عرض: عبد المنعم علي
استطاعت الولايات المتحدة تحقيق هيمنتها العالمية خلال العقود الماضية، عبر صياغة أنماط من السياسات غير المباشرة لفرض السيطرة على البنى السياسية والاقتصادية داخل العديد من دول العالم، حيث تركز الصفقات التي تعقدها واشنطن على النخب التابعة لها في الدول والمناطق التي لديها فيها مصالح أساسية مثل: منطقة البحر الكاريبي، وأمريكا الوسطى، وأوروبا الغربية، والشرق الأوسط، إلا أن هذا النمط بات يواجه تحديات مضادة قد تفسر التراجع النسبي للهيمنة الأمريكية في السياقات العالمية الراهنة.
في هذا السياق، تأتي أهمية كتاب ديفيد أ. ليك، الذي صدر في العام 2024، وحمل عنوان "الحكم غير المباشر: صناعة التسلسل الهرمي الدولي للولايات المتحدة"، حيث يطرح الآليات المختلفة التي دعمت القوة والهيمنة الأمريكية في العالم. وينظر الكتاب إلى أن هذه القوة تُعد شكلاً من أشكال الحكم غير المباشر؛ والذي بات الوسيلة الحيوية للسيطرة الأمريكية على الدول المختلفة بأدوات غير تقليدية وغير عسكرية؛ بل وتعزيز قدراتها الدبلوماسية والاقتصادية لبناء نفوذها العالمي.
أبعاد الحكم غير المباشر:
لطالما ميز الحكم غير المباشر العلاقات بين الدول والعلاقات الخارجية للولايات المتحدة، ويأتي الحكم غير المباشر ليُجسد الآلية الرئيسية للتسلسل الهرمي الدولي، والتي من خلالها تحافظ واشنطن على هيمنتها على القوة العالمية. وينطوي ذلك النمط على قيام مجموعة متحالفة داخل دولة تابعة بتبني سياسات تفضلها الدولة المهيمنة في مقابل دعم الأخيرة لها. ويُعرف الكتاب التسلسل الهرمي بأنه "علاقة سلطة مستمرة حيث يضع الحاكم أو الدولة المهيمنة القواعد وينفذها مجتمع تابع"، وكذلك يعني "تنظيم الجهات الفاعلة في علاقات رأسية من التفوق والتبعية"، وهذا الأمر ينطبق على مساعي واشنطن للحفاظ على نظام دولي يحقق لها مصالحها الذاتية السياسية والاقتصادية، ففي نهاية المطاف، تتحرك واشنطن لتعزيز مصلحتها المادية أكثر من الالتزامات المبدئية والمثل العليا النبيلة التي تتبناها تحت مظلة الليبرالية والديمقراطية، من خلال الحكم غير المباشر باعتباره ممارسة للسلطة بالوكالة.
وهناك عِدة أدوات تستطيع الدول من خلالها فرض حكمها غير المباشر بعيداً عن الأدوات التقليدية "العسكرية" على وجه الخصوص ومن أبرزها:
- الأداة الاقتصادية: تأتي في مقدمة أدوات تطبيق وتنفيذ الحكم غير المباشر؛ الأدوات والصفقات الاقتصادية التي وظفتها الولايات المتحدة في منتصف القرن العشرين مع بعض نخب الدول والمناطق التي تقع في دائرة النفوذ الأمريكي بغرض استمالة قاداتها؛ ومن أبرزها مناطق البحر الكاريبي وأمريكا الوسطى في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأوروبا الغربية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والشرق الأوسط. وبالرغم من أن ثمة تباينات جغرافية واقتصادية وسياسية بين تلك الأقاليم؛ فإن السمت الأساسي يكمن في تطبيق الولايات المتحدة لنمط الحكم غير المباشر لتعزيز مصالحها.
