ثمن التقشف:

مخاطر الإفقار المتزايد لـ "الطبقة المتوسطة" في المنطقة العربية

06 December 2016


دفعت الظروف الاقتصادية المتأزمة حكومات العديد من الدول العربية مؤخرًا إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للحصول على قروض لمساندة الاقتصاديات المتعثرة، والمساهمة في عملية إنعاش الاقتصاد، من خلال تعزيز الثقة الدولية في قدراتها على التعافي، ومن ثمّ تحسين فرصها في جذب الاستثمارات والتمويل من الجهات المانحة الدولية. 

لكن في الوقت نفسه، ارتبطت تلك القروض بشروط متشددة من جانب صندوق النقد، والذي ركز بشكل أساسي على ضرورة تبني الدول العربية سياسات تقشفية صارمة لتحقيق التوازن المالي، وتقليص العجز في الميزانية، وتخفيض الدين العام، وتنفيذ عددٍ من الخطط الإصلاحية. وتركزت تلك الشروط بشكل أساسي حول تحرير سعر الصرف، وتبني إصلاحات ضريبية واسعة، وتطبيق ضريبة القيمة المضافة لزيادة العائدات الضريبية للحكومة، بالإضافة إلى خفض الدعم الحكومي على السلع الأساسية والطاقة، وتقليص حجم الإدارة العامة، وتخفيض مرتبات موظفي الدولة.

وحرص الصندوق والحكومات العربية على تأكيد أن برامج الإصلاح المتفق عليها سوف تعمل على تخفيف الآثار السلبية لتلك القرارات من خلال توجيه نسبة من وفورات المالية العامة الناجمة عن خفض الدعم إلى مزيدٍ من الدعم والتحويلات النقدية للشرائح الأكثر احتياجًا من كبار السن والأسر الفقيرة. 

وفي الوقت الذي تباينت فيه الآراء حول جدوى تلك السياسات الاقتصادية، ومدى ملاءمتها للدول العربية، فإن ثمة تساؤلات حول تأثيرات ومخاطر برامج التقشف على الطبقة المتوسطة، نظرًا لأهميتها في بنية الأنظمة السياسية العربية، بل ومستقبل الدولة في هذه المنطقة.

الطبقة المتوسطة.. فئات وتأثيرات متفاوتة:

على الرغم من تعدد التعريفات لمفهوم الطبقة المتوسطة، والتأكيد على اتسامها بدرجة عالية من التباين في مستويات التعليم والدخل والمكانة والهيبة وفرص الحياة، إلا أنه يوجد قدر كبير من الاتفاق على أنها تجسد بعض صفات القوة العاملة، مثل عدم ملكية وسائل الإنتاج في أغلب الأحيان، في حين تمتلك بعض سمات البرجوازية من حيث الاشتراك -بدرجات متفاوتة- في إدارة رأس المال والسيطرة. 

فعلى مستوى التركيب أو الهيكل، تشمل الطبقة المتوسطة بشكل عام: الموظفين والمهنيين من أصحاب المرتبات والدخول الثابتة، وأصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وأصحاب الحيازات المتوسطة، والشرائح الأعلى دخلا من موظفي القطاع الخاص، فضلا عن ظهور فئات صاعدة جديدة تنتمي للطبقة المتوسطة ارتبط ظهورها بعملية العولمة تشمل العاملين في مجال المعلوماتية.

ونظرًا لتباين الفئات التي تضمها الطبقة المتوسطة، اتفقت الأدبيات على تقسيم الطبقة المتوسطة إلى ثلاث شرائح (دنيا، ومتوسطة، وعليا)، بما يُعطي مساحة أكبر للتحليل، مع مراعاة الاختلافات بين الفئات الثلاث، لأن التفاوت بين تلك الشرائح في مستويات الدخول يؤدي إلى اختلاف في تأثيرات السياسات الاقتصادية عليها. 

وفي هذا السياق، تتفاوت الآثار السلبية للسياسات التقشفية على الطبقة المتوسطة في المنطقة العربية. إذ تُرجح العديد من الدراسات أن الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، وعادةً ما تكون هي الأقرب إلى السلطة وصانع القرار، لا يتدهور وضعها غالبًا بشكل كبير بتأثير السياسات التي تفرضها المؤسسات المانحة الدولية، بل على العكس قد تنجح في تحقيق مكاسب من تلك السياسات، وزيادات في دخولها النقدية نتيجة انخراطها في مجالات التجارة والاستهلاك والعمل مع الشركات الدولية. 

