تسعى كل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين إلى تجنب الصدام الكارثي فيما بينهما. وفي سبيل ذلك؛ يقوم مسؤولو البلدين بإجراء زيارات متبادلة -بشكل علني أو سري- من أجل تحقيق هذا الهدف. وفي سياق ذلك، فقد أجرى مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان، زيارة رسمية للصين، في أواخر شهر أغسطس 2024، للمرة الأولى منذ تقلده منصبه، تضمنت مُحادثات رسمية بشأن بعض الملفات والقضايا العالقة بالمجالات السياسية والعسكرية والتجارية.
بين التوتر والتهدئة:
تأتي تلك القمة غير المسبوقة في ظل عدد من المحددات والعوامل، التي يمكن إيجازها على النحو التالي:
1. زيارة مُتبادلة: رغم الخلافات؛ لم تتوقف قنوات الاتصال بين الصين والولايات المتحدة؛ ولعل أحدث الزيارات المتبادلة بين الجانبين؛ التي أجراها كل من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وكذلك وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين إلى بكين، في إبريل 2024، في ظل المساعي المُتبادلة لحلحلة الخلافات والحيلولة دون وقوع صدام بين القوتيْن الكبرييْن.
كما جرت بالتزامن مع زيارة سوليفان، زيارة وفد تجاري صيني للولايات المتحدة بقيادة رئيس المجلس الصيني لترويج التجارة الدولية رين هونغ بين، بدعوة من غرفة التجارة الأمريكية ومجلس الأعمال الأمريكي الصيني، خلال أغسطس 2024، وتضمنت تلك الفعاليات تأكيد أهمية دور مجتمعات الأعمال لتعزيز العلاقات الثنائية برغم التحديات. كما أكّد السفير الصيني لدى الولايات المتحدة شيه فنغ، خلال كلمته بمنتدى الأعمال الأمريكي الصيني السادس الذي عقدته مجلة فوربس الصين في نيويورك، في 29 أغسطس 2024، أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد للعلاقات بين البلدين.
2. تصاعد الحرب التجارية والتكنولوجية: في وقت سابق من هذا العام؛ أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أنها ستُبقي على مجموعة من التعريفات الجمركية المفروضة على السلع الصينية مع التوجه لزيادتها على فئات مثل: أشباه الموصلات والمركبات الكهربائية، كما فرضت ضوابط للحيلولة دون وصول الصين إلى التكنولوجيا الأمريكية الفائقة والتطبيقات ذات الاستخدام المزدوج، وردت الصين على ذلك بتقييد صادراتها من بعض المواد الأساسية اللازمة لإنتاج السلع عالية التقنية.
في 23 أغسطس 2024؛ فرضت الولايات المتحدة عقوبات على ما يقرب من 400 فرد وشركة لمساعدتهم روسيا في التحايل على العقوبات الأمريكية ومساهمتهم في الحرب بأوكرانيا، وعلّقت وزارة التجارة الصينية على الإجراء الأمريكي باعتباره يقوّض النظام والقواعد التجارية الدولية، ويعوق التبادلات الاقتصادية والتجارية الدولية، ويؤثر في أمن واستقرار سلاسل الصناعة والإمداد العالمية.
وقبيل الزيارة، كرّر المبعوث الصيني الخاص للشؤون الأوراسية لي هوي، الاستياء الصيني؛ واصفاً العقوبات المفروضة على الكيانات الصينية بأنها غير قانونية وأحادية الجانب ولا تستند إلى حقائق.
3. توترات إقليمية مُتأججة: تأتي زيارة سوليفان في ظل النزاعات الأمنية المُستمرة بين الصين من جانب، وحليفتيْ الولايات المتحدة، اليابان والفلبين من جانب آخر؛ إذ بلغت التوترات البحرية مداها بين الصين والفلبين في الآونة الأخيرة مع اتهام مانيلا لبكين باستخدام القوة المُفرطة على نحو يهدد أمن الملاحة؛ واصفة إياها بأنها "أكبر معرقل" للسلام في جنوب شرق آسيا؛ مما دفع الولايات المتحدة للتشاور مع حليفتها الفلبين عبر المشاورات التي أجراها قائد القيادة الأمريكية في منطقة المحيطيْن الهندي والهادئ الأدميرال صمويل بابارو، بشأن مرافقة السفن الفلبينية في بحر الصين الجنوبي، والتي أقيمت بالتزامن مع زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي للصين؛ ولوّحت وزارة الخارجية الأمريكية، في بيانها الصادر 31 أغسطس 2024، بتقديم الدعم لحليفتها بموجب معاهدة الدفاع المشترك بين البلدين.
