شنّت فصائل مسلحة سورية تتصدرها ما يُسمّى بـ"هيئة تحرير الشام"، والتي كانت تُعرف سابقاً باسم "جبهة النصرة" قبل أن تنفصل عن تنظيم "القاعدة"، هجمات واسعة ضد مناطق سيطرة الحكومة السورية، فيما يُعرف بـ"عملية ردع العدوان"، في 27 نوفمبر 2024، حيث استطاعت الفصائل المسلحة السيطرة على حلب، ثاني أكبر مدن البلاد، والتقدم نحو مدينة حماة، ويأتي ذلك وسط جهود للحكومة السورية من أجل شنّ هجوم مضاد ضد الفصائل المسلحة.
وقد أعلنت الفصائل المسلحة أن هدفها من الهجوم المُباغت هو توجيه "ضربة استباقية" للقوات الحكومية السورية، ويمثل الهجوم أول هجوم كبير منذ الاتفاق "التركي الروسي" لوقف إطلاق النار في سوريا، والذي تم توقيعه في مارس 2020.
دوافع مُتعددة:
جاءت العمليات العسكرية الأخيرة للفصائل المسلحة ضد مناطق سيطرة الحكومة السورية مدفوعة بعدد من العوامل، يمكن إبراز أهمها كما يلي:
1. إعادة سوريا للاهتمام الإقليمي والدولي: يُعد أحد دوافع العملية الأخيرة للفصائل المسلحة هو تحريك ملف الأزمة السورية مرة أخرى بعدما شهد، الفترة الأخيرة، تراجعاً في الاهتمام الدولي والإقليمي به، ولاسيما في ظل تبوء عدد من القضايا الإقليمية الجارية مثل: الحرب الإسرائيلية على غزة، وكذلك الحرب في لبنان محل صدارة الاهتمام الدولي والإقليمي، وقد أدى ذلك إلى تخوف لدى الفصائل المسلحة المتواجدة في مناطق شمال غرب سوريا؛ وفي القلب منها هيئة تحرير الشام، من أن مثل هذا الخفوت في الاهتمام بالمسألة السورية؛ سيؤدي إلى ترسيخ الوضع الراهن كوضع متفق عليه دولياً وإقليمياً؛ وهو ما سيصب في مصلحة الحكومة السورية.
2. مُحاولة إبطاء التقارب الإقليمي مع دمشق: ترى أوساط داخل الفصائل المسلحة في سوريا أن حالة التقارب الإقليمي الحالي مع الحكومة السورية، واتجاه دول الإقليم إلى تطبيع العلاقات معها؛ أمراً لا يصب في مصلحة تلك الفصائل، بل ويهدد وجودها كقوة مُسيطرة على بعض الأراضي في الشمال والشمال الغربي من سوريا، فقد أدى التقارب الأخير بين دمشق وعدد من الدول العربية، والذي انتهى بقرار مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري رقم 8914، في مايو 2023، والقاضي باستئناف مشاركة وفود حكومة الجمهورية العربية السورية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية، وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها، إلى إدراك الفصائل المسلحة تلك بأنه أصبح هناك إجماع عربي أن لسوريا حكومة واحدة شرعية هي من تمثلها. وينطبق الأمر على مساعي التقارب بين دمشق وأنقرة، وهي ما تراه تلك الفصائل أنه يهيئ لظروف غير مواتية بالنسبة لها.
3. التغطية على أزمات مناطق سيطرة الفصائل: تعاني المناطق الخاضعة لسيطرة "هيئة تحرير الشام"، ولاسيما مدينة إدلب؛ من أوضاع معيشية صعبة للغاية؛ إذ وصلت نسبة العائلات التي تعيش تحت خط الفقر إلى نحو 91%، في حين تجاوزت نسبة البطالة 88% بينما وصلت معدلات التضخم 75.4%.
وفي إدلب خصوصاً؛ تشهد مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام" مُظاهرات تطالب بإسقاط وإنهاء الحكم العسكري للهيئة، كما تطالب المظاهرات بتفريغ السجون من المعتقلين والمختفين قسرياً، وقد أدى ذلك إلى حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار الداخلي، لاسيما وأن تلك الاحتجاجات أتت في ظل انشغال أبو محمد الجولاني (قائد هيئة تحرير الشام والتي تسيطر على إدلب) بحملة إعادة التنظيم داخل الهيئة منذ بداية العام، والتي أقصى على إثرها عدداً من القادة واعتقل آخرين.
لذا فإنه من المرجح أن يكون الوضع الداخلي أحد العوامل الرئيسية التي دفعت بالفصائل المسلحة وعلى رأسها "هيئة تحرير الشام" إلى شنّ الهجمات العسكرية ضد قوات الحكومة السورية؛ وذلك كآلية لتشتيت المعارضة الداخلية المتنامية ضد هذه الفصائل.
أسباب التراجع:
يمكن إرجاع أسباب التراجع في صفوف القوات الحكومية السورية في مقابل تقدم الفصائل المسلحة إلى عدد من العوامل، وأبرزها ما يلي:
1. فشل المؤسسات الأمنية في التنبؤ بالهجوم: ربما شكّل هجوم الفصائل المسلحة على حلب وبعض مناطق حماة؛ مُفاجأة للحكومة السورية؛ وهو ما قد يكشف بدوره عن سوء تقدير من قبل الأجهزة الأمنية في التنبؤ بالهجوم، ولا يقتصر هذا على الحكومة السورية وحدها؛ بل يمتد أيضاً إلى روسيا التي لم تستطع أن تتنبأ بالهجوم، كما يُعد هذا الهجوم فشلاً جديداً يضاف إلى إخفاقات منظومة الاستخبارات الإيرانية.
