استجابة ثلاثية:

بدائل تقليل الخسائر التعليمية في صراعات الشرق الأوسط

11 October 2024


بدأ العام الدراسي الجديد في معظم دول العالم في موعده الطبيعي، واستعاد المعنيون بالعملية التعليمية، كلٌ في بلده، نشاطهم للحديث عن جودة نظام التعليم وسُبل تحسين أداء الطلاب وحل مشكلات المناهج والمُعلمين والبنية التحتية وغيرها. بيد أن مشهد استعداد الأطفال لبدء يوم دراسي طبيعي لم يكن حاضراً في عدد من دول الشرق الأوسط التي دمرت فيها الصراعات المسلحة، البنية التحتية التعليمية، وأجبرت الأطفال على النزوح قسراً مع عائلاتهم هرباً من الموت، وعمَّقت الفجوة التعليمية، الكبيرة بالفعل بعد جائحة كورونا، وذلك في دول مثل: السودان واليمن وفلسطين، بما يؤثر في فرص النمو بهذه الدول.

ظروف صعبة:

عند الحديث عن استئناف الدراسة في مناطق الصراعات، فإن سلامة الأطفال سواء داخل المدارس أم في رحلتهم إليها تمثل الهاجس الأبرز لأولياء الأمور، فيقومون بالمفاضلة بين حصول أبنائهم على فرصة استكمال الدراسة وتكلفة هذه الفرصة، وغالباً ما يجدون أن احتمالية تعرض الأطفال للخطر تكون أكبر من جدوى الذهاب إلى المدرسة في ظل تدني جودة الخدمة التعليمية المقدمة هناك؛ الأمر الذي يُقلل من فرص التحاق الأطفال بالدراسة أو الحصول على الحد الأدنى من التعليم، في ظل الوضع المتردي الذي خلفته الصراعات المسلحة، والمتمثل في الآتي:

1- بنية تحتية مدمرة وظروف غير مهيأة للدراسة: وفقاً لتقرير "الاعتداءات على التعليم 2024" الصادر عن "التحالف الدولي لحماية التعليم من الهجمات" في يونيو 2024، فإن نحو 6 آلاف اعتداء قد وقعت على قطاع التعليم خلال عامي 2022 و2023، بزيادة 20% عن العامين السابقين عليهما، وارتفع هذا العدد بشكل ملحوظ وفقاً للبيانات المنشورة حول المدارس في السودان واليمن وفلسطين. ففي السودان على سبيل المثال، يبلغ عدد المدارس 22 ألفاً، توقفت منها 14 ألف مدرسة بسبب الحرب، وتحولت 6 آلاف مدرسة إلى مراكز لإيواء النازحين؛ مما أسهم في زيادة أعداد الطلاب المحرومين من الدراسة من 7 ملايين قبل اندلاع الصراع الحالي إلى 17 مليوناً من أصل 19 مليون طفل في سن الدراسة.

وفيما يتعلق باليمن، يشير تقرير "منظمة رعاية الأطفال" في مارس 2024 إلى أن عدد المدارس التي خرجت من الخدمة بسبب هجمات الحوثيين بلغ 2426 مدرسة بنسبة 15% من إجمالي عدد المدارس البالغ 16034 مدرسة، إلا أن رئيس الوزراء اليمني، الدكتور أحمد عوض بن مبارك، رفع العدد إلى 2860 مدرسة مدمرة جزئياً أو كلياً مع بداية العام الدراسي الحالي؛ في إشارة إلى استمرار الهجوم على المؤسسات التعليمية بالرغم من الهدنة بين الأطراف المتحاربة في اليمن. 

ولم يختلف الأمر كثيراً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تسببت الهجمات الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر 2023 في تدمير 93% من إجمالي مدارس قطاع غزة البالغ عددها 593 مدرسة، وتسببت القيود المفروضة على حركة الفلسطينيين والخوف من العنف في إغلاق نحو 20% من مدارس الضفة الغربية.

وقبل التصعيد الحالي بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، بلغ عدد المدارس التي أُغلقت في جنوب لبنان 70 مدرسة، منها ثماني مدارس للاجئين السوريين. فيما أكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، في 25 سبتمبر الماضي، أن الهجمات الأخيرة تسببت في تحويل 300 مدرسة إلى مراكز إيواء للنازحين، ومن الممكن أن يؤثر هذا التصعيد في تعليم نحو 100 ألف طفل.

2- جهود محدودة التأثير: على الرغم من الوضع المتردي في دول الصراعات بالمنطقة، هناك محاولات عديدة لإنقاذ العام الدراسي في بعض المناطق الآمنة، ولكن يمكن تقييم تأثير هذه المحاولات على أنه ضعيف نظراً لقلة أعداد الأطفال الذين يتلقون خدمة تعليمية مقارنةً بالأعداد الكلية. ففي السودان، تم استئناف الدراسة بشكل جزئي في 6 ولايات فقط من بين 18 ولاية، وبدأت 600 مدرسة في ولاية البحر الأحمر شمال شرق السودان في تقديم الخدمة لنحو 140 ألف طالب فقط، ثم تبعتها ولايتا نهر النيل وسنار، وسط شكوك بعدم استكمال هذه المبادرة في ظل تصاعد الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

