تفاؤل حذر:

هل تشكل الانتخابات المحلية فرصة لحلحلة المسار الليبي؟

12 December 2024


شهدت ليبيا يوم 16 نوفمبر 2024، محطة انتخابية محلية، أُجريت في عدد من البلديات، بلغ 58 بلدية في أنحاء ليبيا، لأول مرة منذ عقد كامل؛ وقد أُجريت الانتخابات في ظل أوضاع سياسية معقدة، وانقسام مستمر بين حكومتين متنازعتين؛ واحدة في الشرق تتبع مجلس النواب بقيادة أسامة حماد، وأخرى في الغرب هي حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة. ورغم ذلك، فقد اجتازت الانتخابات البلدية "إشكالية" الانقسام الحكومي نسبياً. 

بل، إنها بدت، في مرحلتها الأولى، وكأنها مُقدمة لحلحلة الصراع السياسي؛ حيث عكس هذا الاستحقاق الانتخابي المؤجل، شعوراً لدى معظم الليبيين بإمكانية تحقيق خطوة إيجابية لجهة تجاوز حالة الجمود السياسي، التي تسم المشهد الليبي منذ سنوات؛ وهو ما يجعل إجراء هذه الانتخابات حدثاً يحمل في طياته العديد من الدلالات السياسية والاجتماعية؛ بل والاقتصادية أيضاً.

دلالات الانتخابات:

تتعدد دلالات إجراء الانتخابات المحلية في ليبيا، على أكثر من مستوى كما يلي:  

(1) استمرارية عمل المؤسسات المحلية: إذ رغم الانقسام الحاد على مستوى الحكومات المركزية؛ فإن الانتخابات المحلية أظهرت أن هناك رغبة ليبية للحفاظ على استمرارية المؤسسات البلدية، كونها الأقرب إلى المواطن والأكثر ارتباطاً بتقديم الخدمات الأساسية. وقد أبرز هذا الحدث الانتخابي دور البلديات، كأداة حيوية في التخفيف من تأثير الانقسام السياسي، حيث تسعى للحفاظ على استقرار نسبي على مستوى المجتمعات المحلية.

كما تشير الانتخابات إلى محاولة الفاعلين المحليين، في السعي لتحييد البلديات عن الصراعات السياسية الكبرى، ومحاولة إبقاء هذه المؤسسات خارج دائرة التوتر، على الرغم من أن انقسام السلطة ينعكس أحياناً على توزيع الصلاحيات بين البلديات.

(2) انعكاسات الانقسام السياسي على الانتخابات: حيث شهدت الانتخابات المحلية تفاوتاً واضحاً في الاهتمام والمشاركة، بين المناطق التي تسيطر عليها كل من الحكومتين. ففي المناطق الغربية، التي تخضع لحكومة الدبيبة، أُعطيت العملية الانتخابية اهتماماً أكبر؛ إذ حظيت بدعم حكومي وإعلامي لافت؛ أما في المناطق الشرقية، فإن الانقسام السياسي أثر بشكل واضح في التحضير لهذه الانتخابات وتنفيذها.

هذا، فضلاً عن أن الانقسام على مستوى الحكومتين، يؤكد أن تنظيم انتخابات موحدة على المستوى الوطني يظل تحدياً كبيراً؛ خاصة أن الانتخابات المحلية بحد ذاتها أظهرت صعوبة تحقيق التوافق حول الإشراف على العملية الانتخابية.

(3) تباين المُشاركة الشعبية في عملية التصويت: فقد جاءت المشاركة الشعبية في هذه الانتخابات متباينة؛ ففي بعض المناطق، كانت نسبة الإقبال على عملية التصويت مرتفعة؛ مما يعكس رغبة المواطنين في تحسين ظروفهم المحلية عبر انتخاب قيادات قادرة على تلبية احتياجاتهم. أما في مناطق أخرى، فقد كان الإقبال ضعيفاً بسبب الإحباط من غياب نتائج ملموسة من العمليات الانتخابية السابقة، خاصة في ظل الانقسام السياسي المستمر، وغياب الخدمات الأساسية، وتصاعد الأزمات الاقتصادية والأمنية.

هذا التباين في المشاركة، يكشف عن فجوة متزايدة بين النخب السياسية والمواطنين العاديين، حيث يرى الكثيرون أن الانتخابات المحلية لن تؤدي إلى تغيير جوهري في حياتهم اليومية؛ ما دامت الانقسامات السياسية قائمة.

(4) الرسائل السياسية وراء إجراء الانتخابات: حيث من الواضح إن إجراء الانتخابات المحلية، في هذا التوقيت، يرسل رسالة متعددة الجوانب إلى الداخل والخارج. 

