاءت فنزويلا في الترتيب (166) من إجمالي (176) دولة شملها مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية عام 2016.

وكان لكافة هذه الأوضاع تأثيراتها الواضحة في استقرار الدولة الفنزويلية التي صُنفت ضمن فئة الدول "ذات التحذير العالي"، في مؤشر الدول الهشة Fragile States Index الصادر عن صندوق السلام لعام 2017، واحتلت المرتبة 85 من 178 دولة في العالم، حيث حصلت على 82.9 نقطة من 120 نقطة إجمالي المؤشرات، مما يعكس ارتفاع حالة "هشاشة الدولة".

الصراع بين السلطات

ساهمت الأزمة الدستورية التي شهدتها فنزويلا مؤخرًا في اندلاع الموجة الحالية من الاحتجاجات والمظاهرات، مع إصدار المحكمة العليا في مارس الماضي حُكمين يجمّدان سلطات البرلمان (الجمعية الوطنية)، وهو ما اعتبرته المعارضة انقلابا من جانب الحكومة على السُّلطة التشريعية التي سبق وصوتت لصالح عزل الرئيس مادورو، وذلك قبل أن تتراجع المحكمة عن هذا الحكم في أعقاب إدانة بعض دول أمريكا الجنوبية لما وصفته بـ"انهيار النظام الدستوري في فنزويلا".

وتأتي الأزمة الراهنة في فنزويلا في إطار الصراع القائم بين سلطات الدولة، فمن ناحية أولى تتمسك الجمعية الوطنية التي تسيطر المعارضة اليمينية على أغلبية مقاعدها بممارسة حقها في إجراء استفتاء على حكم مادورو، وذلك قبل انتهاء فترة ولايته الرئاسية المقررة في ديسمبر 2018، ومن ناحية ثانية تُحاول السلطة القضائية وكذلك اللجنة الوطنية للانتخابات (المواليتان لمادورو) عرقلة الإجراءات التي اتخذتها الجمعية الوطنية في هذا الصدد. كما تعبر الأزمة الراهنة -كذلك- عن تصاعد النهج السلطوي لحكومة مادورو، في ظل تزايد القيود المفروضة على الانتخابات والمؤسسات الديمقراطية.

وشكّل رد الفعل الحكومي العنيف على الاحتجاجات واستخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي تصعيدًا جديدًا للأزمة السياسية، وأثار المزيد من الغضب الشعبي. وفي محاولة لمواجهة موجة التظاهرات الاحتجاجية ضد نظامه، قام مادورو بنشر قوات عسكرية في الشوارع، وأعلن عن خطة لتسليح ما أسماه "الميليشيات المدنية" الموالية للحكومة، والتي يقدر عددها بنحو خمسمائة ألف عنصر. وفي المقابل، قام المحتجون بقطع الطرق والكباري الرئيسية، بهدف فرض مزيدٍ من الضغوط على الرئيس مادورو الذي حاول تهدئة غضب المعارضة من خلال توجيه الدعوة لها للبدء في جولة جديدة من الحوار برعاية الفاتيكان.

كما أعلن بصورة غامضة عن استعداده لإجراء انتخابات دون توضيح تفاصيل ذلك أو توقيته، وهو ما اعتبره بعض المحللين إشارة إلى احتمال قيام الحكومة بالإعلان خلال الأيام القادمة عن موعد لإجراء الانتخابات المحلية التي كان من المقرر أن تُجرَى العام الماضي. كذلك حاول مادورو احتواء الأزمة من خلال الإعلان في الأول من مايو الماضي عن رفع الحد الأدنى للأجور للمرة الثالثة هذا العام.

وتفاقمت الموجة الحالية من الاحتجاجات وازدادت عنفًا في أعقاب إعلان الرئيس الفنزويلي في الأول من مايو الماضي عن تشكيل جمعية تأسيسية جديدة، يخول لها سلطة صياغة دستور جديد للبلاد، على أن تُشكَّل من الممثّلين لمختلف قطاعات المجتمع غير المنتمين إلى أحزاب سياسية، وهي الخطوة التي اعتبرها كثيرون محاولةً من قبل مادورو للالتفاف على مطالب المعارضة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.

تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية

لا يمكن فهم الموجة الحالية من الاحتجاجات بمعزل عن الضغوط الإقليمية والدولية التي تواجهها فنزويلا؛ فالضغوط التي تتعرض لها على الصعيد الإقليمي لا تنبع فحسب من الهزائم الانتخابية التي مُنيت بها بعض الحكومات اليسارية في أمريكا الجنوبية على مدار العامين الماضيين، والتي تسببت في تقليص الدعم الإقليمي لحكومة مادورو. ولكن تعرضت فنزويلا لضغوط قوية من قبل بعض دول أمريكا الجنوبية التي أدانت فرادى أو من خلال عضويتها المشتركة في منظمة الدول الأمريكية بعض الإجراءات التعسفية التي مارستها حكومة مادورو، وكان آخرها دعوة المنظمة إلى عقد اجتماع عاجل لوزراء خارجيتها لمناقشة الوضع في فنزويلا، وإعلان أمينها العام "لويس ألماغورو" عن تطبيق الميثاق الديمقراطي للمنظمة عليها، وتعليق عضوية فنزويلا فيها في حال لم يتم الإعلان عن موعد إجراء الانتخابات العامة في أسرع وقت ممكن. 

وقد دفع هذا حكومة كاراكاس إلى الإعلان رسميًّا عن البدء في إجراءات الانسحاب من المنظمة، احتجاجًا على ما اعتبرته تدخلا سافرًا في شئونها الداخلية، كما اعتبرت ذلك خطوة كبيرة تهدف إلى إفشال "التدخل الإمبريالي" في البلاد. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة رمزية بالأساس لأنها لا يمكن أن تحدث بشكل فعلي سوى بعد مرور عامين كاملين تستمر خلالهما فنزويلا في الالتزام بقواعد ومبادئ المنظمة، وأولها احترام المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فمن المؤكد أنها ستزيد من عزلتها إقليميًّا.

وعلى الصعيد الدولي، تبرز الضغوط الأمريكية على النظام الاشتراكي في فنزويلا باعتبارها تمثل مصدر دعم قويًّا للمعارضة اليمينية، في الوقت الذي ينظر فيه مادورو إليها على أنها محاولة لتدبير انقلاب ضده بمساعدة الداخل. وقد وصف الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" مؤخرًا في تصريح له التطورات الأخيرة في فنزويلا بأنها "وصمة عار للبشرية"، بعد أن كانت واحدة من أغنى الدول في أمريكا الجنوبية على حد تعبيره. كما سبق وفرضت وزارة الخزانة الأمريكية في مايو الماضي عقوبات ضد ثمانية أعضاء في المحكمة العليا بفنزويلا، تم بموجبها تجميد جميع أصول الأفراد المعنيين داخل الولايات المتحدة، ومنع الأمريكيين من الانخراط في معاملات تجارية معهم. 

وتُعد المحاولات الأخيرة لإدارة "ترامب" للضغط على فنزويلا امتدادًا لسياسة سلفه "باراك أوباما" الذي قام في مارس 2015 بإصدار مرسوم اعتبر فيه فنزويلا تهديدًا للأمن القومي الأمريكي.

كما بدأ البرلمان الأوروبي يمارس ضغوطه على فنزويلا، وذلك بعدما أصدر بيانًا في 27 أبريل الماضي يُدين "القمع الوحشي" للمتظاهرين من قبل قوات الأمن الحكومية. وطالب البيان حكومة فنزويلا بـ"ضرورة استعادة النظام الديمقراطي بالكامل، والإفراج الفوري عن جميع السجناء السياسيين، كما دعا الحكومة إلى وضع جدول زمني يسمح بإجراء انتخابات حرة وشفافة"، الأمر الذي دفع رئيس البرلمان الفنزويلي لأن يطلب من البرلمان الأوروبي فرض عقوبات ضد نظام الرئيس مادورو.

وفي السياق ذاته، صرح مؤخرًا الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو جوتيريس" في بيان له: "إننا نشعر بالقلق إزاء التطورات الأخيرة في فنزويلا، وندعو الحكومة الفنزويلية والمعارضة إلى إحياء جهود الحوار، خصوصًا حول قضايا أساسية من بينها توازن السلطات، والبرنامج الزمني للانتخابات، وحقوق الإنسان والقضاء، والوضع الاقتصادي والاجتماعي".

