أعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، في 8 يونيو 2023، تعليق المساعدات الغذائية المقدمة لإثيوبيا، وذلك قبل أن يتخذ برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة قراراً مماثلاً. وجاء هذا التطور بعد أن شهدت العلاقات الثنائية تحسناً نسبياً منذ مطلع العام 2023، بعد فترة من التوتر بين الجانبين بسبب أزمة تيغراي.
القرار الصعب:
أعلن المتحدث باسم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أن الولايات المتحدة اتخذت القرار الصعب بشأن مساعداتها الغذائية المقدمة لإثيوبيا، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- تعليق المساعدات الغذائية: أعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أن واشنطن قررت تعليق المساعدات الغذائية المقدمة لإثيوبيا، وذلك بعدما كشفت مراجعة تمت على مستوى كافة أنحاء إثيوبيا عن وجود مخطط واسع النطاق لتحويل المساعدات والإمدادات المخصصة للمحتاجين بعيداً عنهم، لافتاً إلى أن هذا التعليق سيستمر لحين تطبيق الإصلاحات المطلوبة، والتي تضمن وصول المساعدات لمستحقيها.
وجاء هذا القرار في أعقاب قرار الوكالة الأمريكية، مطلع مايو 2023، بتعليق المساعدات الغذائية المقدمة لإقليم تيغراي، في ظل التحقيقيات الجارية بشأن سرقة كميات كبيرة من إمدادات الغذاء والمساعدات هناك.
وتُعد الولايات المتحدة المانح الأكبر للمساعدات الإنسانية لإثيوبيا، حيث بلغت قيمة هذه المساعدات في عام 2022 حوالي 1.8 مليار دولار. ويأتي أكثر من ثلثي هذا المبلغ في شكل طعام وغذاء، حيث يعتمد أكثر من 20 مليون شخص في كافة المناطق الإثيوبية على هذه المساعدات، خاصةً مع الصراعات الداخلية في البلاد، بالإضافة لموجة الجفاف التي تعد هي الأسوأ في إثيوبيا منذ نحو أربعة عقود.
وفي أعقاب قرار واشنطن بتعليق المساعدات الغذائية لأديس أبابا، أعلن برنامج الغذاء العالمي، التابع للأمم المتحدة، وقف المساعدات الغذائية المقدمة لإثيوبيا أيضاً، لحين تطبيق ضمانات تعزز فرص وصول المساعدات الغذائية والإنسانية إلى المستهدفين والأشخاص المعرضين للخطر.
2- اتهامات للحكومة الإثيوبية: كشفت تقارير غربية عن تورط مسؤولين في الحكومة الإثيوبية في سرقة المساعدات الغذائية، مستندة في ذلك إلى الوثيقة التي أعدتها "مجموعة المانحين للعمل الإنساني والصمود"، والتي رأت أن هذه العمليات تشكل مخططاً مقصوداً، بتنسيق بين الحكومة الفدرالية وبعض حكومات الولايات بهدف تحويل هذه المساعدات لخدمة الوحدات العسكرية.
وكشف تقرير نشره موقع الوكالة الأمريكية، في مايو الماضي، قبل أن يحذفه لاحقاً، عن تفاصيل المساعدات الغذائية التي قدمتها الولايات المتحدة لإقليم تيغراي الإثيوبي، حيث قام مسؤولون بتحويل هذه المساعدات لخدمة الجيش والمقاتلين وبيع جزء منها في الأسواق، فضلاً عن مصادرة سلطات تيغراي لجزء من هذه المساعدات. وسبق وأن أكدت مديرة الوكالة، سامانثا باور، في مطلع 2023، وجود سرقة للمساعدات المقدمة لمنطقة تيغراي، وأنها تعكس حالة من التواطؤ بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي.
3- انتقادات إثيوبية للقرار الأمريكي: انتقدت الحكومة الإثيوبية قرار الوكالة وبرنامج الغذاء العالمي بتعليق المساعدات الغذائية، حيث اعتبر المتحدث باسم الحكومة الإثيوبية، ليجيس تولو، أن هذه القرار يمثل عقاباً لملايين الإثيوبيين الذين يواجهون نقصاً حاداً في الغذاء، بسبب الحرب الأهلية في المنطقة الشمالية، وكذلك بسبب موجة الجفاف الحادة التي تعاني منها البلاد. واعتبر تولو أن تعليق المساعدات يمثل "قراراً سياسياً" موجهاً ضد أديس أبابا.