داخلياً، يعكس إجراء الانتخابات رغبة الأطراف الليبية في إظهار القدرة على تنظيم استحقاقات ديمقراطية، رغم حالة الانقسام والتعقيد السياسي في البلاد. ورغم أن الانتخابات محلية الطابع؛ فإنها تشير إلى وجود إرادة سياسية لدى بعض الفاعلين، لإعادة العملية الديمقراطية إلى المسار الصحيح، ولو بشكل جزئي.

خارجياً، تحاول السلطات الليبية، من خلال هذه الخطوة، إظهار أن البلاد قادرة على تنظيم الانتخابات المحلية، ما قد يُعد مؤشراً على استعداد ليبيا للانتخابات الوطنية المؤجلة منذ سنوات؛ إذا ما توافرت الظروف السياسية والأمنية الملائمة.

تداعيات محتملة:

ثمة تداعيات محتملة نتيجة إجراء الانتخابات المحلية في ليبيا، تبدو كما يلي:

(1) تعزيز دور السلطات المحلية: حيث إن إجراء الانتخابات المحلية في ليبيا سوف يترك بصمات واضحة على تعزيز دور البلديات، كأطراف فاعلة في توفير الخدمات وإدارة الأوضاع على المستوى المحلي؛ مما قد يزيد من استقلاليتها في ظل غياب سلطة مركزية موحدة. هذا التحول قد يؤدي إلى تقوية النزعة اللامركزية في ليبيا، وهو ما قد يكون حلاً عملياً لبعض مشكلات البلاد؛ لكنه في الوقت نفسه، قد يعمق الانقسامات؛ إذا لم تتم إدارته بحكمة.

يبدو ذلك بوضوح، في حال إمكانية أن تُصبح البلديات نموذجاً للعمل المشترك بين الليبيين، بعيداً عن النزاعات السياسية؛ إلا أن البلديات، من جهة أخرى، قد يتم استغلال استقلاليتها لتعزيز نفوذ أطراف معينة على حساب المصلحة الوطنية الشاملة.

(2) إمكانية تصعيد الصراعات السياسية: فعلى الرغم من الطبيعة المحلية لهذه الانتخابات؛ فإنها قد تكون مدخلاً لتصعيد جديد في الصراع بين الحكومتين المتنازعتين في الشرق والغرب الليبيين؛ خاصة أنه بعد أيام من إتمام الاستحقاق الانتخابي، عمدت حكومة الدبيبة، في طرابلس، إلى إرباك النظام الإداري في البلديات، عبر ضم بلديات إلى بعضها، في محاولة لتغيير الأوضاع الإدارية للبلديات، قبل إعلان النتيجة النهائية للانتخابات.

أما حكومة حماد، في الشرق الليبي، فقد حذرت من جانبها من أن الخطوة التي اتخذتها حكومة الدبيبة، يمكن أن تُسهم في زعزعة الاستقرار، وخلق حالة من الفوضى في الإدارات التابعة لوزارة الحكم المحلي.

(3) التأثير في التوازنات القبلية والمناطقية: ففي بلد مثل ليبيا، حيث تؤدي القبائل والمناطق دوراً كبيراً في تشكيل المشهد السياسي؛ فإن الانتخابات المحلية قد تؤدي إلى إعادة تشكيل التوازنات القبلية والمناطقية؛ ومن ثم يمكن أن تكون هذه الانتخابات وسيلة لتحقيق تمثيل أوسع للمجتمعات المحلية في إدارة شؤونها؛ مما يعزز شعور المشاركة والانتماء.

بل، يمكن أن تكون الانتخابات المحلية، نفسها، خطوة تمهيدية لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة، فضلاً عن تعزيز الثقة بالعملية الانتخابية داخل ليبيا؛ هذا، في حال ارتضت الفاعليات السياسية والقبلية داخل ليبيا، بالنتائج التي تُسفر عنها الانتخابات.

(4) انعكاسات على المواقف الخارجية: فمن اللافت، أن إجراء الانتخابات المحلية في ليبيا لا يؤثر فقط في المشهد الداخلي؛ بل يمتد ليترك بصمات واضحة على المستوى الإقليمي والدولي؛ نظراً لأهمية ليبيا الجيوسياسية وارتباط أزمتها بعدد من التوازنات الإقليمية والدولية. 

فالانتخابات المحلية قد تؤثر في مواقف القوى الدولية والإقليمية تجاه الأزمة الليبية. فمن جانب الدول الداعمة للحل السياسي؛ فإنها قد ترى في الانتخابات المحلية خطوة إيجابية نحو التهدئة وإعادة بناء الثقة بين الليبيين. أما الدول المُنخرطة في النزاع الليبي؛ فإنها قد تستخدم نتائج الانتخابات لتعزيز نفوذها من خلال دعم أطراف محلية تتماشى مع أجنداتها.