أما الشريحة المتوسطة والدنيا التي يعيش أفرادها على الدخول الثابتة، فتكون من أكثر الفئات تضررًا نتيجة للسياسات التقشفية، حيث تتضرر بشكل كبير من تراجع الدعم السلعي، وارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى الآثار السلبية المرتبطة بتباطؤ النمو، وارتفاع معدلات البطالة، خاصةً بين الفئات الأكثر تعليمًا في ضوء تجميد التوظيف الحكومي. وتزداد صعوبة الأمر بالنسبة للشريحة الأدنى من الطبقة المتوسطة (مثل صغار الموظفين في الجهاز الإداري للدولة)، خاصةً في ضوء انخفاض كفاءتها المهنية، ومؤهلاتها العلمية، بما قد يدفع العديد منها إلى التراجع إلى الطبقة العاملة أو العمالة الهامشية.

الطبقة المتوسطة والتقشف.. لماذا؟

إذا كانت الطبقة المتوسطة متعددة الشرائح، ومن ثم تتباين التأثيرات الاقتصادية عليها، فإن التساؤل المهم هنا: ما هي الأسباب التي تربط بين تكريس الآثار السلبية للسياسات التقشفية، وتركزها على الطبقة المتوسطة والفقيرة، في حين أن نصيب الطبقة الأغنى يكون محدودًا من تحمل عبئها، وهنا يُمكن التطرق إلى نقطتين أساسيتين: 

أولا- طبيعة النموذج التنموي، حيث اعتمد هذا النموذج بالأساس منذ نشأة الدولة القومية العربية على بناء طبقة متوسطة لدعم الاستقرار، ومن ثم كرس الإنفاق العام الجاري باتجاه توسيع المصادر (التعليمية، والصحية، والتعيينات في الوظائف الحكومية، وغيرها) التي تشكل هذه الطبقة، ولم تستطع النخب الحاكمة بعد الثورات تغيير هذا النموذج، ومن ثم استمرت في تبني نفس السياسات، وحتى مع وصول بعض النخب "الإسلامية" إلى الحكم في بعض دول الثورات العربية، فإنها ظلت تدور في فلك السياسات الليبرالية والنيوليبرالية، والاندماج في الاقتصاد العالمي. 

واضطرت النظم العربية الحالية لتبني سياسات تقشفية أشد بالنظر إلى سوء الأوضاع الاقتصادية، وحاجة تلك الدول إلى الحصول على تمويل من المؤسسات الدولية المانحة، والتي تشترط مثل تلك الإجراءات التقشفية. ويرتبط ذلك برؤية تلك المؤسسات في إدارة العملية الاقتصادية، حيث تعطي الأولوية القصوى للتحكم في العجز المالي عبر اعتماد سياسات تقشفية، خاصة فيما يتعلق بضبط الموازنة العامة، وتحرير السوق، وخفض الدعم، كمدخل ضروري كفيل بإرجاع الثقة للقطاع الخاص، وبالتالي رفع وتيرة الاستثمار والنمو.

في حين تنظر نظرة سلبية إلى برامج الحماية الاجتماعية المرتبطة بتقديم الدعم الحكومي في السلع الأساسية والطاقة، حيث ترى أن الإنفاق على تلك البنود يؤدي إلى تفاقم شديد في الموازنة وميزان المدفوعات، ومن ثم تفضل تقليل الإنفاق على تلك البرامج، وتوجيه الوفورات الناتجة عنه إلى استحداث شبكات أمان اجتماعي تأخذ شكل تحويلات نقدية موجهة للفقراء. 

فعلى مدار العامين الماضيين، خفضت الجزائر من نسب الدعم الموجه لبعض المواد، مثل الوقود، واتجهت تدريجيًّا نحو الدعم (النقدي) الموجه إلى العائلات مباشرة، بدلا من دعم المواد الاستهلاكية تنفيذًا لتوصيات صندوق النقد الدولي، وفي نفس الاتجاه تواترت التصريحات من جانب الحكومة المصرية حول أهمية التحول "التدريجي" إلى الدعم النقدي بديلا عن الدعم العيني، وإن كان يتم التأكيد على أن هذا التحول يحتاج بعض الوقت لاتخاذ الإجراءات المناسبة لإعداد قاعدة بيانات كاملة، واستبعاد غير المستحقين، وقصر منظومة الدعم بشكل أكبر على الفقراء ومحدودي الدخل.

