مُستقبل يون!

إلى أين تتجه الأزمة السياسية في كوريا الجنوبية؟

12 December 2024


قبل الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، في 5 ديسمبر 2024، استقالة وزير الدفاع كيم يونغ هيون. يأتي ذلك في أعقاب ما تشهده كوريا الجنوبية من موجة من عدم الاستقرار السياسي بدأت مع إعلان يول، في 3 ديسمبر 2024، بشكل مُفاجئ فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية؛ مما أدّى لتأجج الاحتجاجات ضد ذلك القرار، ودفع البرلمان للتحرك من أجل عزله.

جمود قائم: 

ثمّة أسباب دفعت الرئيس الكوري الجنوبي لاتخاذ مثل هذا الإجراء المفاجئ والمتوقع أيضاً، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي:

1. حالة الشلل السياسي: سعى الرئيس يول إلى تبرير تحركاته الأخيرة بأنها تُعزى إلى حالة الجمود السياسي التي أصابت الجمعية الوطنية (البرلمان)؛ والتي سيّطر الحزب الديمقراطي (المعارض) على 156 مقعداً بها، وذلك خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في البلاد في إبريل 2024، من إجمالي عدد المقاعد في الجمعية الوطنية والبالغ 300 مقعد، في مُقابل حصول حزب "سلطة الشعب" (الحاكم) على 114 مقعداً.

وقد وصف يون الجمعية الوطنية بأنها أصبحت "وكراً للمجرمين"، وتحاول شلّ إدارة شؤون البلاد، مُستشهداً بتعثر إقرار الموازنة العامة؛ إذ دخل حزبه في مأزق مع المعارضة بشأن مشروع قانون الميزانية للعام المقبل (2025)، كما حاولت المعارضة عزل ثلاثة من كبار المدعين العامين، بما في ذلك رئيس مكتب المدعي العام المركزي فيما وصفه الحزب الحاكم بالإجراء الانتقامي رداً على التحقيقات الجنائية مع زعيم المعارضة لي جاي ميونغ، والذي تتنامى حظوظه كمرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2027 وفقاً لاستطلاعات الرأي.

2. تراجع شعبية يون: يعاني الرئيس يون من واقع سياسي مأزوم، مع تراجع معدلات شعبيته منذ توليه المنصب في 2022 بعد فوزه بأغلبية بسيطة، وزادت معاناته بعدما مُني حزبه بهزيمة في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في إبريل 2024، واستحوذ بعدها الحزب الديمقراطي (المعارضة) على السلطة التشريعية؛ الأمر الذي جعله على وشك أن يصبح -أي الرئيس يون- بطة عرجاء. 

ولا يقتصر ذلك التراجع على أحزاب المعارضة فحسب؛ بل أيضاً داخل صفوف حزبه المنتمي له (سلطة الشعب)، فضلاً عما يواجه إدارته من تُهم وفضائح سياسية مثل: مزاعم الرشوة وتضارب المصالح وتورط أسرته وزوجته بتلك الممارسات، وكذا مسؤولين في مجلس الوزراء، ويرفض إجراء تحقيقات مُستقلة بشأنها؛ مما يُثير استياء المعارضة.

3. تُهم بتنامي نفوذ كوريا الشمالية: أكّد الرئيس الكوري أن الهدف الأساسي من فرض حالة الطوارئ هو التصدي لتهديدات المعارضة التي باتت مناهضة للدولة عبر التحريض على التمرد وتهديد قيم الليبرالية بفعل تمدد نفوذ كوريا الشمالية داخل البلاد عبر صلتها بالمعارضة، ووصف الأحكام العرفية بأنها إجراء ضروري للقضاء على تلك "القوى المُعادية للدولة المؤيدة للشمال"، مُبرراً القرار بأنه ضروري لحماية حريات الناس وسلامتهم، وضمان استدامة البلاد، والحفاظ على الاستقرار للأجيال القادمة. جدير بالذكر أن يون يتبنى موقفاً مُتشدداً تجاه كوريا الشمالية بسبب طموحاتها النووية، على النقيض من سلفه الليبرالي مون جاي إن، الذي سعى إلى التواصل بين الكوريتين.

تحركات استثنائية: 

أسفرت تلك القرارات الرئاسية عن عدد من التحركات والتحركات المناوئة لها، في إطار ما تشهده البلاد من تسارع وتيرة انعدام الاستقرار السياسي، ويمكن إيجاز ذلك على النحو التالي:

1. فرض الأحكام العرفية: بموجب ذلك الإعلان الرئاسي؛ ثمّة إجراءات أمنية وعسكرية تسري في البلاد تتضمن حظر جميع الأنشطة السياسية والبرلمانية، وإطلاق صلاحيات الاعتقالات دون مذكرة ضد كل من يمارس التخريب أو يروج للأخبار الكاذبة ويتلاعب بالرأي العام، مع حظر الإضرابات وكافة الأعمال والتجمعات التي تحرض على الفوضى.

