اتجاهات متداخلة:

فرص وتحديات دمج اللاجئين السوريين في الاقتصاديات المحلية

08 November 2016


شرعت العديد من الدول المستضيفة للاجئين السوريين في تطبيق سياسات متماسكة لدمجهم داخل الاقتصاديات المحلية عبر تأهيهلم للالتحاق بسوق العمل، وحفز استثماراتهم، لا سيما من ذوي "الملاءة المالية"، وهي سياسة تستهدف بالأساس تخفيف الأعباء المالية التي تتحملها الحكومات لتوطينهم، وفي الوقت نفسه تساعد في دمجهم بالمجتمعات المحلية في النهاية. 

ومن بين دول الجوار الإقليمي، تعد تركيا أكثر النماذج نجاحًا في استيعاب السوريين داخل اقتصادها، سواء بسوق العمل أو استقبال استثماراتهم، فقد أصبحت السوق التركية مقصدًا رئيسيًّا لاستقبال الاستثمارات السورية المتخارجة من سوريا.

أما ألمانيا، فتعد من بين أبرز الدول الأوروبية التي تبذل جهودًا واسعة من أجل دمج اللاجئين السوريين بالمجتمع الألماني، وإحدى أهم الخطوات التي اتخذتها في هذا الشأن إقرار قانون لدمج اللاجئين، والمَعنيُّ في الأساس بتوفير الظروف المالية والثقافية والاقتصادية الملائمة لإيواء اللاجئين بالبلاد. 

وبالرغم من النتائج الإيجابية المرجوة من تطبيق السياسات السابقة، تبقى مخاطر الإرهاب، والصعوبات الثقافية، علاوة على ارتفاع الأعباء الاقتصادية والمالية لإيواء اللاجئين، عقبات رئيسية تُضعف من فرص اندماجهم بسلاسة في المجتمعات المحلية، بل أكثر من ذلك قد تمثل تحولا مضادًّا لسياسات "الباب المفتوح" لاستقبال اللاجئين السوريين في الدول المختلفة. 

تدفقات متزايدة:

مع استمرار الصراع المسلح في سوريا لمدة أكثر من خمس سنوات، تزايد عدد الفارين من البلاد للخارج ليصل عدد اللاجئين السوريين في إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى نحو 4.7 ملايين سوري بنهاية أكتوبر 2016، الجزء الأكبر منهم يتركز في تركيا بعدد 2.7 مليون سوري، فيما يقطن 2.1 مليون في مصر والعراق والأردن ولبنان، فضلا عن 29 ألفًا آخرين بمنطقة شمال إفريقيا، ليصبح إجمالي السوريين في النهاية رقمًا ديموغرافيًّا هامًّا في التعداد السكاني للدول المجاورة، حيث باتوا يشكلون، وفقًا لبعض التقديرات، قرابة ربع السكان في كلٍّ من الأردن ولبنان. 

ومع تشديد أغلب الدول المجاورة لسياسات اللجوء، تزايدت في المقابل طلبات اللجوء للقارة الأوروبية لتصل، بحسب تقديرات المفوضية السامية للاجئين، إلى 1.1 مليون طلب بنهاية أغسطس 2016، وصل منهم بالفعل إلى الأراضي الأوروبية نحو نصف الرقم السابق، حيث تشير التقديرات إلى أن هناك 550 ألف لاجئ سوري بأوروبا يعيش معظمهم بألمانيا وصربيا والسويد وبلجيكا. 

تدابير الدمج:

تبنّت الكثير من الدول، في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، حزمة من الإجراءات لدمج السوريين داخل الاقتصاديات المحلية عبر السياسات التالية:

1- سوق العمل: تؤكد منظمة العمل الدولية أن معظم اللاجئين السوريين يعانون ظروفًا صعبة بأسواق العمل الإقليمية، كتدني الأجور، فضلا عن افتقارهم إلى المهارات والتحصيل العلمي. ففي سوق العمل التركية، هناك ما يتراوح بين 250 إلى 300 ألف عامل سوري غير مسجلين ولا يملكون الحماية القانونية والاجتماعية اللازمة، في حين أن عدد العمال السوريين الذين مُنِحوا تصاريح رسمية بتركيا للعمل منذ عام 2011 وحتى نهاية عام 2015 لا يتجاوز 3600 عامل.

