محددات الصمود:

هل يُصحح تعويم الجنيه أوضاع سوق الصرف المصري؟

04 November 2016


فاجأ البنك المركزي المصري المتعاملين في سوق الصرف يوم 3 نوفمبر 2016، بقرار تعويم الجنيه المصري أمام الدولار ليتحرك في تداولات البنوك المصرية انطلاقًا من نقطة أساس 13 جنيهًا مقابل 8.88 جنيهات في السابق، وهي خطوة تستهدف بالأساس الحد من المضاربات على الجنيه المصري أمام العملات الصعبة، وتقليل الفجوة لسعر الصرف بين السوقين الرسمية والموازية. ويأمل البنك المركزي المصري -في النهاية- في تحقيق استقرار سوق الصرف بعد فترة من الارتباك التي شهدها منذ أوائل عام 2016.

يأتي ذلك في الوقت الذي تترقب فيه الحكومة المصرية إتمام الحصول على أقساط قرض صندوق النقد الدولي المقدرة بنحو 12 مليار دولار، بجانب تمويلات من مؤسسات أخرى قد تغطي الفجوة المتزايدة من العملات الصعبة، ومن ثم تعزيز استقرار سعر الصرف على المدى القصير، وبما يُيسر من تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي لمصر بالتعاون مع المؤسسات التمويلية المختلفة. 

ظروف غير مواتية:

أحد أهم التحديات التي واجهتها الحكومة المصرية بالفترة الماضية ارتباك أوضاع سوق الصرف بالبلاد، لا سيما منذ أواخر أكتوبر 2016، حيث وصلت الفجوة بين السوقين الرسمية والموازية إلى أكثر من 9 جنيهات في بعض الأحيان، بما أعطى مؤشرًا سلبيًّا بأن الجنيه المصري مقدر بأقل من قيمته التوازنية أو العادلة، وبأكثر من 50% من قيمته بالسوق الرسمية في أحيان كثيرة.

وفي محاولة محدودة التأثير بالأشهر الماضية، قام البنك المركزي في غضون شهر مارس 2016 بتخفيض قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار بنحو 112 قرشًا ليصل إلى 8.88 جنيهات في تعاملات البنوك، بيد أن هذه الخطوة ظلت محدودة الفاعلية في استقرار سوق الصرف، وهو ما أرجعه رئيس الوزراء المصري شريف إسماعيل في تصريحات سابقة إلى أن خفض قيمة العملة المحلية بنسبة 14% في مارس الماضي تم بدون توافر الأدوات المناسبة، أي من دون تغطية مناسبة من حيازات العملات الأجنبية لدى البنوك المصرية، وهو ما تسبب لاحقًا في نشوء مضاربات عديدة على الدولار.

التشوهات السابقة أدت -ضمن أسباب أخرى كأعباء متصلة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي- إلى ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة؛ حيث بلغ الرقم القياسي لأسعار المستهلكين في أغسطس الماضي 16.4%، وهو أعلى مستوى له منذ عام 2008، حيث تعتمد العديد من الشركات على السوق الموازية في توفير احتياجاتها من العملة الصعبة. وعلاوة على ذلك، فقد أثر شح الدولار بالبنوك المصرية على أنشطة العديد من الشركات المحلية والأجنبية، والأخيرة على الأخص واجهت قيودًا أكبر في تحويل أرباحها للخارج بالعملات الصعبة.

سياسة أكثر مرونة:

وكما يبدو فإن قرار تصحيح أوضاع سوق الصرف في مارس الماضي لم يكن فاعلا بما يكفي للتغلب على تشوهات سوق الصرف بمصر، وهو ما دفع البنك المركزي المصري في 3 نوفمبر الجاري إلى تبني سياسة أكثر مرونة في تسعير النقد الأجنبي، حيث سمح للبنوك بحرية تسعیر النقد الأجنبي وذلك من خلال آلیة الإنتربنك، ليتحرك سعر الدولار مقابل الجنيه بحرية انطلاقًا من نقطة أساس 13 جنيهًا، وبهامش تداول 10% أعلى أو أقل من هذا السعر. 

