أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

التحدي الديمغرافي:

هل تنعكس السياسات السكانية في الصين إيجاباً على النمو الاقتصادي؟

03 أكتوبر، 2024


تتأثر عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الصين بسياساتها السكانية. ففي حين حقّقت الصين ازدهاراً كبيراً في معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي طيلة العقود الأربعة الماضية نتيجة توظيف العائد الديمغرافي الناجم عن زيادة عدد سكانها، مُتمثلاً في قوة رأس المال البشري في سن العمل، فإن تقلّص وتراجع مزايا هذا العائد خلال السنوات القليلة الماضية نتيجة شيخوخة السكان، ترتب عليه حدوث تباطؤ ملحوظ في نموها الاقتصادي. 

ولمواجهة تلك الإشكالية، لجأت الصين إلى تعديل سياساتها السكانية، وتجسّد أحدثها في إقرار البرلمان الصيني في 13 سبتمبر 2024، خطة جديدة لتأخير سن تقاعد العمالة الصينية بشكل تدريجي، وذلك بعد إعلان الحزب الشيوعي الحاكم في يوليو الماضي، عن رفع سن التقاعد بطريقة طوعية ومرنة؛ بهدف إحداث الاستقرار في سوق العمل، والحفاظ على زخم وحيوية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومواجهة الضغوط الاقتصادية الناجمة عن تقلص القوى العاملة.

نمو سكاني سلبي:

ارتبطت السياسات السكانية التي اتخذتها الصين في الآونة الأخيرة، ولاسيما قرارها برفع السن القانوني للتقاعد، بمجموعة من السياقات المتباينة، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

1. أزمة الشيخوخة: تُعد هذه الأزمة التي تتنامى بصورة مُتسارعة من أبرز التحديات الديمغرافية التي تواجه المجتمع الصيني في الوقت الراهن، ويُشكل عدد السكان الذين تتراوح أعمارهم ما بين 60 و69 عاماً نسبة كبيرة من سكان الصين؛ إذ بلغ عدد كبار السن الذين تتجاوز أعمارهم 60 عاماً نحو 280.04 مليون شخص بحلول نهاية عام 2022، وهو ما يمثل 19.8% من إجمالي سكان الصين، بينما بلغ عدد الذين تجاوزت أعمارهم 65 عاماً نحو 209.78 مليون شخص.

كما بلغت نسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 عاماً نحو 15.4% في عام 2023، وهو ما يجعل المجتمع الصيني "مجتمعاً مُسنّاً" طبقاً لتعريف الأمم المتحدة. وتتوقع التقارير الرسمية أن يصل عدد المسنين الصينيين فوق 60 عاماً إلى 300 مليون نسمة بحلول عام 2025.

وبالتوازي مع تنامي أعداد المسنين، فقد ارتفع المتوسط المتوقع للعمر إلى 78.2 عام. وتتوقع منظمة الصحة العالمية أن يتجاوز نحو ثُلث سكان الصين - نحو 402 مليون شخص - سن الستين بحلول عام 2040، مقارنة بنحو 254 مليوناً في عام 2019.

2. تباطؤ التعافي الاقتصادي: ارتبط النمو والازدهار الاقتصادي الذي وصلت إليه الصين خلال العقود الماضية بما تمتلكه من قوة بشرية ضخمة في ظل الحجم الهائل لسكانها. بيد أنه مع مرور الوقت بدأ تأثير العامل الديمغرافي فيما يتصل بالنمو الاقتصادي في التراجع. فتأثر النمو الاقتصادي بصورة ملحوظة بالانخفاض المتسارع الذي طرأ على عدد السكان في الصين خلال الأعوام القليلة الماضية؛ إذ سجل الاقتصاد الصيني أدنى معدلات النمو للناتج المحلي الإجمالي للصين منذ ثلاثة عقود، والتي بلغت 3% في عام 2022، و5.2% في عام 2023. وخلال النصف الأول من عام 2024، حقّق الناتج المحلي الإجمالي للصين نمواً بنسبة 5% على أساس سنوي.

وفي السياق ذاته، خفّضت المؤسسات المالية العالمية تقديراتها للنمو الاقتصادي في الصين خلال العام 2024، إلى مستوى أقل من هدف الحكومة البالغ نحو 5%؛ إذ توقع بنكا "غولدمان ساكس" و"سيتي غروب" تراجع نمو الاقتصاد الصيني إلى 4.7%، على خلفية تباطؤ الناتج الصناعي إلى أدنى مستوى في أغسطس الماضي. ويواجه الاقتصاد الصيني في الفترة الأخيرة العديد من الأزمات، ومنها انخفاض عدد العمال والمستهلكين، وتزايد ديون الحكومات المحلية نتيجة ارتفاع تكاليف رعاية كبار السن واستحقاقات التقاعد. بجانب أزمة سوق العقارات، وضعف ثقة المستهلكين، وانخفاض الطلب الخارجي.

