سياسات متكاملة:

مسارات الخروج من أزمة "التضخم" في مصر

21 February 2017


يبدو أن ارتفاع معدل التضخم في مصر إلى مستويات قياسية في الأشهر الماضية، هو أحد المخاطر الرئيسية التي لا تزال تواجهها الحكومة المصرية حتى الآن في ظل تطبيقها برنامج الإصلاح الاقتصادي. فبالتزامن مع تحرير أسعار عدد من السلع والخدمات العامة، وزيادة أعباء ضريبة القيمة المضافة؛ قرر البنك المركزي المصري في شهر نوفمبر 2016 تحرير سعر الصرف أيضًا لتنخفض قيمة الجنيه مقابل الدولار إلى أكثر من النصف. 

وفي ضوء التدابير السابقة، شهد الاقتصاد المصري زيادات سريعة ومتوالية في أسعار السلع والخدمات بالسوق المصرية، بما أدى إلى خلق ظروف معيشية أكثر صعوبة لطبقات المجتمع كافة، كما أثرت سلبًا على خطط المستثمرين بالسوق المصرية. ومن ثم، فإن كبح الاتجاه الصعودي لمعدلات التضخم سيظل أحد التحديات الرئيسية للاقتصاد المصري في الشهور المقبلة.

أغلب الظن أن الحكومة المصرية ربما يكون بمقدورها السيطرة على التضخم طالما زالت الأعراض الناجمة عن تطبيق تدابير الإصلاح الاقتصادي، وبالتزامن أيضًا مع الاستقرار المتوقع لسوق الصرف التي ربما يواكبها استعداد البنك المركزي لتشديد السياسة النقدية. ومن المؤكد أن السياسات الكلية الداعمة لتحسين مناخ الاستثمار، ودعم المشروعات الصغيرة، بجانب استمرار برامج الحماية الاجتماعية المواجهة للطبقات الفقيرة، ستلعب دورًا محوريًّا في خلق فرص العمل، وزيادة الدخول، ومن ثم امتصاص الآثار السلبية لمعدلات التضخم في المستقبل القريب.

مستويات قياسية 

اقترنت تدابير برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أطلقته الحكومة المصرية في مارس 2016 بظهور العديد من الآثار الاقتصادية السلبية المصاحبة له، وعلى رأسها ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، لا سيما في الأشهر الأخيرة من العام 2016. ويقوم برنامج الإصلاح الاقتصادي للحكومة المصرية على عدة محاور لتعزيز كفاءة مخرجات السياسات المالية والنقدية والتجارية.

أولى هذه المحاور تنصرف إلى اعتماد سعر صرف مرن للجنيه المصري أمام الدولار، بجانب ضبط المالية العامة لإبقاء مستويات الديون عند مستويات يمكن تحملها، وكذلك تقوية شبكة الأمان الاجتماعي للتعامل مع الآثار السلبية لبرنامج الإصلاح، وأخيرًا تحسين مناخ الاستثمار من أجل دعم فرص النمو الاقتصادي.

وفي إطار الأهداف السابقة، أقر البنك المركزي المصري في 3 نوفمبر 2016 تحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار في البنوك المصرية، لتنخفض قيمة الجنيه مقابل الدولار حينئذ إلى أكثر من 50% وليصل إلى مستويات تتعدى 14 جنيها بدلا من 8.88 في السابق. والقرار السابق، أعقبه قيام وزارة البترول المصرية بزيادة في أسعار الوقود بنسب تتراوح بين 30-47%.

قبل اتخاذ الخطوة السابقة، واصلت الحكومة المصرية منذ عام 2015 إجراءاتها بزيادة أسعار الكهرباء وعدد من الخدمات العامة الأخرى، فيما أقر مجلس النواب في أغسطس 2016، قانون ضريبة القيمة المضافة الذي يقضي بزيادة الضريبة على كثير من السلع والخدمات إلى 14% بدلا من 10% في السابق. 