أبعاد الزيارة:
تضمنت تلك الزيارة الاستثنائية التطرق للعديد من الملفات والقضايا العالقة، التي يمكن إيجازها على النحو التالي:
1. تخفيف التوترات: يأتي السبب الرئيس لتلك الجولة الأولى من نوعها لمستشار للأمن القومي الأمريكي في الصين منذ ثماني سنوات؛ من أجل ضبط العلاقات التنافسية وتجنب الصدام وتخفيف حدّة التوترات خلال الفترة المتبقية من عهد إدارة الرئيس بايدن، إلى جانب الحاجة لتعميق التنسيق الدبلوماسي؛ خاصة في ظل ترقب انعقاد العديد من الفعاليات خلال الفترة المتبقية من العام، والتي قد يلتقي فيها الرئيسان؛ مثل: قمّة مجموعة العشرين واجتماع منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ.
كما يُنظر لتلك المحادثات باعتبارها إحدى نتائج قمّة سان فرانسيسكو المنعقدة عام 2023 بين الرئيس الصيني شي جين بينغ ونظيره الأمريكي. ولا تستهدف تلك الزيارة تحقيق اختراقات هائلة في العلاقات الثنائية إنما مواصلة الزخم المستقر للعلاقات الصينية الأمريكية، وتجنب وقوع أزمات جديدة في الأشهر القليلة المقبلة.
2. المُحادثات السياسية والعسكرية: تضمنت الزيارة انعقاد نحو 6 جلسات، وُصفت بأنها صريحة وجوهرية وبنّاءة، وناقش الجانبان فيها آفاق العلاقات الثنائية والملفات العالقة والقضايا الدولية والإقليمية المُتأججة، وقد التقى سوليفان بالعديد من القيادات الصينية، وفي مقدمتهم وزير الخارجية وانغ بي، ونائب رئيس اللجنة العسكرية المركزية وتشانغ يو شيا.
وسعى الجانب الأمريكي أيضاً إلى تعزيز التبادلات العسكرية بين الجيشين، التي تعرقلت منذ تعليق المحادثات العسكرية رداً على زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة، نانسي بيلوسي، تايوان في أغسطس 2022، فانعقدت مُناقشات بين قائد منطقة المحيطيْن الهندي والهادئ صمويل بابارو، وقائديْن صينييْن إقليمييْن مسؤوليْن عن القوات بالقرب من تايوان.
وشهدت المحادثات التطرق لبعض الملفات الخلافية وفي مُقدمتها تايوان؛ إذ أكّد الجنرال تشانغ أن المواجهة في تايوان هي خط أحمر لا ينبغي تجاوزه، وطالب الولايات المتحدة بوقف تعاونها العسكري مع تايوان، والتوقف عن التسليح ونشر الروايات الكاذبة المتعلقة بالجزيرة. كما أخفقت المحادثات في التوصل لتوافق بشأن بحر الصين الجنوبي، في ظل تجدد الاشتباكات بين الصين والفلبين، والتوغل الصيني بالمجال الجوي الياباني. إلّا أن الولايات المتحدة أكّدت التزامها بدعم حلفائها وحرصها على تأمين سيادة القانون وحرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان. ومن ناحية أخرى، حرص سوليفان على دفع الصين نحو وقف الدعم العسكري لروسيا في حربها ضد أوكرانيا من خلال الدعم المقدم للقاعدة الصناعية الدفاعية الروسية وكذلك التقنيات مزدوجة الاستخدام.
3. بحث التعاون التجاري والتكنولوجي: تم الاتفاق على عقد جولة ثانية من الحوار بشأن الذكاء الاصطناعي. في حين أن بيان البيت الأبيض قد أشار إلى إعراب سوليفان عن المخاوف الأمريكية المستمرة بشأن السياسات التجارية والممارسات الاقتصادية غير السوقية للصين. ومن جانبه، طالب وانغ الولايات المتحدة بـالتوقف عن قمع الصين في مجالات التجارة والاقتصاد والتكنولوجيا، فالتعويل الأمريكي على آليات الحماية التجارية، لن يؤدي إلّا إلى الإضرار بالتنمية الخضراء العالمية والتأثير في النمو الاقتصادي العالمي.