غير أن هذا التوجه يُلاقي انتقادات عديدة لما يمكن أن ينتج عنه من آثار سلبية كبيرة على الفئات التي قد تقع خارج نطاق برامج التحويلات على الرغم من أنها تُعاني من الهشاشة، وكذلك تعرض أجزاء واسعة من الطبقات المتوسطة للإفقار وتدهور أوضاعها المعاشية.

ثانيًا- طبيعة العلاقة بين النظم الحاكمة بالطبقة الغنية؛ حيث لم تتعرض الإصلاحات أو السياسات الاقتصادية المتبناة لإعادة هيكلة أو تغيير طبيعة العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص، وينعكس ذلك بوضوح في طبيعة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذتها هذه الحكومات، حيث اهتمت بفرض الضرائب غير المباشرة التي يقع عبئها بشكل أكبر على الطبقة المتوسطة والفقيرة نظرًا لزيادة إنفاق تلك الفئات على السلع الأساسية مقارنةً مع الضرائب المباشرة على الشركات أو على الدخل أو الثروة التي تطال بشكل أكبر أصحاب الدخول الأعلى. 

ويرتبط ذلك باستمرار العلاقة والتداخل بين النخبتين السياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى القيود الدولية التي ترد في هذا الصدد، خاصة في ضوء استمرار تشابك العلاقات والمصالح بين النخب الاقتصادية مع الفاعلين الدوليين (مثل: الشركات الدولية الكبرى، شركات البترول الكبرى، والمؤسسات المالية..). 

مخاطر متعددة للتقشف:

تطرح السياسات التقشفية العربية مخاطر عديدة، خاصة على الطبقة المتوسطة، وكذلك على قطاعات وقضايا مرتبطة بهذه الطبقة، ومن أبرزها ما يلي:

أولا- الإفقار المتزايد للطبقة المتوسطة: تُعد النسبة الأكبر من الطبقة المتوسطة من ذوي الأجور الثابتة، ومن ثم فإن قدراتهم محدودة على التعامل مع زيادات الأسعار وتراجع الدعم الحكومي نتيجة السياسات التقشفية المتبناة من جانب الحكومات. ويبرز التخوف الأكبر من أن تؤدي تلك السياسات التقشفية إلى دفع الطبقة المتوسطة (خاصةً في الشريحة المتوسطة والأدنى منها) إلى المستويات الأدنى. فمثلا أشارت دراسة أجرتها جامعة تونس خلال العام 2015 إلى تراجع الطبقة المتوسطة ضمن تركيبة المجتمع التونسي من 80% إلى 67% خلال السنوات الأربع الماضية، ما يعني أن 17,5% من الطبقة المتوسطة في تونس انحدروا فعليًّا إلى تعداد الفقراء منذ 2012. وفي مصر، من الملاحظ أن نسبة الفقر زادت من 16,7% في ١٩٩٩/٢٠٠٠ إلى 25,3% في ٢٠١٠/٢٠١١ إلى 27,8٪ وفقًا لتقارير جهاز الإحصاء والتعبئة لعام 2015، بما يُشير فعلا إلى تعرض عدد أكبر من الأسر المنتمية إلى الطبقة المتوسطة للوقوع في دائرة الفقر، ومن المتوقع أن ترتفع تلك النسبة بشكل أكبر في ضوء السياسات الاقتصادية الأخيرة التي تبنتها الحكومة، خاصةً إذا لم تصاحبها برامج حماية اجتماعية ملائمة لمساندة الطبقة المتوسطة.

وقد قدرت الأسكوا (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا 2014) أن حجم الطبقة المتوسطة في مصر قد تقلّص من 48% من مجموع السكان في عام 2000 إلى 44% في عام 2011، وترافق هذا التراجع مع ارتفاع في معدل الفقر وذلك على الرغم من الارتفاع النسبي لمعدلات النمو الاقتصادي في تلك الفترة، ويعطي ذلك مؤشرًا قويًّا على مزيد من تراجع الطبقة المتوسطة في الفترة الحالية مع تردي الأوضاع الاقتصادية بشكل أكبر مما كان قبل الثورة. 