3. تراجع عدد السكان: تواجه الصين في الوقت الحالي انكماشاً ملموساً في عدد السكان، في ظل معاناتها من أحد أدنى معدلات الخصوبة في العالم؛ إذ بلغ معدل النمو الطبيعي للسكان -0.6%، وهي المرة الأولى التي تشهد فيها الصين نمواً سلبياً لسكانها منذ عام 1962.

فقد شهد عدد سكان الصين تراجعاً غير مسبوق مرتين متتاليتين خلال العامين الماضيين. ففي عام 2022، تراجع هذا العدد للمرة الأولى منذ ستة عقود؛ نتيجة التراجع غير المسبوق في عدد المواليد وارتفاع الوفيات؛ إذ بلغ عدد السكان حوالي 1.4118 مليار نسمة، بانخفاض قدره 850 ألفاً مقارنة بعام 2021. كما سجل معدل المواليد تراجعاً قياسياً، بمعدل 6.77 مولود لكل ألف نسمة، مقارنة بمعدل 7.52 في عام 2021. كما تجاوز عدد الوفيات عدد المواليد لأول مرة في عام 2022؛ إذ سجلت الصين 9.56 مليون ولادة، مقارنة بنحو 10.41 مليون حالة وفاة. كما سجلت الوفيات أعلى نسبة لها منذ عام 1976، بمعدل 7.37 حالة وفاة لكل ألف نسمة، مُقارنة بمعدل 7.18 في عام 2021. ويرجع انخفاض معدل المواليد إلى ارتفاع تكلفة المعيشة وتفضيل العائلات قليلة العدد.

كما تسارع الانخفاض السكاني في الصين في عام 2023 للعام الثاني على التوالي؛ نتيجة ارتفاع الوفيات وانخفاض المواليد؛ إذ قُدر الانخفاض بأكثر من 2 مليون نسمة، وهو الأمر الذي من شأنه التأثير في الاقتصاد الصيني والنظام الصحي والضمان الاجتماعي، ولاسيما مع تزايد عدد كبار السن وانخفاض عدد المواليد.

وقد انخفض عدد المواليد الجدد في الصين في عام 2023 بنسبة 5.7% إلى ما يقرب من 9 ملايين طفل، وكان معدل المواليد منخفضاً بشكل قياسي عند 6.39 ولادة لكل ألف شخص.

وعلى المدى الطويل، من المُتوقع أن يشهد عدد سكان الصين تراجعاً حاداً في السنوات المقبلة، مع تجاوز عدد الوفيات لوتيرة المواليد الجدد؛ إذ يتوقع خبراء الأمم المتحدة انكماش عدد سكان الصين بنحو 109 ملايين نسمة بحلول عام 2050، ما يعتبر أكثر بنحو ثلاثة أمثال من تقديراتهم السابقة الصادرة في 2019.

سياسات جديدة:

في مواجهة التحدي الديمغرافي الذي تواجهه الصين، نتيجة انكماش وتراجع عدد سكانها؛ تبنت بكين حزمة من السياسات السكانية الجديدة، ويمكن توضيح أبرزها على النحو الآتي:

1. فتح المجال لإنجاب المزيد من الأطفال: تبنت الصين العديد من السياسات السكانية لزيادة عدد السكان؛ إذ ألغت في عام 2015 سياسة الطفل الواحد؛ بهدف تشجيع الأسر والعائلات الصينية على الإنجاب. وسمحت الصين للأزواج بإنجاب طفلين، كما بدأت في عام 2021، في تطبيق سياسة إنجاب طفل ثالث.

ولمواجهة الانخفاض غير المسبوق في معدلات المواليد، وكذلك احتمالات تراجع عدد السكان بحلول عام 2025، أعلنت الصين في أغسطس 2022، إجراءات جديدة لتشجيع الأسر على إنجاب مزيد من الأطفال، تشمل قيام السلطة المركزية والحكومات المحلية بزيادة الإنفاق على الصحة الإنجابية وتحسين خدمات رعاية الأطفال.