مجمل الإجراءات السابقة، فرضت زيادات متوالية وسريعة للمستويات العامة للأسعار، بما أدى إلى ضغوط تضخمية شديدة آلت إلى انتقال رقم معدل التضخم من خانة الآحاد إلى خانة العشرات، وذلك بدءًا من شهر إبريل 2016 عند مستوى 10.9%، ثم سجل معدل التضخم أعلى مستوى له في العام السابق في شهر ديسمبر عند مستوى 24.3%. وأيضًا في شهر يناير 2017، ارتفع معدل التضخم ليصل إلى أعلى معدل له منذ عام 2005 عند 29.6%.

معدل التضخم الشهري على أساس سنوي في مصر 2016 (%)


المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة

بتحليل بيانات التضخم الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يُمكن الإشارة إلى أن سلع الطعام والشراب هي أكثر المجموعات السلعية تأثرًا بموجات التضخم على مدار الشهور الماضية. وطبقًا لبيانات التضخم في شهر يناير 2017، فقد شهدت أسعار مجموعة الطعام والشراب ارتفاعا بنحو 19.8%. الزيادات السابقة في السلع الأساسية تعني من دون شك تعريض شرائح مختلفة من المجتمع لمخاطر عدم تلبية الاحتياجات الأساسية ومخاطر انعدام الأمن الغذائي. 

وبحسب ما تُشير إليه أغلب التوقعات الاقتصادية، فمن المرجح استمرار معدل التضخم عند مستوياته المرتفعة حتى نهاية 2017 تأثرًا باتخاذ مزيد من التدابير المتعلقة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، وهو ما يعني بقاء معدلات التضخم عند مستويات لا تقل عند 25% شهريًّا. بيد أن الاتجاه الصعودي السابق ربما يخفف من حدته التحسن المستمر لأداء المؤشرات الكلية للاقتصاد المصري، وذلك كما سنوضح لاحقًا. 

تأثيرات متعددة

أدت الضغوط التضخمية الشديدة في الشهور الماضية إلى عدد من الآثار السلبية على الأوضاع الاقتصادية، أبرزها فيما يلي:

1- قطاع المستهلكين:

زادت المستويات المرتفعة للتضخم في الشهور الماضية كثيرًا من مخاطر انعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي لطبقات المجتمع لا سيما المتوسطة والفقيرة. فقد أدى ارتفاع المستويات العامة للأسعار إلى تآكل القوى الشرائية للمواطنين، لا سيما الفئات ذات الدخول الثابتة، وهو الأمر الذي اضطرت معه كثير من الأسر المصرية إلى إظهار مرونة عالية في كبح أنماط الاستهلاك والادخار المعتادة. وبنهاية عام 2015، بلغ من هم تحت خط الفقر في مصر نحو 27.8% في نهاية 2015 مقارنة بـ25.2% في 2012/2013، ومن ثم فقد تقود الصعوبات المعيشية الراهنة إلى مزيد من اتساع قاعدة الطبقات الفقيرة أو المعرضة للفقر في المجتمع المصري. 

2- قطاع الأعمال:

قد يبدو للوهلة الأولى أن معاناة قطاع الأعمال لمستويات التضخم أقل وطأة من تأثر المستهلكين، ولكنها في حقيقة الأمر قد تمثل معاناة شديدة له. واقع الأمر أن اتجاه الأسرة المصرية لترشيد النفقات أدى إلى ركودٍ في عدد من أسواق السلع لا سيما السلع غير الأساسية، كسوق السيارات الذي انخفضت مبيعاته 28.8% في عام 2016. 

ويبدو التأثير المباشر السابق مؤثرًا بقوة على الأداء التشغيلي لكافة الشركات، بما يضر بنماذج أعمالها، ويؤثر على تحديد التدفقات النقدية الخاصة بها وأرباحها وخططها الاستثمارية في المستقبل القريب. ولكن الوضع التضخمي السابق قد يوفر من ناحية أخرى فرصًا استثمارية، لا سيما في تلك القطاعات التي شهدت أسعار منتجاتها ارتفاعًا كبيرًا بما قد يعزز أرباح المشغلين أو الشركات، مثل قطاع الطاقة أو القطاعات الأخرى التي تشهد حاليًّا إحلالا محل الواردات.