على سبيل المثال، تفاعلت الولايات المتحدة مع النخب الاقتصادية خاصة العقارية في منطقة الكاريبي وأمريكا الوسطى؛ لتعزيز مصالحهما المشتركة، حيث رأى الجانبان مكاسب محتملة من توسع الأسواق. ولو كانت تلك النخب الإقليمية قادرة على تسويق منتجاتها بالمعدل الذي ترغب فيه من دون ضمانات النظام وسياسات التعريفات الجمركية المواتية التي تنتهجها الولايات المتحدة، ربما لم تكن هناك ضرورة للحكم غير المباشر.
- دعم النخب المحلية: شكَّلت الولايات المتحدة تحالفاً مع النخب المحلية والأنظمة السياسية الأكثر انسجاماً مع مصالحها في الشرق الأوسط، حيث تستهدف الولايات المتحدة تشكيل تحالف مع مجموعات داخل المجتمع تتوافق مصالحها بشكل وثيق معها. وفي المقابل، تحتفظ الولايات المتحدة بسلطة تقديرية تعمل على مساعداتها للمجموعة المتحالفة و/أو تتفقان على مجموعة من القواعد.
- بناء السلام والتعاون المتعدد الأطراف: وهو إحدى الأدوات التي مارستها الولايات المتحدة في فرض هيمنتها وتحديداً في الدائرة الأوروبية؛ حيث تم بناء السلام الأمريكي حول مجموعة من الأنظمة الدولية، خاصة في التجارة، والتمويل، وحقوق الإنسان، والأمن الجماعي، والتي سهلت التعاون بين الدول المتشابهة في التفكير إلى حد كبير. هذا الأمر عزز بناء المصالح المتبادلة التي سمحت للأنظمة الأوروبية بالنجاح. فلم تنشأ هذه الأنظمة بشكل طبيعي أو من تلقاء نفسها بالكامل؛ بل تم تشكيلها بنشاط من قِبَل الولايات المتحدة من خلال الحكم غير المباشر.
وإذا ما كانت سياسات الحكم غير المباشر قد مارستها الولايات المتحدة في مناطق الكاريبي وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط؛ فإنها لا تبتعد عن تعزيز مصالحها داخل الاتحاد الأوروبي؛ إذ إن تفاعلات واشنطن مع الدول الأوروبية استندت أيضاً إلى فكرة التسلسل الهرمي والحكم غير المباشر؛ وإن كانت شكلياً تستند إلى فكرة التعاون المتعدد الأطراف.
من هنا، يرى الكاتب أن حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية استندت فيها تفاعلات واشنطن مع أوروبا الغربية إلى التعاون الفوضوي بقيادة مهيمنة؛ إذ سعت واشنطن بصورة نشطة لضمان انتخاب الأحزاب والائتلافات اليمينية والوسطية في فترة ما بعد الحرب وتأسيس أشكال من الحكم غير المباشر من خلال المؤسسات الدولية التي أنشأتها، كما أن السلام الأمريكي الذي رسم العلاقات بين الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية يُفهَم عادة على أنه نظام إقليمي استثنائي؛ حيث أنتجت الهيمنة أو الزعامة الأمريكية تعاوناً دولياً واسع النطاق على الرغم من حالة الفوضى الدولية. إضافة لذلك؛ فإن تعقيدات المنظومة الدولية إبان الحرب الباردة والتهديد المشترك من روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقاً)، والذي كان متجذراً في بنية القطبية الثنائية؛ دفع الغرب إلى التوحد تحت مظلة أمنية أمريكية.
تحديات متعددة:
إذا كان الحكم غير المباشر قد أسهم في تربع الولايات المتحدة على قمة القوة العالمية؛ إلا أن هذا الأمر له جملة تحديات من أبرزها ظهور تيار مناهض أو معادٍ للسياسة الأمريكية في العديد من دول العالم، ويمكن توضيح تلك التحديات على النحو الآتي:
- تراجع الدعم داخل الدول التابعة: تراجع الدعم داخل الكثير من الدول التابعة للولايات المتحدة تجاه الجهود الأمريكية الرامية إلى تعزيز الديمقراطية وأشكال أخرى من التدخل في الخارج، وفي هذا الصدد فإن الحكم غير المباشر يفرض حالة من التفكير حول ما إذا كان هذا الأسلوب من الحكم يخدم المصالح الأمريكية في نهاية المطاف أم يُشكل لها تحدياً، ويحدث هذا الأمر عندما تكون الأصول المعرضة للخطر كبيرة وتكاليف الحكم غير المباشر منخفضة؛ ومن ثم فإن تلك الحالة من شأنها أن تُعرض مصالح الولايات المتحدة داخل تلك الدول للخطر.