4. الاتفاق بشأن تعميق الاتصالات: تم التوافق بشأن الحفاظ على التبادلات والاتصالات رفيعة المستوى على مختلف المستويات، ومواصلة التعاون في مجالات مكافحة المخدرات، وإنفاذ القانون وإعادة المهاجرين غير الشرعيين، ومعالجة تغير المناخ. ومن المقرر أن يجتمع مسؤولو التجارة بالبلدين في الصين في 7 سبتمبر 2024، حيث سيشارك الممثل التجاري الدولي الصيني ونائب وزير التجارة وانغ شو وين، في الاجتماع مع وكيل وزارة التجارة الأمريكية للتجارة الدولية ماريسا لاغو. هذا بالإضافة إلى أنه من المقرر التقاء المستشار الأول للرئيس الأمريكي للسياسة المناخية الدولية جون بوديستا، بالمبعوث الخاص للصين بشأن تغير المناخ ليو تشن مين، في الأسبوع الأول من سبتمبر.
5. الترويج لكامالا هاريس: فخلال لقائه بالمسؤولين الصينيين، سعى سوليفان إلى طمأنة صناع القرار الصينيين من خلال التلويح إلى أنه في حال تولي المرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية الأمريكية نائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس زمام الأمور بالبيت الأبيض؛ فإن ذلك من شأنه أن يؤدي لإدارة مسؤولة للعلاقات الثنائية عوضاً عن المسار العدائي للعلاقات، في إشارة للمخاوف المحتملة لمسار العلاقات في حال عودة المرشح الجمهوري والرئيس السابق ترامب للرئاسة الأمريكية.
وقد أشار سوليفان إلى الدور الذي أدته هاريس في صنع السياسة الخارجية الأمريكية والاستراتيجيات ذات الصلة بالدور الأمريكي في منطقة المحيطيْن الهندي والهادئ؛ وهي تحمل ذات التوجهات التي يحملها بايدن بشأن الإدارة المسؤولة للتنافس بين البلدين للحيلولة دون تحوله لصراع.
واتصالاً بملف الانتخابات؛ تمت إثارة المخاوف بشأن إمكانية التدخل والتأثير الصيني في الانتخابات الرئاسية المُرتقبة؛ إذ سعت الصين من جانبها لتجنب التعليق على الانتخابات الأمريكية، ولم تبدِ أي رأي بخصوص تفضيلها لأي من المرشحيْن. في حين أن التقديرات الاستخباراتية الأمريكية تقلل من مخاطر الدور الصيني في الفضاء الإلكتروني، وما يمثله من تهديد لمسار الانتخابات ونتائجها مُقارنة بالدوريْن الروسي والإيراني.
6. اللقاء مع الرئيس الصيني: وهو اللقاء الذي انعقد في قاعة الشعب الكبرى، وأشاد الجانبان في إطار الأجواء الودية للقاء بالمسار الذي تنتهجه العلاقات الثنائية برغم التوترات الكامنة والخلافات. وتمت الإشارة للصداقة التقليدية بين البلدين. وكانت الرسالة الأساسية للرئيس الصيني؛ مُفادها تطلعه لأن تتمكن الولايات المتحدة من رؤية التنمية الصينية في ضوء إيجابي؛ من أجل ضمان أن تكون العلاقات الثنائية تسير في مسار مسؤول يجعلهما مصدراً لاستقرار للسلام العالمي ودافعاً للتنمية المشتركة، وأكّد شي التزام الصين بالتنمية المُستقرة والصحية والمستدامة للعلاقات الصينية الأمريكية، وقد نقل سوليفان رؤية الرئيس الأمريكي باعتباره مُلتزماً بإدارة العلاقات الثنائية لتجنب الصراع وتحقيق المصالح المشتركة.
وناقش الجانبان سُبُل تنفيذ الالتزامات التي تعهد بها الرئيسان في قمتهما السابقة المنعقدة في نوفمبر 2023، بما في ذلك في مجال مكافحة المخدرات، والاتصالات بين الجيوش وسلامة الذكاء الاصطناعي وملف مضيق تايوان والحرب الروسية الأوكرانية وبحر الصين الجنوبي. وقد رحب الجانبان بالجهود الجارية للحفاظ على خطوط الاتصال المفتوحة، بما في ذلك التخطيط لإجراء مكالمة هاتفية رئاسية خلال الأسابيع المقبلة.