مسارات محتملة

على الرغم من أن أغلب التوقعات الاقتصادية لا تصب في صالح تباطؤ معدلات التضخم في الشهور المقبلة، حيث من المرجح أن تظل رقمًا في خانة العشرات، وذلك عند مستوى قد يتعدى 25% حتى نهاية العام المالي الجاري، إلا أن معدل التضخم قد يتباطأ تدريجيًّا في الفترة التالية مع تحسن أداء الاقتصاد المصري.

وفي هذا الصدد، يتوقع صندوق النقد الدولي أن يتباطأ معدل التضخم في مصر بعد زوال المضاعفات والأعراض الجانبية الناجمة عن تدابير تعويم العملة، حيث سينخفض إلى 13.3% في عام 2017/2018 ثم 9.6% في عام 2018/2019. بيد أن بلوغ علاج إشكالية معدلات التضخم المرتفعة وتشوهاتها سيتوقف على مستويين من المعالجة هما كالآتي:

المستوى الأول: آليات الكبح (قصير الأجل)

قد يبدو أكثر واقعية لصناع القرار الاقتصادي بمصر حاليًّا التعويل على بلوغ هدف كبح أو استهداف التضخم في ظل العديد من المؤشرات الإيجابية التي ترجح تراجع معدلاته في الفترة المقبلة، وهي فيما يلي:

1- سيولة دولارية:

منذ تحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016، شهد الاقتصاد المصري تدفقات دولارية كبيرة. وفي هذا الصدد، جذبت مصر استثمارات أجنبية في الأسهم والسندات المحلية بقيمة 2.5 مليار دولار منذ حوالي ثلاثة أشهر، كما بلغت الإيداعات في البنوك المصرية 12.3 مليار دولار خلال نفس الفترة.

ونتيجة لذلك، ارتفعت قيمة الجنيه أمام الدولار ليصل إلى ما دون 16 جنيهًا في النصف الثاني من شهر فبراير 2017 بعد مستويات تعدت 19 جنيهًا سابقًا، وفي الوقت نفسه استقر سعر الدولار الجمركي في الشهر الجاري عند مستوى 16 جنيهًا.

وبخلاف التدفقات النقدية قصيرة الأجل، فإن مصر على ما يبدو بحاجة إلى تدفقات دائمة من الاستثمارات الأجنبية وإيرادات السياحة لكي تتمكن من استدامة سد فجوة التمويل الأجنبي الكبيرة التي شهدتها السنوات الماضية، والتي ستعطي دفعة قوية لاستقرار سوق الصرف وارتفاع قيمة الجنيه أمام الدولار، بما قد يؤدي إلى انخفاض كلفة الواردات نسبيًّا، والإسهام في مزيد من استقرار أسعار السلع بالأسواق المصرية مستقبلا.

2- تشديد السياسة النقدية:

وأما بالنسبة لدور السياسة النقدية في كبح التضخم، فينبغي على البنك المركزي المصري الاستعداد الدائم لتشديد سياسته النقدية إن استمرت الضغوط التضخمية، وهو نفس النهج الذي تبناه عقب قرار تحرير سعر الصرف، حيث رفع أسعار الفائدة 300 نقطة أساس ليصل سعر الفائدة على الإيداع في البنك المركزي حاليًّا 14.75%، وعلى الإقراض 15.75% في خطوة تبدو مهمة لامتصاص السيولة المحلية المتاحة في السوق.