تفسيرات محتملة:
يلاحظ أن تعليق الولايات المتحدة لمساعداتها الغذائية المقدمة لإثيوبيا يشكل ضربة جديدة لعلاقات البلدين المتأرجحة، إذ يعكس هذا القرار جملة من الدلالات المهمة، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- منع الانزلاق إلى الحرب: قد يكون تعليق المساعدات يستهدف بالأساس ممارسة واشنطن لضغوط على أديس أبابا، في ظل القلق الأمريكي من عودة الاقتتال الداخلي، سواءً بسبب التوترات الراهنة في منطقة أوروميا، أو في ظل الخلافات الأخيرة التي نشبت بين أديس أبابا وجبهة تحرير تيغراي، بسبب تمسك الأولى بمنع الثانية من الترشح للانتخابات المرتقبة في 2023، وهو ما يهدد بتقويض اتفاق بريتوريا للسلام الموقع بين الجبهة والحكومة الإثيوبية، في نوفمبر الماضي، ومن ثم احتمالية عودة الاضطرابات لمنطقة تيغراي وخارجها.
2- احتواء ضغوط الكونغرس: لا يمكن فصل قرار الإدارة الأمريكية بتعليق المساعدات الغذائية إلى إثيوبيا عن الضغوط المتزايدة من قبل بعض أعضاء الكونغرس، مثل السيناتور، جيم ريش، نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، على إدارة جو بايدن بسبب التقارير التي تتهم الحكومة الإثيوبية بارتكاب جرائم التطهير العرقي واستخدام الطعام كسلاح في الحرب الأهلية التي شهدتها تيغراي، بالإضافة إلى فشل الولايات المتحدة في ضمان وصول المساعدات لمستحقيها. وتزامن ذلك مع تأكيد تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" صادر في مطلع يونيو 2023 أن عمليات التطهير العرقي التي تقوم بها الحكومة الإثيوبية في بعض أجزاء إقليم تيغراي لا تزال قائمة.
3- تخوف أمريكي من توجهات إثيوبيا: قد يكون التصعيد الأمريكي الراهن جاء رداً على الانفتاح اللافت من قبل الحكومة الإثيوبية على روسيا والصين خلال الفترة الأخيرة، خاصةً بعد زيارة نائب رئيس الوزراء الإثيوبي ووزير الخارجية، ديميكي ميكونين، إلى بكين، نهاية مايو الماضي، واجتماعاته المطولة التي عقدها مع وزير الخارجية الصيني، تشين جانغ، وتصريحات الأخير التي كشف خلالها أن بلاده مستعدة لتقديم كافة الدعم للحكومة الإثيوبية في عمليات إعادة الإعمار والتنمية في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، كما لفت الوزير الصيني إلى أن بكين سلمت أخيراً دفعتين من الإمدادات والمساعدات الغذائية لمنطقة القرن الإفريقي، وتستعد حالياً لتسليم شحنة جديدة خلال الفترة المقبلة.
كذلك، تواصل إثيوبيا الحفاظ على علاقتها الاستراتيجية بروسيا، وهو ما انعكس في زيارة رئيس مجلس النواب الإثيوبي، أجيجنهو تيشاغر، إلى موسكو، منتصف مايو 2023، والتوقيع على مذكرة تفاهم تستهدف رفع مستويات التعاون بين البلدين، كما أعلن تيشاغر أن بلاده ستشارك بوفد رفيع المستوى في القمة الروسية الإفريقية المرتقبة في يوليو المقبل.
4- المشاركة الإثيوبية في الصومال: قد يعود تعليق المساعدات الأمريكية لإثيوبيا إلى الخلاف الراهن بين الطرفين بشأن حجم المشاركة الإثيوبية في الصومال، حيث أرسلت إثيوبيا أعداداً محدودة من جنودها إلى الصومال بناءً على طلب الولايات المتحدة، والتي كانت تتوقع مشاركة أكبر، وبالتالي ربما تسعى الولايات المتحدة للضغط على الحكومة الإثيوبية لإرسال مزيد من القوات لدعم الحكومة الصومالية.
5- الانشغال بدعم أوكرانيا: في إطار الاتفاق الأخير الذي توصلت إليه إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، مع الكونغرس الأمريكي بشأن رفع سقف الدين، يبدو أن إدارة بايدن ملتزمة بتخفيض نفقاتها خلال الفترة المقبلة، بما يشمل المساعدات الخارجية التي تقدمها، خاصةً في ظل حرص واشنطن على استمرار المساعدات المقدمة لأوكرانيا.