وبتبني آلية تحديد سعر الصرف السابقة، سيدار سوق النقد الأجنبي على ما يبدو بعيدًا عن التدخلات المباشرة من قبل البنك المركزي المصري، ومن ثم بدرجة أعلى من اللا مركزية، حيث ستئول مهام إدارة تسعير سعر الصرف لصالح البنوك وفق آليات الطلب والعرض، وفي إطار هامش التحرك المحدد من قبل البنك المركزي، وبما يؤكد اتجاه سوق الصرف نحو التعويم الكامل في المستقبل القريب.

ومن أجل إرساء سوق أكبر جاذبية للسيولة من النقد الأجنبي، اتخذ البنك المركزي حزمة من الإجراءات الموازية لضمان تدفقات السيولة من العملات الصعبة، وفي نفس الوقت تشجيع الادخار بالعملة المحلية. أحد أهم الضمانات التي قدمها البنك المركزي لإدارةٍ ذات كفاءة اقتصادية للطلب والعرض على النقد الأجنبي ما تعهد به بيانه في 3 نوفمبر الجاري بعدم فرض أية قيود على إیداع وسحب العملات الأجنبية للأفراد والشركات باستثناء حدود الإیداع والسحب السابقة للشركات التي تعمل في مجال استيراد السلع والمنتجات غیر الأساسیة فقط بواقع 50 ألف دولار خلال الشهر بالنسبة للإیداع وبواقع 30 ألف دولار یومیًّا بالنسبة للسحب.

وتطبيقًا للتعهدات السابقة، رفع البنك المركزي سعري عائد الإیداع والإقراض للیلة واحدة بواقع 300 نقطة أساس لیصل إلى 14.75 و15.75%، كما رفع سعر العملیة الرئیسیة للبنك المركزي بواقع 300 نقطة أساس لیصل إلى 15.25%، وزیادة سعر الائتمان والخصم بواقع 300 نقطة أساس لیصل إلى 15.25%.

ومن شأن رفع أسعار الفائدة للإيداع والإقراض على النحو السابق، أن تتعزز محاولات البنك المركزي لامتصاص السيولة من العملات المحلية لاستهداف التضخم من ناحية، وتشجيع الادخار بالعملات المحلية دون اتجاه الأفراد للمضاربة على العملات الصعبة في نفس الوقت.

وكمسعى آخر لتعزيز استقرار سعر الصرف، تعمل الحكومة المصرية على تفكيك المراكز المالية للصرافات المحلية، والتي وجهت لها في الشهور الماضية اتهامات مستمرة بالمضاربة على العملات الأجنبية بالبلاد. وقد اتخذت تدبيرين رئيسيين من أجل إحكام السيطرة على تداول النقد الأجنبي خارج البنوك؛ أولهما إيقاف أنشطتها وذلك بالتعاون الأجهزة الأمنية، وثانيهما تأسيس كيانات بديلة أخرى تابعة للبنوك الحكومية كالبنك الأهلي المصري وبنك مصر.

تأثيران رئيسيان:

يؤدي قرار تعويم الجنيه المصري إلى تبعات متفاوتة التأثير على الاقتصاد المصري هي على النحو التالي:

1- تقليص المضاربة: يُعرّض تحرير سعر الصرف المراكز المالية للمتعاملين في السوق الموازية لخسائر محتملة على واقع تلاشي الفوارق بين سعر الصرف في السوقين الرسمية والموازية بدرجة كبيرة، وذلك من شأنه أن يضعف شهية المتعاملين بالسوق الموازية للمضاربة، وبالتالي يقلص حجم تداول العملات الصعبة بها، لا سيما في الأسابيع الأولى لتطبيق القرار.

ومع استمرار تعادل سعر الصرف بالسوق الرسمية والموازية أو تقاربها على أقل تقدير في الأجل، فقد تفسح هذه الخطوة المجال لاستعادة تداول النقد الأجنبي داخل القطاع المصرفي، وبما یعكس قوى العرض والطلب الحقیقیة، والتي تأتي في سیاق البرنامج الأوسع للإصلاح المالي والهیكلي الذي أعلنته الحكومة المصریة في عام 2016. 