ومن أجل استيعاب السوريين بشكل قانوني في أسواق العمل الإقليمية، أصدرت تركيا -على سبيل المثال- تشريعًا في يناير الماضي يقضي بمنح اللاجئين الذين يملكون بطاقة الحماية المؤقتة حق الحصول على تصاريح عمل، بما قد يمهد لحصولهم على حقوق العمل من الحد الأدنى للأجور وتهيئة ظروف العمل المناسبة.

أما في أوروبا، فقد شَرَعَت العديد من الحكومات الأوروبية في تشجيع الشركات على إدماج اللاجئين في قوة العمل، عبر تنظيم دورات الاندماج، وتوفير فرص التدريب أو التعليم، ثم توزيع اللاجئين المؤهلين على أصحاب الأعمال الذين يحتاجون إلى هذه المهارات.

وفي ألمانيا، تشترط الحكومة على اللاجئين تعلم اللغة الألمانية للوافدين الجدد، وربط حصولهم على المساعدات الاجتماعية والمالية بمشاركتهم في دورات الاندماج، حيث تؤمن الحكومة فترة تتراوح ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات من أجل تعلم اللغة الألمانية واكتساب المؤهلات اللازمة للدخول في سوق العمل.

2- تسهيلات استثمارية: قدمت العديد من الدول المجاورة التسهيلات والضمانات اللازمة لاستقطاب الاستثمارات السورية التي تخارجت من سوريا بسبب الصراع المسلح الممتد بالبلاد منذ 5 سنوات، وأغلب هذه الاستثمارات توجهت إلى السوق التركية بشكل أساسي، لا سيما إلى المحافظات الجنوبية التركية.

وحسب ما تشير إليه تقديرات اتحاد الغرف والبورصات التركية، فقد تم تأسيس 4450 شركة سورية بتركيا خلال الفترة ما بين 2011 و2015. وعلى مدى الفترة السابقة، بلغت التحويلات الرأسمالية إلى تركيا من سوريا نحو 10 مليارات دولار، وُظفت في استثمارات بمجالات المطاعم والمنسوجات بشكل رئيسي.

ومن بين الدول الأخرى التي أصبحت وجهة أساسية للاستثمارات السورية كلٌّ من الأردن ومصر اللتين استقبلتا نحو 280 مليون دولار و500 مليون دولار على التوالي من الاستثمارات السورية على مدار السنوات الماضية.

3- دعم المشروعات الصغيرة: بالتعاون مع مؤسسات التمويل الدولية، شجعت الحكومات الإقليمية السوريين على إقامة المشروعات الصغيرة من أجل توفير فرص العمل، وتأمين الدخول المناسبة لهم. ومن أهم المبادرات القائمة في هذا الشأن مشروع "دعم أسر اللاجئين السوريين" الذي يُنفذ بالتعاون بين الصندوق الأردني للتنمية البشرية ومفوضية اللاجئين للأمم المتحدة.

كما تتعاون الحكومة الأردنية مع البنك الدولي في مشروع "الفرص الاقتصادية للأردنيين واللاجئين السوريين" بقيمة 300 مليون دولار لرعاية أنشطة ريادة الأعمال للأردنيين والسوريين.

وفي سياق دولي مماثل، أعلن رجل الأعمال الأمريكي جورج سوروس، في سبتمبر الماضي، عن دعم الشركات الناشئة والمبادرات الاجتماعية التي يؤسسها المهاجرون واللاجئون بقيمة نصف مليار دولار.

4- قوانين الإدماج: أقر البرلمان الألماني، في يوليو الماضي،  قانون الاندماج الجديد الذي يُعد بمثابة تحول هام في ملف تعامل الحكومة الألمانية مع أزمة اللاجئين بالشرق الأوسط وإفريقيا، والذي تكشف نصوصه نوعًا من المقايضة لإدماج اللاجئين بالمجتمع الألماني.

ففي حين أقر التشريع الضمانات المالية والسياسية لإيواء اللاجئين، فقد فرض من جهة أخرى قيودًا وشروطًا على اللاجئين أنفسهم للالتزام بمتطلبات الدمج الثقافي والاقتصادي والاجتماعي بالبلاد.

ومثالا على ذلك، يرهن القانون حصول اللاجئ على الإقامة المؤقتة والدائمة بتعلم اللغة الألمانية، فيما سيُمنح اللاجئون المتدربون أيضًا تصريح إقامة إلى حين انتهاء مدة تدربهم، حتى يتمكنوا من العثور على عمل. وكالتزامات أخرى، قيّد القانون حركة اللاجئين داخل الأراضي الألمانية، حيث شدد على ضرورة التزام طالبي اللجوء بمواقع محددة بهدف توزيعهم على الأراضي الألمانية على نحو أفضل، ومنع ظهور أحياء مهمشة. وفي حال انتهاك هذا القانون، يتعرض طالبو اللجوء لعقوبات.