وفي أكتوبر عام 2022، حدّد الرئيس الصيني شي جين بينغ، زيادة معدلات المواليد كأولوية استراتيجية، وأكد أن الحكومة الصينية ستتبع استراتيجية وطنية استباقية استجابة لشيخوخة السكان في البلاد.

2. إنهاء سياسة التبنّي الأجنبي: في خطوة تتماشى مع التوجهات الدولية بشأن التبني عبر الحدود، وتعكس تحولاً مهماً، أعلنت الصين مؤخراً أنها لن تسمح باستمرار سياسة تبني الأجانب للأطفال الصينيين، وذلك بعد ثلاثة عقود من تطبيقها، وتم خلالها تبنّي أكثر من 160 ألف طفل صيني من جانب عائلات في مختلف دول العالم منذ بداية تطبيق هذه السياسة في عام 1992. ويأتي هذا التحول في الوقت الذي تحاول فيه بكين تشجيع الشباب على الزواج وإنجاب الأطفال بعد انخفاض عدد السكان لمدة عامين متتاليين.

ويمثل قرار الصين بالتوقف عن إرسال الأطفال إلى الخارج للتبني جزءاً من استجابتها للأزمة الديمغرافية المُتنامية التي تواجهها. وقد أدّت شيخوخة السكان إلى تراجع عمليات تبني الأطفال الصينيين في الخارج على مدى السنوات القليلة الماضية. ولجأت السلطات الصينية إلى منح الأولوية للتبني المحلي في السنوات الأخيرة، والذي يشكل الآن نحو 90% من جميع عمليات التبني في الصين.

3. تأخير سن التقاعد: أعلنت الصين في خطوة غير مسبوقة، أنها سترفع بصورة تدريجية السن القانوني للتقاعد بدءاً من العام المقبل، وذلك للمرة الأولى منذ عام 1978. وبموجب القرار الذي سيتم تطبيقه على مدى 15 عاماً، ستزيد سن التقاعد للرجال من 60 عاماً إلى 63 عاماً، كما ستزيد سن التقاعد للنساء من 50 عاماً للمهن اليدوية و55 عاماً للمهن المكتبية إلى 55 و58 عاماً على التوالي.

ويهدف هذا القرار إلى مواجهة أزمة تناقص عدد السكان وشيخوخة القوى العاملة في الصين، والتي تمتلك إحدى أدنى سياسات سن التقاعد في العالم. ومن المرجح أن تؤدي هذه الخطوة إلى إبطاء التراجع في قوة العمل في السوق الصينية ودعم الاقتصاد، رغم ما قد يترتب عليها من مخاطر بزيادة السخط الشعبي في ظل التباطؤ الاقتصادي.

وتشير تقديرات إلى أن رفع سن التقاعد سيمكن الحكومة الصينية من زيادة معدل مشاركة القوى العاملة؛ ومن ثم تخفيف التداعيات السلبية لشيخوخة السكان.

سيناريوهات مُستقبلية:

ثمة علاقة إشكالية بين عدد السكان في أي دولة وبين تأثيره في نموها الاقتصادي. وبالنظر إلى حالة الصين، يمكن طرح السيناريوهين الرئيسيين التاليين بهذا الشأن، وهما:

1. السيناريو التفاؤلي: يفترض هذا السيناريو أن التراجع الذي قد يطرأ على عدد سكان الصين في المُستقبل لن يؤثر في نموها الاقتصادي. ويستند هذا الافتراض إلى استمرار عدد سكان الصين عند مستوى 1.4 مليار نسمة في العقود المُقبلة، وكذلك استمرار الصين كسوق ضخمة؛ وهو ما سيترتب عليه تعزيز تنمية صناعات البيانات الضخمة والإنترنت. ومما يُعزّز أيضاً إمكانية تحقق هذا السيناريو تزايد جودة القوى العاملة، وعملية التحول من سلسلة الصناعة مُنخفضة الجودة إلى سلسلة الصناعة المتطورة؛ ومن ثم زيادة إنتاجية العمال بشكل كبير.

وفي هذا السياق، قد تستفيد الصين أيضاً من التطور الذي حقّقته في مجال الروبوتات ومزاياها الاقتصادية، لمواجهة نقص العمالة وارتفاع تكلفتها؛ إذ قامت الصين بتدشين نصف الروبوتات الصناعية في العالم خلال 2022، لتحتل المرتبة الخامسة عالمياً من حيث كثافة الروبوتات في قطاع التصنيع. فضلاً عن استثمارات الصين في مجال الأتمتة، والتي أدت إلى ارتفاع معدل الروبوتات إلى 392 روبوتاً لكل 10 آلاف موظف.