ثانيًا- تراجع معدلات الطلب والنمو الاقتصادي: حيث إن تراجع أو تآكل الطبقة المتوسطة نتيجة الآثار السلبية للسياسات التقشفية يُلقي بظلال قاتمة على معدلات النمو والطلب والاستهلاك في الاقتصاد. فارتفاع الأسعار المبالغ فيه نتيجة تحرير سعر الصرف، وزيادة أسعار المحروقات، بالإضافة إلى فرض ضرائب جديدة مثل القيمة المضافة، والتي تتحمل العبء الأكبر منها الطبقة المتوسطة، قد يؤدي في مجمله إلى تراجع القوة الشرائية للطبقة المتوسطة التي يُنظر إليها على أنها من أكثر الفئات استهلاكًا مقارنةً بالطبقات الأغنى وكذلك الأفقر، مما ستكون له تأثيرات سلبية شديدة على معدلات النمو والطلب في الاقتصاد، وهو ما يؤدي إلى انكماش سوق السلع الاستهلاكية والخدمات، وسيطرة الركود على التعاملات الاقتصادية.

فمثلا، تشير الدراسة سالفة الذكر لجامعة تونس إلى تآكل القدرة الشرائية للتونسيين سنويًّا بنسبة 10%، وهو ما أدى إلى فقدان مواطني هذا البلد أكثر من 40% من إمكانياتهم على مدى أربع سنوات بعد الثورة، بسبب ارتفاع الأسعار، ونسب التضخم. من ناحية أخرى، ارتفعت معدلات التضخم في مصر إلى 16% وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ومن المتوقع استمرار ارتفاعه في ضوء القرارات الأخيرة بالتحرير الكامل لسعر الصرف، وجاءت تحذيرات العديد من رؤساء الغرف التجارية من تراجع واضح في القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة.

وبصفة عامة، فإن التقديرات الدولية تُشير إلى اتجاهات تشاؤمية لمعدلات النمو في المنطقة العربية ككل، حيث قدرها البنك الدولي في تقرير له في عام 2016 بأنها لن تزيد عن متوسط 3,6% خلال العامين القادمين. وبالنسبة لمجموعة الدول المستوردة للنفط -مثل مصر وتونس- فإن معدل النمو لن يزيد عن 2,6% خلال 2016 مع استمرار العجز المالي والتجاري بشكل كبير.

ثالثًا- تراجع الانفاق الاجتماعي: حيث لا يرتبط تراجع القوة الشرائية للطبقة المتوسطة على الطلب على السلع الاستهلاكية فحسب، وإنما الأخطر هو امتداد التأثيرات السلبية لتدهور الدخول الحقيقية لهذه الطبقة ومستوى معيشتها إلى قدرتها على الإنفاق على الخدمات الاجتماعية الأساسية مثل التعليم والصحة والتي تعطي لها أولوية كبيرة وتمثل نسبة كبيرة من إنفاقها.

وعلى الرغم من النصيب الكبير الذي تُسهم به الطبقة المتوسطة في الإيرادات الضريبية التي تمول الخدمات الحكومية في تلك المجالات، فإن هذه الطبقة لا تستفيد بشكل كبير أو فعلي من الضرائب التي تتحملها. فأبناء الطبقة المتوسطة عادةً ما لا يلجئون إلى الخدمات الحكومية في مجالات الصحة والتعليم وغيرها، وتتجه إلى تحمل العبء في الحصول عليها أو استكمالها من القطاع الخاص، رغبة في الحصول على مستوى معقول من جودة الخدمة. ومن ثم فإنها قد تلجأ إلى خفض إنفاقها على تلك المجالات الاجتماعية في ضوء تدهور أجورها وارتفاع الأسعار، ويُلقي ذلك بآثار شديدة السلبية على عملية التنمية، وتراكم رأس المال البشري، وهو ما ينعكس سلبًا أيضًا على الإنتاجية ومعدلات النمو الاقتصادي.

رابعًا- الميل إلى التغيير أكثر من الاستقرار: حيث إن استقرار وتنامي الطبقة المتوسطة يلعب دورًا مؤثرًا في الاستقرار السياسي للمجتمعات من جهة، ودفعها من جهة ثانية نحو مزيدٍ من الإصلاح السياسي التدريجي، بما يشمل تعزيز حكم القانون، وتداول السلطة، والتعددية الحزبية، وتعزيز قيم التسامح والوسطية وقبول الآخر. 