5- التجنيس: طرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في يوليو الماضي، إمكانية تجنيس اللاجئين السوريين، كأحد الحلول في سبيل دمج اللاجئين بالمجتمعات بشكل أفضل، لا سيما أولئك الذين يتمتعون بمستوى علمي عال وبكفاءات مهنية، بجانب السوريين من ذوي الثروات، حيث يتوقع أن تفرض تلك الخطوة في حال المضي في تنفيذها تداعيات إيجابية على كل من الاقتصاد التركي والسوريين أنفسهم عبر منحهم حق المواطنة التركية. 

عقبات متعددة:

لكن هذه الدول تواجه عدة عقبات في سبيل دمج السوريين داخل الاقتصاديات المحلية، تتمثل في:

1- اختلاف ثقافي: فيما تتلاشى الفوارق الثقافية أو الدينية في دول الجوار، يبدي العديد من المسئولين الأوروبيين تخوفات من أن استقبال اللاجئين السوريين قد يؤثر على الهوية الأوروبية. هذه التخوفات بجانب عامل اختلاف اللغة، قد تحول دون إتمام إدماج اللاجئين السوريين في المجتمعات الأوروبية بشكل عام، وبما قد يحد من جاذبية السوريين للانضمام إلى سوق العمل.

وفي الوقت نفسه، تتخوف الأجهزة الأمنية الأوروبية من تسلل عناصر إرهابية ضمن اللاجئين للقيام بعمليات إرهابية، وهو ما قد يؤثر على حرية العمل والتنقل لدى السوريين بدول القارة.

2- افتقاد المهارات: يُشير عدد من المسئولين بالشركات الأوروبية -وخاصة الألمانية- إلى أن اللاجئين لا يملكون المهارات النفسية اللازمة أو اللغوية لتأهيلهم لسوق العمل. كما تَظهر بعض القيود التنظيمية الأخرى على عمل السوريين بالشركات الألمانية، لا سيما العاملة بقطاعات مثل الخدمات المالية والطيران، حيث تتطلب فحصًا أمنيًّا للموظفين، وهو غير ممكن بالنسبة لأغلب اللاجئين السوريين.

وعلاوةً على القيود السابقة، أصدرت الجهات الرسمية في كلٍّ من لبنان وتركيا في الأعوام الماضية بالتزامن مع تأزم مشكلة اللاجئين، تشريعات بقصر بعض المهن الحرة كالأطباء والمحامين وغيرها على السكان المحليين، بما يجعل قطاعات البناء والزراعة وغيرها -عمليًّا- الأكثر توظيفًا للعمالة السورية.

3- الأعباء المالية: من بين القيود الرئيسية لدمج اللاجئين باقتصاديات المجتمعات المحلية، التكلفة المرتفعة اللازمة، إما لدعم مهاراتهم الفنية واللغوية، أو مساعدتهم للحصول على وظائف، وهذان البندان قد يكلفان الحكومة الألمانية، على سبيل المثال، حوالي 11.5 مليار دولار بنهاية 2020 من أجل مساعدة اللاجئين للتأهيل بسوق العمل الألمانية، تُضاف إليها مبالغ أخرى مقدرة بنحو 26.8 مليار دولار كمدفوعات للبطالة وإعانات الإيجار وغيرها.

وبالمثل، فقد تزايدت نفقات بعض الحكومات في المنطقة لإيواء اللاجئين، حيث وصلت التكلفة الإجمالية التي تحملتها الحكومة التركية لمساعدة اللاجئين السوريين منذ 2011 إلى 7.6 مليارات دولار. فيما تكلفت الحكومة الأردنية بسبب أزمة اللاجئين السوريين ما يقارب 6.6 مليارات دولار، وتحتاج إلى 8.2 مليارات دولار إضافية للتعامل مع الأزمة حتى عام 2018. 

وختامًا يمكن القول إنه على الرغم من التكلفة المرتفعة لإيواء اللاجئين السوريين بالمجتمعات المختلفة، ودمجهم بالاقتصاديات المحلية، إلا أن هناك بعض المكاسب الرئيسية، مثل توفير عمالة رخيصة، وجذب الاستثمارات السورية، وهو ما قد يحقق التوازن المطلوب للمعادلة الاقتصادية للاجئين السوريين في الأجل الطويل.