كما تُشير الخبرات الدولية إلى أن حدوث نمو سكاني سلبي في دولة ما لا يعني بالضرورة تحول اقتصادها إلى النمو السلبي؛ إذ توجد 38 دولة ومنطقة في العالم تمر في الوقت الحالي بمرحلة النمو السكاني السلبي، ومع ذلك تحافظ غالبيتها على نموها الاقتصادي.

كذلك، فإنه رغم استمرار انخفاض القوى العاملة في الصين؛ فإن حجمها لا يزال هائلاً، ومن المتوقع أن تضم 700 مليون شخص بحلول عام 2050، وهو ما يمثل قوة إضافية كبرى للقدرة الإنتاجية والنمو الاقتصادي للصين. هذا بجانب تحسن المستوى التعليمي للعمالة الصينية، بما يترتب عليه من تحول الهيكل الاقتصادي من الاعتماد على الاستخدام الكثيف للعمالة إلى الاستخدام الكثيف للتكنولوجيا ورأس المال والمعرفة.

2. السيناريو التشاؤمي: يتوقع هذا السيناريو أن يؤدي حدوث تراجع كبير في عدد سكان الصين إلى تراجع نموها الاقتصادي في المستقبل. ويرتكز هذا السيناريو إلى أن استمرار انخفاض عدد السكان سيترتب عليه تزايد تقلص القوى العاملة؛ الأمر الذي سيؤثر سلباً في النمو الاقتصادي.

وتُشير الإحصاءات الرسمية إلى تراجع عدد السكان في سن العمل في الصين، إلى 865 مليون شخص في عام 2023؛ أي ما يُعادل 61% من العدد الإجمالي للسكان، وذلك بتراجع نسبته 5%، مقارنة بعام 2016، عندما بلغ عدد القوى العاملة 907 ملايين نسمة، أو ما يعادل 66% من إجمالي عدد السكان.

ومن العوامل الأخرى التي قد تؤدي إلى حدوث هذا السيناريو، ضعف الاستهلاك المحلي، وتغير الهيكل العمري في الصين، وانخفاض معدل المواليد، فضلاً عن شيخوخة السكان؛ إذ من المتوقع أن تشهد الصين في السنوات العشر المقبلة خروج نحو 300 مليون شخص تتراوح أعمارهم حالياً بين 50 و60 عاماً من القوى العاملة.

كما قد يؤثر ارتفاع تكاليف العمالة؛ نتيجة التراجع السريع للقوى العاملة، في الصناعات التحويلية كثيفة العمالة؛ ما قد يدفعها إلى نقل نشاطها إلى خارج الصين.

وتتوقع الحكومة الصينية أن يمثل كبار السن نحو ثلث إجمالي عدد سكان الصين بحلول 2050، إلى جانب الأطفال الذين لم يصلوا إلى سن العمل. ونتيجة لذلك سيواجه الاقتصاد الصيني أعباء جديدة جراء ارتفاع عدد كبار السن الأقل إنتاجية والذين يضغطون أيضاً على النظام الصحي وصناديق التقاعد. كما يمكن أن يمثل ارتفاع نسبة كبار السن عقبة رئيسية قد تعوق الصين عن التفوق على الولايات المتحدة كقوة عظمى وأكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2050.

وفي التقدير، يمكن القول إن السياسات السكانية التي اتخذتها الصين كانت لها انعكاسات إيجابية على النمو الاقتصادي الكبير الذي شهدته خلال العقود القليلة الماضية، بما ترتب عليه تحولها إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بيد أن هذا التأثير يواجه في الوقت الحاضر العديد من التحديات، ويبدو أنه يتجه نحو التراجع النسبي في ضوء ضعف مردود الإجراءات والسياسات التي تبنتها الصين لزيادة عدد سكانها، في ظل الأزمة الديمغرافية الحادة التي تواجهها نتيجة تنامي شيخوخة السكان. 

ومع ذلك، فإن هناك العديد من العوامل، التي قد تجعل السياسات السكانية الجديدة تضخ مزيداً من الزخم في الاقتصاد، ومنها قرار الصين الأخير برفع سن التقاعد؛ بما يجعل الصين تخرج من حالة التباطؤ التي تواجهها لتحقيق التعافي الاقتصادي؛ وهو ما يجعل من السيناريو المتفائل الذي يُشير إلى عدم تأثر النمو الاقتصادي للصين بالتراجع الذي قد يشهده عدد سكانها في المستقبل، هو السيناريو الأقرب إلى الواقع.