وفي أعقاب المرسوم الرئاسي؛ أصدر رئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن سو، إعلاناً يفرض قيوداً فورية وشاملة على الأحزاب السياسية والمظاهرات العامة وتنظيم العمالة ووضع جميع وسائل الإعلام تحت السيطرة العسكرية. كما أكّد رئيس هيئة الأركان المشتركة كيم ميونغ سو، أن الجيش سيعطي الأولوية للسلامة العامة، وسيتخذ جميع الاحتياطات في حالة أي استفزاز من كوريا الشمالية.

2. تنديد المعارضة وتخلي الحلفاء: أثارت تلك الإجراءات حالة من الغضب العام من قبل مختلف الفصائل والتيارات، حيث وصف زعيم الحزب الديمقراطي المعارض لي جاي ميونغ إعلان حالة الطوارئ العسكرية بأنه إجراء غير دستوري، مُحذراً من تداعياته على "الديمقراطية" بفعل تدخل الجيش في الساحة السياسية، كما انطلقت الاحتجاجات الشعبية المطالبة برحيل يول.

وقد أطلق الاتحاد الكوري لنقابات العمال إضراباً مفتوحاً قالت إنه "سيستمر حتى استقالة الرئيس يون من منصبه"؛ بل عرض كبار مُساعديه وكذا رئيس الأركان ومُستشار الأمن القومي الاستقالة الجماعية، وأجرى الحزب الحاكم اجتماعاً طارئاً، يوم 4 ديسمبر 2024، لمناقشة إمكانية مغادرة يول للحزب، واستقالة جميع أعضاء حكومته. 

3. رفض البرلمان وتراجع يون: في جلسة طارئة عقدت في وقت متأخر من ليل 3 ديسمبر وتحت محاصرة الجيش للبرلمان وتجمع المتظاهرين خارجه؛ صوّت جميع أعضاء الجمعية الوطنية الحاضرين والبالغ عددهم 190 عضواً في الجمعية الوطنية على رفض المرسوم الرئاسي. 

وبعد 6 ساعات من إعلان الأحكام العرفية؛ أعلن يون تراجعه وإلغاء الأحكام العرفية العسكرية وانسحبت قوات الجيش التي كانت تحاصر البرلمان، إلا أنه واصل انتقاد محاولات البرلمان عزل كبار المسؤولين الحكوميين وكبار المدعين العامين، قائلاً إنهم ينخرطون في ممارسات غير أخلاقية تشل وظائف الدولة عبر سوء استغلالهم لدورهم التشريعي.

4. التوجه لعزل يون برلمانياً: بدأت قوى المعارضة في التحرك من أجل التصويت داخل الجمعية الوطنية؛ لعزل الرئيس يون من منصبه، وهو أمر يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء، مع الوضع في الاعتبار أن الجمعية الوطنية تضم 300 عضو وتشغل أحزاب المعارضة 192 مقعداً؛ لذا فإن مشروع القانون قد يمرر في حال دعم أكثر من ثمانية أعضاء من حزب يون نفسه (حزب سلطة الشعب)، وهو أمر ما زال محل شك، خاصة مع إعلان بعض أعضاء الحزب الحاكم عن رفضهم لإجراءات المعارضة في هذا الصدد؛ إذ أعلن رئيس الكتلة النيابية لحزب سلطة الشعب تشو كيونغ-هو، في 5 ديسمبر 2024، أن جميع أعضاء الكتلة سيصوتون ضد مشروع القانون الذي طرحته المعارضة بقصد عزل الرئيس. 

وفي حالة التصويت لصالح عزله، سيتم تعليق مهام يون الرئاسية على الفور حتى صدور حكم نهائي من المحكمة الدستورية، ويتعين إجراء انتخابات جديدة خلال 60 يوماً من إقالته، ويتولى رئيس الوزراء مهام منصبه بالنيابة خلال تلك الفترة الانتقالية.

تداعيات مُحتملة: 

ثمّة عدد من التداعيات التي قد تترتب على تلك التحركات السياسية –برغم التراجع عنها- وهو ما يمكن تبيانه على النحو التالي:

1. قلق أمريكي: ثمّة حالة من الترقب الحذر لتلك التطورات من قبل حلفاء كوريا الجنوبية وحتى خصومها، فبُعَيد التراجع عن حالة الطوارئ؛ أكّد البيت الأبيض ارتياحه لتلك الخطوة التصحيحية واحترام الرئيس يون لتصويت البرلمان، وفي بداية الأزمة أكّدت وزارة الخارجية الأمريكية متابعتها التطورات بقلق بالغ، مُشيرة ضمنياً لاستعدادها التصدي لأي مخاطر من الجارة الشمالية، مع الإشارة لوجود 28500 جندي أمريكي في كوريا الجنوبية لحماية البلاد.