المستوى الثاني: آليات التعويض (متوسط الأجل)

هناك مجموعة من التدابير المجتمعية والاقتصادية التي قد تلعب دورًا تعويضيًّا في امتصاص الآثار السلبية للتضخم على مستوى المستهلكين مستقبلا، هي فيما يلي:

1- المرونة الاجتماعية:

أظهرت الأسر المصرية مرونة عالية في التكيف مع الآثار السلبية للتضخم، حيث اضطر الكثير منها لكبح أنماط الاستهلاك والادخار المعتادة. وبرغم أن مثل هذ الحل قد لا يبدو مقبولا على الدوام في التعامل مع إشكالية التضخم إلا أنه قد يكون أحد المداخل المجتمعية الرئيسية لامتصاص موجات التضخم العالية في الشهور الماضية أو المقبلة.

2- الدعم الاجتماعي:

قد يبدو اقتراب الحكومة المصرية من هدفها نحو ضبط ماليتها العامة عاملا مشجعًا نحو صياغة صور الدعم الاجتماعي لا سيما بالنسبة للفئات الأكثر تأثرًا بالآثار السلبية المصاحبة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي ومن بينها التضخم. ومن بين الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المصرية في الفترة الماضية في هذا الصدد زيادة برنامج دعم تكافل وكرامة إلى حدود 6 مليارات جنيه في العام الجاري، كما تم رفع الحد الأدنى من الإعفاء من ضريبة الدخل من 13.5 ألف جنيه إلى 24 ألفًا حاليًّا.

في الفترة المقبلة، قد يبدو ملحًّا أيضًا أمام صناع القرار إعادة النظر مرة أخرى في هيكل أجور القطاع الحكومي من أجل تعزيز العدالة والشفافية، كما بالإمكان الاستجابة لبعض المطالب المجتمعية نحو رفع الحد الأدنى للأجور الذي يقف عند حدود 1200 جنيه شهريًّا، والذي يُعد ضروريًّا للتعامل مع مشكلة التضخم الحالية. 

3- التمكين الاقتصادي:

وكآليات تعويضية أخرى لأعباء التضخم الجامح، من الضروري دعم إتاحة الفرص الاقتصادية للمواطنين من خلال إعادة صياغة التشريعات المصرية ومنظومة الخدمات العامة من أجل دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة وفرص الحصول على التمويل والأراضي والخدمات الصحية والتعليمية. والسياسات الكفء في المجالات السابقة تئول من دون شك إلى مزيد من خلق فرص العمل وزيادة الدخول وتحسين المستوى المعيشي. 

4- زخم الاستثمارات:

تبذل الحكومة المصرية جهودًا واسعة لتحسين مناخ الاستثمار، ومن أهمها مؤخرًا إقرار حزمة الحوافز الاستثمارية الجديدة التي من المقرر أن يضمها قانون الاستثمار الجديد. وهي مجهودات ضرورية لإنعاش الاستثمارات، سواء المحلية أو الأجنبية، بما قد يدعم فرص نمو الاقتصاد المصري، وهناك العديد من القطاعات الواعدة التي ربما تستفيد من التحسينات السابقة، ومنها قطاع الطاقة، والزراعة، وتكنولوجيا المعلومات، بالإضافة إلى بعض الصناعات التحويلية الأخرى مثل السيارات.

وربما يكون الرهان على القطاعات السابقة مفيدًا من نواحٍ عديدة، منها: خلق فرص العمل، وتحسين المستوى المعيشي. بيد أن التعويل على تلك القطاعات في بلوغ الأهداف السابقة ينبغي أن يرتبط ببرامج تنموية قصيرة الأجل بدلا من التركيز على المشروعات كبيرة الحجم طويلة الأمد التي تعاني منها مصر نتيجة الخبرة الطويلة من التعقيدات والتعثر.

ختامًا، يمكن القول إن الخروج من مأزق التضخم في مصر حاليًّا يتطلب التعامل على مستويات عديدة من السياسات الاقتصادية التي بنبغي إدارتها بشكل متكامل ومتعاون لكي يتمكن الاقتصاد المصري من الوصول إلى الوضع التوازني للمستويات العامة للأسعار في الأجل القريب.