إلا أن تزايد تآكل الطبقة المتوسطة قد يلقي بتهديدات سياسية، لأن حدة الأضرار التي تعرضت لها جراء السياسات الاقتصادية التقشفية قد يجعل هذه الطبقة أميل للمخاطرة بقبول خيار التغيير المكلف مقارنةً بالاستمرار في سيناريو "الاستقرار الهش" الذي يدفعها إلى الانزلاق إلى الطبقة الأدنى والأفقر. ويرتبط ذلك الأمر أيضًا بالنظرة إلى الطبقة المتوسطة على أنها تمتلك قدرة عالية على التحرك الجماعي مقارنةً بطبقة الفقراء. وقد برز ذلك بشكل جلي في الثورات العربية التي لعبت فيها الطبقة المتوسطة -خاصة في مصر وتونس- دورًا رائدًا؛ ومن ثم قد ينذر التدهور الاقتصادي بإمكانية تجدد تلك الانتفاضات، واتساع نطاقها، خاصةً مع استمرار تردي أوضاع تلك الطبقة. 

بيد أن العديد من العوامل التي تؤثر على مدى إمكانية انخراط الطبقة المتوسطة في التغيير أكثر من الاستقرار، وتشمل مثلا درجة إنهاك الطبقة المتوسطة، والتخوف من تفاقم تدهور أوضاعها، ودرجة تماسك النخبة السياسية، وشعبية النظم القائمة، وقدرتها على احتواء الغضب الشعبي جراء السياسات التقشفية، ومصداقيتها في إقناع الطبقة المتوسطة بعدم مسئوليتها عن الأزمات، وكفاءة النظم وقدرتها على تجاوزها على المدى المتوسط أو حتى الطويل، بما يبرر تحمل تزايد الأعباء والتضحيات على المدى القصير أو المتوسط. هذا فضلا عن عوامل أخرى، مثل درجة السيطرة الأمنية، والعلاقة بين المعارضة والنظام الحاكم، وقدرة الأولى على تعبئة الجماهير، وتقديم بديل للشارع لحل الأزمة الاقتصادية، وكذلك السياق الإقليمي والدولي وتأثيره على دعم / إضعاف الحركات المطالبة بالتغيير. 

وتبقى الإشارة إلى أن هذه العوامل والمحددات، وإن كانت تصدق بدرجة كبيرة في كثير من الحالات، إلا أن ذلك لا ينفي كلية الطابع المفاجئ وغير المتوقع للانتفاضات التي قد لا تتقيد بالضرورة في اندلاعها بالحسابات الرشيدة للمشاركين فيها، أو التقدير الموضوعي لمواءمة السياق والمحددات لحدوثها من عدمه، لا سيما حال تجاوز الضغوط الاقتصادية حدود الاحتمال العقلاني، إذ قد يبدو خيار التغيير رشيدًا في مثل هذه الأحوال.

التوازن المطلوب:

مع الاعتراف الكامل بأهمية وضرورة تبني الدولة لسياسات اقتصادية جادة لمعالجة العجز في الموازنة، والسيطرة على تضخم الدين العام، وما إلى ذلك من أهداف اقتصادية مالية جوهرية، تظل الحاجة ماسةً إلى أن يكون ذلك مصحوبًا بحزمة متكاملة من السياسات التي تتعامل مع التداعيات شديدة السلبية التي تنجم عن تنفيذ تلك السياسات القاسية، ويشمل ذلك: العمل على تعزيز القطاعات الاقتصادية المنتجة، وبرامج الحماية الاجتماعية التي تلائم فئات المجتمع المختلفة. 

ويمكن الاستفادة من التجارب الدولية للدول التي مرت بمراحل انتقالية اقتصادية وسياسية شبيهة، مثل دول أمريكا اللاتينية التي تُشير تجربتها إلى أن السيطرة على العجز أمر لا يمكن إنجازه بسرعة، أو بتبني سياسات تقشفية صارمة تزيد من الفجوات ما بين الطبقات، وتكرس عدم العدالة في التوزيع، وإنما ارتبطت بالأساس بتحقيق نموٍّ متوازن، وخلق فرص العمل، والاستثمار في رأس المال البشرى (التعليم والصحة)، وإنجاز إصلاح ضريبي يحقق زيادة الموارد، ويضمن توزيع الأعباء الضريبية بشكل أكثر انصافًا من خلال الضرائب التصاعدية.

وفي كل الأحوال، تظهر الحاجة إلى التشاور المستمر، والحوار المجتمعي، والشفافية في عملية اتخاذ القرار، بما يجعل المواطنين يشعرون بأنهم شركاء في القرار، ويعيد لهم الإحساس بالثقة، والأمل في إمكانية تحسن الأمور حتى لو اضطروا إلى تحمل بعض الصعوبات.