تأثيرات متنوعة

من المتوقع أن تكون للاحتجاجات التي تشهدها فنزويلا تأثيرات داخلية وخارجية مهمة. فعلى الصعيد الداخلي، تنذر الاحتجاجات الحالية بحدوث مزيدٍ من التدهور في الأوضاع الاقتصادية والسياسية، كما أنها ستعمق من الأزمة الإنسانية والغذائية المتفاقمة في البلاد، خاصة أنها لم تعد قاصرة على المتظاهرين من الطبقتين الوسطى والعليا، بل امتدت لتشمل مختلف فئات المجتمع، خاصة الفقراء وساكني العشوائيات الذين طالما كانوا من الداعمين الرئيسيين للنظام الاشتراكي في فنزويلا، فضلا عن انضمام فئات جديدة للاحتجاجات -ومنها الأطباء- احتجاجًا على تدهور الخدمات الصحية. هذا إلى جانب اتساع نطاق هذه الاحتجاجات، وامتدادها إلى عدد من الأحياء التي كانت تُعد من المعاقل الرئيسية للحزب الحاكم "حزب فنزويلا الاشتراكي الموحد".

ومن المرجح أن تكون للموجة الحالية من الاحتجاجات تأثيراتها الواضحة على الاستقرار السياسي في البلاد، خاصةً مع عدم ظهور أي بادرة على تراجع حدة الاحتجاجات الحاشدة المستمرة منذ شهرين، في ظل استمرار التصاعد في وتيرة العنف من جانب الحكومة والعنف المضاد من جانب المعارضة، ووقوع حالات اعتداء على الممتلكات العامة، والمباني الحكومية، ووسائل النقل العام، فضلا عن استمرار إغلاق المعارضة للعديد من الشوارع الرئيسية.

ومن الممكن أن تُمثِّل هذه الاحتجاجات بعد فشل الحكومة في تهدئة الغضب الشعبي، وبعد حالة خروج الوضع عن السيطرة؛ نقطة تحول رئيسية في اتجاه إنهاء حقبة الحكم الاشتراكي لفنزويلا، والذي يعود إلى عام 1999، وذلك في حال حدوث انقسامات داخل الحزب الحاكم على نحو يدفع مادورو إلى تحديد موعد لإجراء الانتخابات الرئاسية على وجه السرعة، أو ربما الاستقالة لتهدئة الأوضاع المتوترة في البلاد. وفي هذا الإطار، برز انتقاد "لويزا أورتيجا دياز" (المدعي العام في فنزويلا) لخطة الرئيس نيكولاس مادورو، الرامية إلى تشكيل جمعية تأسيسية جديدة، وتعد هذه من الحالات النادرة التي يكون هناك انتقاد علني من أحد أعضاء الحزب الاشتراكي الحاكم لسياسات مادورو.

وعلى الصعيد الخارجي، فإن قرار فنزويلا إنهاء عضويتها في منظمة الدول الأمريكية سوف تكون له تداعياته على هذه المنظمة الإقليمية الأقدم في الأمريكتين، وقد يؤدي ذلك -من ناحية- إلى تفكك هذه المنظمة في حال حذت كلٌّ من الإكوادور وبوليفيا وأوروجواي حذو فنزويلا. وسوف يسهم هذا القرار في زيادة عزلة فنزويلا في محيطها الإقليمي من ناحية أخرى. وفي حال بلغت هذه الاحتجاجات مداها، ونجحت المعارضة اليمينية في الإطاحة بحكم مادورو الاشتراكي؛ فإن ذلك سوف يمثل امتدادًا لموجة التحول السياسي التي تشهدها أمريكا اللاتينية نحو اليمين، والتي بدأت في أعقاب النجاحات التي حققها تيار اليمين في الانتخابات الرئاسية في كلٍّ من الأرجنتين وبيرو وبارجواي، إلى جانب عزل البرلمان البرازيلي للرئيسة اليسارية "ديلما روسيف" عقب توجيه الاتهام لها بالتلاعب في موازنة الدولة. 

ومن جملة ما سبق، يمكن القول إن الاحتجاجات الحالية في فنزويلا في سبيلها للمزيد من التصعيد في ظل تأكيد المعارضة على الاستمرار في التظاهر، حتى يتم الاستجابة لكافة مطالبها، وفي مقدمتها إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. هذا بالإضافة إلى أن رفض المعارضة استئناف الحوار مع الحكومة، مدعومة في ذلك بالضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة على مادورو؛ يُنذر بمزيدٍ من تفاقم وتدهور الأوضاع في البلاد.