2- تأثير متفاوت للأسعار: أحد الأسباب الرئيسية التي ساهمت في ارتفاع المستوى العام للأسعار الفترة الماضية بلوغ أسعار الصرف حدودها القصوى في السوق الموازية، والتي تعتمد عليها العديد من الشركات في توفير احتياجاتها من العملات الصعبة. وبالتالي فعلى ضوء قرار تعويم الجنيه مؤخرًا، من المتوقع أن تتأثر المستويات العامة للأسعار عبر ثلاثة اتجاهات مختلفة.

الاتجاه الأول ينصرف إلى زيادة أسعار السلع والخدمات المرجحة في الماضي بأسعار الدولار الرسمية السابقة (8.88 جنيهات)، أما الاتجاه الثاني فيرجح ثبات أسعار سلة أخرى من السلع والخدمات والتي رجحت أسعارها بناء على سعر الصرف المرتفع بالسوق الموازية. أما الاتجاه الثالث، وهو محدود الانتشار، فيعزز من هبوط أسعار بعض السلع التي شهدت ارتفاعات كبيرة بالفترة الماضية، وهو ما يؤكده اتجاه بعض الشركات لخفض أسعار منتجاتها بمجرد إعلان تعويم الجنيه.

وحول التأثير النهائي لتعويم العملة على المستويات العامة للأسعار، من المؤكد أن معادلة قرار تعويم العملة المحلية والتي تقضي بثبات أو هبوط أسعار بعض السلع والخدمات مقابل زيادة في أسعار بعض السلع والخدمات الأخرى، ستخفف نسبيًّا من الضغوط التضخمية التي من الممكن أن تشهدها مصر بالفترة المقبلة على وقع قرار التعويم، وفي فترات لاحقة، من المرجح أن تستقر معدلات التضخم بدرجة أكبر، بالتزامن مع استقرار أحوال سوق الصرف.

محددات النجاح:

على المدى البعيد، سيظل نجاح قرار تعويم الجنيه في تعزيز استقرار أسعار الصرف مرهونًا بإدارة الطلب والمعروض من النقد الأجنبي بكفاءة أكبر على النحو التالي:

1- ترتيبات التمويل: يبدو أن صدى تأثير القرار في استقرار سوق الصرف بالأشهر المقبلة سيظل رهنًا بحصول مصر على التمويل المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار، بجانب حزمة التمويل البالغة 6 مليارات دولار من دول ومؤسسات تمويل أخرى.

وحال نجاح مصر في الحصول على موافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي خلال فترة وجيزة من اتخاذ قرار تعويم الجنيه، فإن ذلك من شأنه -نظريًّا- أن يعزز السيولة من النقد الأجنبي اللازمة لاستقرار سوق الصرف، سواء من خلال حصيلة القروض أو طرح السندات الدولية.

وبإمكان الحكومة المصرية بلوغ الكمية التوازنية من المعروض الدولاري واللازمة لإعادة توازن سوق الصرف التي لطالما نجحت في دعم إنعاش الاقتصاد، وتحسين مناخ الاستثمار، وتنشيط الصادرات والسياحة، وهي أمور متوقعة مع المضي في تنفيذ برنامج إصلاح الاقتصاد المصري.

2- امتصاص السيولة: من ناحية العرض أيضًا، فواقع الأمر أن قدرة الجهاز المصرفي على امتصاص السيولة من النقد الأجنبي -والمتراكمة لدى المضاربين- سيتوقف مستقبلا على إجراء إصلاحات أخرى أكثر عمقًا تتصل برفع جاذبية المنتجات المصرفية، سواء الودائع أو حسابات العملات الأجنبية. أما من ناحية إدارة الطلب، ففي حال استقرار سوق الصرف فينبغي أن يستمر الجهاز المصرفي في إعادة هندسة حركة تداول العملات الصعبة داخل الجهاز المصرفي المصري لتصبح أكثر سلاسة وحرية، وبما يُسهم في النهاية في جذب الأصول الدولارية لدى الأفراد والشركات على حد سواء.

وختامًا، يمكن القول إن قرار تعويم الجنيه المصري يقدم من دون شك أساسًا قويًّا لاستقرار سوق الصرف بمصر في الفترة المقبلة، وإذا ما نجحت البنوك المصرية في إدارة العرض والطلب على النقد الأجنبي بكفاءة فليس بإمكان السوق الموازية أن تستعيد مراكزها النقدية والمالية السابقة.