وبالتالي، فإن كشف واشنطن عن وجود فساد يتعلق بتوزيع المساعدات الغذائية المقدمة لإثيوبيا سوف يكون بمثابة ذريعة تستهدف واشنطن من خلالها التنصل من أي مساعدات إضافية مضطرة لتقديمها إلى أديس أبابا، على الأقل في المدى المنظور.
احتواء التصعيد:
على الرغم من تعليق واشنطن المساعدات الغذائية لإثيوبيا، فإن البلدين غير راغبين حالياً في استمرار النهج التصعيدي، لذا يبدو أن الطرفين يعملان على احتواء التصعيد الراهن، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- حرص واشنطن على التعاون: لفتت تقديرات أمريكية إلى أن الولايات المتحدة تبدو حريصة على عدم التصعيد بشكل حاد ضد الحكومة الإثيوبية، لتجنب تفاقم التوترات بين البلدين، خاصةً وأن الأشهر الأخيرة شهدت تحركات لاستيعاب الخلافات بين واشنطن وأديس أبابا بسبب الحرب الأهلية في إقليم تيغراي، وهو ما انعكس في إحجام المسؤولين الأمريكيين عن انتقاد الحكومة الإثيوبية مباشرة بشأن سرقة المساعدات الغذائية الأمريكية، كما تجنب بيان الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية الكشف صراحةً عن المتهم بسرقة هذه الإمدادات.
وفي هذا السياق، عقد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، اجتماعاً مع نائب رئيس الوزراء الإثيوبي ووزير الخارجية، ديميكي ميكونين، على هامش الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي ضد داعش، والذي استضافته السعودية خلال يونيو 2023، حيث اتفق الطرفان على تعزيز التعاون المشترك بين واشنطن وأديس أبابا في إجراء تحقيق شامل بشأن سرقة المساعدات الغذائية، كما أصدرت السفارة الأمريكية في إثيوبيا بياناً عبرت خلاله عن التوصل لتفاهمات مع الحكومة الإثيوبية بشأن تبني نظام فعال لتوزيع المساعدات.
2- حاجة إثيوبيا للدعم الأمريكي: على الرغم من انتقاد الحكومة الإثيوبية للقرار الأمريكي الأخير بتعليق المساعدات الغذائية، فإن أديس أبابا لا تبدو مستعدة حالياً لخسارة علاقاتها بالغرب، خاصةً وأن الأولى بحاجة إلى موافقة واشنطن للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، فضلاً عن حاجة إثيوبيا لضمان علاقتها بالولايات المتحدة، ومن ثم حلفائها الغربيين، لدعم اقتصادها المأزوم، وهو ما قد يفسر التصريحات الأخيرة للخارجية الإثيوبية، والتي ألمحت خلالها إلى أن أديس أبابا ستتعاون مع واشنطن في التحقيق في مزاعم تحويل المساعدات الإنسانية، وذلك بهدف الكشف عن المسؤولين عن هذه الانتهاكات.
ويتماشى هذا الطرح مع إعلان الحكومة الإثيوبية، في 7 يونيو الجاري، أنها بصدد عقد حوار وطني شامل خلال العام الإثيوبي المقبل، والذي يبدأ في شهر سبتمبر، وذلك بمشاركة ممثلين عن كافة أنحاء البلاد، في محاولة لتعزيز الاستقرار داخلياً، والحصول على مزيد من الدعم الغربي.
وفي الختام، على الرغم من تصعيد الولايات المتحدة تجاه إثيوبيا باستخدام ورقة المساعدات الغذائية، فإن الأخيرة متمسكة، حتى الآن، بتحقيق التوازن في علاقاتها مع القوى الدولية المختلفة، بما في ذلك الصين وروسيا، مع عدم رغبة أديس أبابا في التضحية بعلاقاتها بواشنطن وحلفائها الأوروبيين، لكن من الملاحظ أن التحركات الأمريكية في منطقة القرن الإفريقي، والتي تستهدف تقويض النفوذ الصيني والروسي هناك، تبدو غير مجدية إلى حد كبير حتى الآن، إذ لا تزال إثيوبيا منفتحة على علاقاتها ببكين وموسكو.