ومرد الحكم السابق هو أن العملية التي شنّتها الفصائل المسلحة كانت بالتأكيد قد سبقتها استعدادات عسكرية وتحضيرية تشي بقرب وقوع هجمات ضد المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية؛ إذ لا يتصور أن تحشد الفصائل المسلحة هذا العدد من العتاد والسلاح والمقاتلين إلا لقتال، وربما تكون الحكومة السورية كانت على علم باستعدادات الفصائل ولكنها عدّتها استعدادات تأتي في الإطار الطبيعي والمعتاد؛ إذ دأبت هيئة تحرير الشام على سبيل المثال على القيام بما تسميه "العمليات الانغماسية" ضد القوات الحكومية السورية.
2. تراجع الاستعداد القتالي للجيش السوري: على الرغم من أن سوريا لم تكن ساحة مُواجهة مباشرة في الصراع الدائر في الإقليم، وذلك على عكس جبهات مثل: لبنان وغزة؛ فإن الصراع قد ألقى بتداعيات سلبية على القدرات الأمنية والاستعداد القتالي للقوات السورية؛ إذ أدّت الضربات الإسرائيلية المُتصاعدة منذ بداية الصراع ضد مراكز وتجمعات قوات الجيش السوري، حتى وإن كان الهدف منها هو استهداف المقار والتجمعات الخاصة بالوجود الإيراني في سوريا، إلى حالة من تراجع القدرات العسكرية والاستعداد للجيش السوري. ناهيك عن انخراط الجيش السوري في صراع دائم على مدار ما يقرب من عقد من الزمان؛ أدى إلى استنزاف قوته وقدراته العسكرية والمادية.
3. ضعف جبهات المُساندة الإقليمية: أدّت حالة الصراع مع إسرائيل بإيران إلى تنفيذ إعادة تموضع لقواتها في الإقليم، ففي أعقاب عمليات الاغتيالات التي قامت بها إسرائيل ضد قادة ومستشارين عسكريين إيرانيين رفيعي المستوى، في سوريا، قامت إيران -مخافة من استهداف هؤلاء القادة- بسحبهم من سوريا، وقد كان التقدير الإيراني في تلك الفترة، هو أن الجبهة السورية مُستقرة إلى حد كبير، وأن التقديرات تُشير إلى أن الفصائل المسلحة المنقسمة غير قادرة في الوقت الحالي على تشكيل تهديد حقيقي للحكومة السورية، والمصالح الإيرانية في سوريا.
ومن جهة أخرى؛ شهدت قدرات جبهات المُساندة الإقليمية للجيش السوري تراجعاً في أعقاب الصراع الدائر في المنطقة، فبالنسبة للفصائل العراقية والتي دعمت جهود الحكومة السورية في محاربة الفصائل المسلحة السورية، فبعد التصعيد بينها وبين الولايات المتحدة والذي بلغ أوجه بمقتل 3 جنود أمريكيين في قاعدة البرج 22، في يناير 2024، ورد الولايات المتحدة بضربات انتقامية واسعة ضد هذه الفصائل؛ أصبح وجود هذه الفصائل في سوريا مُتناقصاً، أما بالنسبة لحزب الله اللبناني وهو الفصيل المسلح الأهم الداعم للحكومة السورية، فإن الحزب كان قد سحب جزءاً كبيراً من قواته العسكرية الموجودة في سوريا مع بداية التصعيد مع إسرائيل؛ وقد أدى انشغاله بالحرب مع الأخيرة، والخسائر التي مُنى بها إلى جعل سوريا أولوية ثانوية للحزب.
4. قصور الحضور الروسي: شكّلت روسيا أحد أهم داعمي الحكومة السورية خصوصاً بعد الدور المحوري الذي أدته في مساندة الحكومة السورية في 2015، وذلك لاستعادة الأراضي التي خسرتها لصالح الفصائل المسلحة، إلا أنه ومع احتدام الحرب الروسية في أوكرانيا قامت روسيا بسحب جزء كبير من عتادها العسكري من سوريا، وقامت بإعادة تخصيصه؛ لدعم المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا؛ وهو الأمر الذي أفقد الدفاعات السورية عنصراً مهماً شكل أحد مكوناتها منذ 2015.
وفي التقدير؛ يمكن القول إنه من المرجح أن تركز الحكومة السورية معظم جهودها على تثبيت استقرار الخطوط الأمامية، ولاسيما في مدينة حماة، وذلك بمساعدة الضربات الجوية المركزة من قبل سلاح الجو السوري والروسي، في انتظار إعادة تنظيم الدعم الإيراني لسوريا، والذي أكّده وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، خلال زيارته إلى دمشق ولقائه الرئيس السوري بشار الأسد.
وفي هذا الإطار، فإنه من غير المرجح أن تعمد إيران إلى إشراك حزب الله في الهجوم المضاد المتوقع في سوريا؛ نتيجة لرغبة إيران في تركيز الحزب على استعادة نفوذه داخلياً في لبنان، وإعادة بناء قواته العسكرية؛ ومن المرجح أن تستعيض إيران بفصائل عراقية لشغل دور حزب الله في سوريا.