- بروز النيوليبرالية وصعود أقطاب أخرى: حيث إن استقرار الديمقراطية الأمريكية وتفوقها يتوقف على رفاهية الديمقراطيات الأخرى المرتبطة بها، وهذه المقولة سبق أن عبرّ عنها الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون، استناداً إلى فكرة أن الديمقراطيات من المرجح أن تبقى وتزدهر في عالم من التجارة المفتوحة والقواعد المتعددة الأطراف؛ حيث تهيمن الديمقراطيات الليبرالية، وتتشابك معها المؤسسات الليبرالية المحلية. ولكن في خضم التطورات الراهنة المتمثلة في التحول النيوليبرالي في الولايات المتحدة وأوروبا والتآكل الناتج عن ذلك للأمن الاقتصادي؛ وصعود الصين وروسيا كأقطاب مؤثرة عالمياً؛ فمن شأن تلك التطورات أن تؤثر في المصالح الأمريكية.
- تآكل التفوق العالمي للدولار: أحد أبرز التحديات التي تواجه فكرة الحكم غير المباشر للولايات المتحدة يكمن في نشوء اتجاه مضاد لاستراتيجية "تسليح الدولار" التي أسست قدرة الولايات المتحدة على ربط اقتصاديات العالم بالدولار، واستخدام ذلك مثلاً في فرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات اقتصادية ضد روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا في عام 2022. ودفعت تلك الاستراتيجية البنوك المركزية والحكومات إلى البحث عن عملات بديلة؛ مما يؤدي إلى تآكل التفوق العالمي للدولار؛ ومع ذلك تواصل البنوك المركزية والحكومات الاعتماد على الدولار؛ لأنه لا يوجد بديل قابل للتطبيق. وحال إذ ما فقد الدولار هيمنته العالمية؛ ومن ثم فائدته الجيوستراتيجية؛ فإن واشنطن ستفقد إحدى أدواتها للحكم غير المباشر عالمياً.
الخلاصة أن الولايات المتحدة ابتعدت عن فكرة الهيمنة المباشرة بصورتها التقليدية أو العسكرية؛ لتتخذ من أدوات الحكم غير المباشر وفي مقدمتها الدعم الاقتصادي والسياسي آليات للتسلسل الهرمي الذي أوجدته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك عبر تشكيل نخب محلية في الدول التابعة تدعم وتتلاقى مصالحها مع المصالح الأمريكية، فتارة تستخدم واشنطن المؤسسات التمويلية والاقتصادية والدعم المالي وسياسات التجارة الحرة كوسيلة ضرورية لإحداث هيمنة على النخب الحاكمة ودوائر صنع القرار في الدول الأخرى، وتارة أخرى تستند إلى تقديم الضمانات العسكرية للحفاظ على الأنظمة الحليفة، وتارة ثالثة تعول على أداة تطبيق الليبرالية وفي مقدمتها الديمقراطية ودعم الحريات المختلفة.
إلا أن التغيرات المختلفة الحالية في السياسة العالمية، خاصة مع صعود وتيرة المعاداة الأمريكية ورفض سياسات واشنطن التدخلية القابعة تحت مظلة التحولات الديمقراطية؛ تُشكل تحدياً لنمط الحكم غير المباشر الذي اعتمدته الولايات المتحدة لتحقيق هيمنتها العالمية على مدار عقود في العديد من مناطق وأقاليم العالم.
المصدر:
David A. Lake, Indirect Rule: The Making of US International Hierarchy, Cornell University Press, 23 May 2024.