7. تأكيد الخطوط الحمراء الصينية: كانت الأولوية الصينية في تلك المحادثات هي تأكيد أن كلاً من قضية تايوان، والشأن الداخلي وما يتصل به من قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والحق في التنمية ومسار صعود الصين وانخراطها في النظام العالمي؛ هي بمثابة الخطوط الحمراء الأربعة التي رسمتها بكين للعلاقات مع الولايات المتحدة؛ فالمساس بأي منها من شأنه أن يدفع العلاقات نحو الهاوية.
دلالات مُتعددة:
يمكن في هذا الصدد الإشارة إلى بعض الدلالات التي تحملها تلك المحادثات؛ وهو ما يمكن إيجازه على النحو الآتي:
1. بلورة إرث بايدن: وذلك في ظل التقديرات التي تربط بين تلك الزيارة والانتخابات الأمريكية، ومساعي بايدن للحفاظ على الهدوء في العلاقات وتجنب الصدام مع الترقب بشأن آفاق العلاقات المستقبلية بعد الانتخابات؛ فمن شأن نجاح بايدن في تلك المهمة واختتام مسيرته السياسية بلقاء مع الرئيس شي؛ أن يعظم من إرثه ونهجه في السياسة الخارجية؛ وهو أمر قد تستفيد منه الصين من خلال إرساء نمط تصالحي للعلاقات على نحو قد يقيد سبل تأجيج العلاقات أمام الإدارة الأمريكية الجديدة.
2. بؤر خلاف قابلة للتأجج: فبرغم التفاهمات التي تم التوصل لها على صعيد استئناف المحادثات في مجال الذكاء الاصطناعي والمناخ والمجال العسكري؛ فإنه لا يمكن المبالغة في تقدير المخرجات الإيجابية من تلك المحادثات، ولا يجب إخراجها من إطارها باعتبارها مجرد مُحادثات لا تزال تستلزم الكثير من العمل للبناء عليها؛ إذ أخفق الجانبان في الخلوص إلى تفاهمات وترتيبات بشأن القضايا الأكثر خلافية مثل: ملف أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي وتايوان، فضلاً عن استمرار تنامي حدة الصراع حول الهيمنة التكنولوجية والتقنيات الفائقة؛ إذ يصر الطرفان على موقفهما بشأن تلك القضية، فقد أكد سوليفان استمرارية اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع استخدام التقنيات الأمريكية المتقدمة لتقويض الأمن القومي الأمريكي؛ بل تُشير بعض التقديرات إلى أن إدارة بايدن بصدد إجراءات جديدة؛ من شأنها التوسع في وقف صادرات معدات تصنيع أشباه الموصلات من بعض الدول الأجنبية إلى شركات صناعة الرقائق الصينية.
3. إدراك صيني للنهج الأمريكي بأنه أمر واقع: فالتعاطي الصيني مع التحركات الأمريكية يعكس إدراكها أن السياسة الأمريكية إزاء الصين هي أمر يصعب تعديله، ويجب التكيف معه؛ خاصة ما يتعلق بالتوصيفات الأمريكية للدور الصيني، والتي ترى الصين أنها مغلوطة، لكنها باتت تتقبلها وتتعامل معها وتسعى لتصحيحها والتوصل لتوافق بشأنها دون صدام، ودون قطع قنوات الاتصال مع الولايات المتحدة للتعبير عن رفض التصور الأمريكي للصين كما كان عليه الحال في الماضي؛ فهي باتت تحرص على الإدارة المسؤولة للعلاقات للحفاظ على مصالحها المرتبطة بالاقتصاد الأمريكي.
وفي التقدير، يمكن اعتبار تلك الجولة من المحادثات استمراراً للنهج الذي يسعى الجانبان من خلاله للحفاظ على قنوات الاتصال وتجنب الصدام؛ خاصة في هذه الفترة التي تُعد بمثابة مرحلة انتقالية لحين انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتي ستتضح معها ملامح السياسة الخارجية تجاه الصين. وإن كانت آليات الحوار لا تكفي لحلحلة الخلافات العميقة، والتي قد تتأجج في أي وقت في ظل الفشل في التوصل لتوافق بشأنها؛ خاصة إشكاليات تايوان وبحر الصين الجنوبي والصراع حول التكنولوجيا الفائقة.