وكما يبدو، فإن الدول المجاورة لليبيا، مثل تونس، الجزائر، ومصر، تتابع الانتخابات المحلية عن كثب؛ نظراً لأن استقرار ليبيا يؤثر بشكل مباشر في استقرارها؛ فمصر، كمثال، قد تنظر إلى الانتخابات كفرصة لتعزيز جهودها في دعم حل سياسي شامل في ليبيا، خاصة إذا استُخدمت البلديات كقنوات للتواصل بين الأطراف الليبية؛ أما الجزائر، كمثال آخر؛ فإنها قد تستغل نتائج الانتخابات لتعزيز دورها في الملف الليبي؛ خاصة إذا ظهرت قيادات محلية تتماشى مع مصالحها الأمنية والسياسية.

وكما يبدو، أيضاً، فإن إجراء الانتخابات المحلية، لا يتعلق بتأثيراته فقط في المستوى الإقليمي؛ ولكنه، إضافة إلى ذلك، سوف يؤثر أيضاً في كيفية تعامل القوى الدولية الكبرى مع الملف الليبي. فالولايات المتحدة، قد تدفع نحو استغلال هذه الخطوة لإعادة ترتيب الأولويات في ليبيا، خاصة فيما يتعلق بمنع تمدد النفوذ الروسي أو الصيني؛ أما روسيا، فإنها قد ترى الانتخابات كفرصة لتوسيع نفوذها، من خلال دعم قيادات محلية في مناطق استراتيجية، خصوصاً في الشرق والجنوب؛ أما الاتحاد الأوروبي، فإنه قد يستفيد من نجاح الانتخابات، لتعزيز التعاون مع البلديات في إدارة ملفات الهجرة والحدود، في محاولة التقليل من تدفق المهاجرين نحو أوروبا.

فرص وتحديات:

يبدو أن إجراء الانتخابات المحلية في ليبيا يحمل دلالات وتداعيات عميقة على المشهد السياسي الوطني. ورغم أنها لا تقدم حلاً نهائياً للأزمة السياسية؛ فإنها تسلط الضوء على أهمية التركيز على المستوى المحلي كمدخل لإعادة بناء الدولة؛ وذلك من منظور أن ما ستؤول إليه هذه الانتخابات يعتمد بشكل كبير على إرادة الأطراف السياسية، وقدرتها على تجاوز الخلافات، والاستفادة من هذه المحطة لبناء مستقبل أكثر استقراراً ووحدة.

ورغم أن الانتخابات المحلية ليست حلاً مباشراً للأزمة السياسية الكبرى في ليبيا؛ فإنها تعكس بعض الفرص والتحديات التي تواجه البلاد؛ فمن جهة "الفرص"، يمكن للانتخابات أن تسهم في بناء جسور الثقة بين الأطراف المختلفة، كما أنها قد تكون خطوة نحو تعزيز الاستقرار على المستوى المحلي؛ ما يمكن أن يُمهّد لإجراء انتخابات وطنية في المستقبل. أما من جهة "التحديات"؛ فإن استمرار الانقسام يجعل من الصعب توحيد الجهود لإدارة العملية الانتخابية على المستوى الوطني. بالإضافة إلى ذلك، فإن نجاح الانتخابات المحلية في مناطق محددة، لا يعني بالضرورة القدرة على تحقيق نفس النتائج في المناطق التي تشهد توترات أو صراعات.

ختاماً، فإن إجراء الانتخابات المحلية في ليبيا، يحمل دلالات مهمة على الوضع السياسي الراهن؛ فهو يعكس استمرارية المؤسسات المحلية رغم الانقسام، ويُبرز رغبة بعض الأطراف في إظهار القدرة على تنظيم انتخابات حتى في ظل التعقيدات السياسية. ومع ذلك، فإن الانقسام السياسي المستمر يُلقي بظلاله على كل المحاولات لاستعادة الاستقرار وإجراء انتخابات وطنية شاملة.

بعبارة أُخرى، يمثل نجاح الانتخابات المحلية مؤشراً نسبياً على إمكانية استعادة مسار الانتخابات الوطنية، لكنه لا يُخفي حجم التحديات التي تواجه هذا المسار؛ فلا تزال قضايا مثل: توحيد المؤسسات، وضمان نزاهة الانتخابات، والاتفاق على قاعدة دستورية موحدة، تقف حجر عثرة أمام تحقيق تقدم حقيقي في العملية الانتخابية الوطنية؛ أي عملية الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.