وتُشير بعض التقديرات إلى أن الموقف الأمريكي قد اتسم بعدم الحسم سواء بمباركة أم معارضة موقف يون؛ نظراً لموقفه المناهض لكوريا الشمالية بصرامة بما يجعله حليفاً موثوقاً به لواشنطن، بيد أن تلك الاضطرابات الداخلية قد تكون مكلفة للولايات المتحدة من خلال إمكانية تقويض الجهود الأمريكية لتحقيق المصالحة بين اليابان وكوريا الجنوبية، والتي تُعد ركيزة أساسية لتعضيد التحالفات الأمريكية في آسيا للتصدي لمخاطر الصين وكوريا الشمالية، واللتان تستفيدان من التوترات الداخلية بكوريا الجنوبية. 

2. أزمة دستورية مُحتملة: تنظر بعض التقديرات إلى حراك يون بأنه مُحاولة يائسة منه للاستمرار في الحكم عبر عرقلة العمل المؤسسي ومنع إقالته ومُحاكمته بعد تصاعد فضائحه السياسية، إلّا أن ذلك التحرك مثّل تحدياً للديمقراطية وسمعة كوريا الجنوبية؛ بل يمثل الأمر كذلك تهديداً للاقتصاد دون داع.

وتُعد الخطوات الأخيرة التي اتخذها يون، المرة الأولى لإعلان الأحكام العرفية منذ 4 عقود في كوريا الجنوبية؛ إذ شهدت الأخيرة منذ تأسيس الجمهورية عام 1948 نحو أكثر من 12 إعلاناً للأحكام العرفية آخرها 1980 لما أجبرت مجموعة من الضباط العسكريين بقيادة تشون دو هوان الرئيس آنذاك تشوي كيو هاه، على إعلان الأحكام العرفية لقمع دعوات المعارضة والعمال والطلاب لاستعادة مسار التحول الديمقراطي حينها.

ومن شأن تلك التحولات المتسارعة أن تدفع البلاد نحو أزمة دستورية مُحتملة في حال المضي قدماً للتصويت لعزل الرئيس في وقت يتمسك فيه يون باستمراره في منصبه حتى نهاية مدة فترته الرئاسية، فضلاً عن تزايد حالة عدم اليقين السياسي، وتزايد فرص إمكانية إجراء انتخابات مبكرة. فالتقديرات تنظر إلى ما قام به الرئيس يون بأنه بمثابة إطلاق النار على قدمه على نحو قد يكلفه الإقصاء من منصبه، بعد نجاة الديمقراطية –مرحلياً- من مغبة تحركاته الاستثنائية التي كادت تعيد البلاد لنفق الحكم العسكري مرة أخرى. 

3. خسائر اقتصادية: أدّت التوترات السياسية لخسائر اقتصادية عديدة، فقد تراجعت عملة الوون الكوري الجنوبي إلى أدنى مستوى لها في أكثر من عامين مقابل الدولار، في حين قلّصت صناديق الاستثمار المتداولة المُرتبطة بالأسهم الكورية الجنوبية خسائرها نسبياً بعد تراجعه عن موقفه. وقد انخفض مؤشر الأسهم القياسي في كوريا الجنوبية في التعاملات المبكرة، الأربعاء 4 ديسمبر 2024، في حين ارتفعت قيمة العملة بعد أن وعدت وزارة المالية بتوفير سيولة غير محدودة بعد إجراء اجتماع طارئ لاتخاذ تدابير لحماية استقرار السوق.

في التقدير، يمكن القول إن الديمقراطية في كوريا الجنوبية تقف بمفترق طرق، فبالرغم من التجاوز المرحلي لتلك الأزمة بعد تراجع الرئيس عن إجراءاته الاستثنائية ونضج دور الجيش وعدم استغلاله الفرصة للمضي قدماً في تقويض مسار التحول الديمقراطي والقيام بانقلاب بقوة السلاح ومُسارعتها بالانسحاب من المشهد؛ فإن المخاطر بشأن تداعيات الأزمة تظل قائمة، وقد تنذر بإشكالية في مدى دستورية وشرعية حكم يون في ظل تمسكه بمنصبه في وقت تتصاعد فيه أصوات المعارضة المطالبة بتنحيه عن منصبه؛ بما يجعل مستقبل المشهد السياسي في سيول محاطاً بالغموض النسبي إلى حين اتضاح نيات الرئيس يون بشأن قراره الأخير، وما إن كان سيرضخ للمطالب السياسية في ظل تراجع شعبيته وتقلص شرعيته، أم سيزج بالبلاد في جولة جديدة من الفوضى والاحتجاجات.