وفي اليمن، يسيطر الحوثيون على مناطق تضم أكثر من 50% من إجمالي الأطفال في سن الدراسة، ولكنهم لا يقدمون خدمة تعليمية حقيقية؛ إذ أصبح الأطفال مسجلين في كشوف المدارس فقط دون حضور فعلي، ويتلقى من يواظب على الحضور تعليماً ضعيفاً نظير مبالغ مالية تحت مسمى رسوم تسجيل فرضتها الجماعة الحوثية بسبب ضعف مواردها المالية وعدم قدرتها على طباعة كتب دراسية أو دفع رواتب 176 ألف معلم منذ 2016، وفقاً لتقرير "واقع التعليم في اليمن 2023" الصادر عن "الائتلاف اليمني للتعليم للجميع". وبينما تسعى منظمة "اليونيسيف"، بالتعاون مع الحكومة اليمنية الشرعية والمُعترف بها دولياً، إلى تقديم التعليم لما يزيد على 500 ألف طفل، ودفع الحوافز لأكثر من 35 ألف معلم، من خلال تنفيذ مشروع "استعادة التعليم والتعلم" (REAL) الذي يهدف إلى إعادة تأهيل ألف مدرسة، إلا أن نجاح هذا المشروع يظل رهناً باستمرار التهدئة بين أطراف الصراع في اليمن وعدم توسيع نطاق الحرب بالإقليم.

وفي الأراضي الفلسطينية، يظل كل الأطفال في قطاع غزة محرومين من الخدمة التعليمية بشكل كامل، إلا في بعض الحالات التي يمكن وصفها بأنها محدودة التأثير مثل توفير "اليونيسيف" 39 مساحة تعليمية مؤقتة في القطاع تخدم 12,400 طالب، ومحاولة متطوعين تعليم الصغار أسس الكتابة والقراءة، شأنهم في ذلك شأن بعض المتطوعين في مراكز إيواء النازحين في السودان، وهي محاولات لا يمكنها ضمان أي شكل من أشكال التعليم الجيد الذي تسعى دول العالم إلى تحقيقه بحلول 2030. وفي الضفة الغربية، وبالرغم من بدء العام الدراسي؛ فإن مهددات استمراره بشكل طبيعي ما تزال قائمة، ما ينذر باعتماد وزارة التعليم الفلسطينية على التعليم عن بُعد، الذي لم يُفد الطلاب خلال العام الماضي. 

تداعيات سلبية:

في ظل استمرار الصراعات المسلحة في عدد من دول المنطقة بما يفاقم الأوضاع الإنسانية ويحرم الأطفال من حقهم في التعليم، فإن هناك جملة من التداعيات السلبية على الأفراد والمجتمعات المحلية وربما دول الجوار أيضاً، يمكن تحديد أبرزها فيما يلي:

1- التأثير السلبي في الطلاب والمُعلمين: بالنسبة للطلاب، تتزايد معدلات الفاقد التعليمي نتيجة انقطاعهم عن الدراسة لفترات طويلة وقلة الدافعية للتعلم مستقبلاً، ويمتد التأثير السلبي عليهم ليتضمن التأثير الكبير في الصحة النفسية والعقلية والاجتماعية للأطفال بما في ذلك الشعور بالإحباط والعزلة، بالإضافة إلى إمكانية انقطاع الطلاب عن الدراسة بشكل دائم. أما المُعلمون، فقد أوضحت التقارير المنشورة أن نسبة كبيرة منهم وجدوا أنفسهم مجبرين على ترك مهنة التدريس؛ إما لتوقف الدراسة جبرياً كما هو الحال في غزة ومعظم ولايات السودان، أو لعدم حصولهم على أجورهم كما هو الحال في مدارس المحافظات اليمنية التي يسيطر عليها الحوثيون.

2- فتح المجال لاستغلال الأطفال وتجنيدهم: تُسهل الصراعات مهمة المليشيات والجماعات المسلحة في استقطاب وتجنيد الأطفال واستغلالهم بأشكال مختلفة، كما هو الحال في معسكرات الحوثيين باليمن الذين استغلوا الحرب على قطاع غزة لتجنيد عدد أكبر من الأطفال.

3- تضرر المجتمعات المحلية: تُقلل الأمية وفقر التعلم في المجتمعات التي تعاني من الصراعات المسلحة، من فرصها في النمو الاقتصادي مستقبلاً؛ إذ يؤدي التعليم المدرسي دوراً في زيادة الدخل بنسبة 9% تقريباً مقابل كل عام إضافي من هذا التعليم. ويمتد هذا التأثير ليشمل درجة تماسك المجتمعات ودرجة الثقة في المؤسسات الوطنية؛ الأمر الذي سيفرض على هذه المجتمعات مستقبلاً حشد موارد مضاعفة وبذل جهود أكبر وعقد شراكات أوسع للعودة إلى المسار الصحيح فيما يتعلق بإعادة الطلاب إلى مدارسهم بعد تأهيلها.

4- تأثير ممتد لدول الجوار: يتمثل التأثير الأبرز في دول الجوار في زيادة موجات النزوح والهجرة نتيجة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والتعليمي، بما يمثل ضغطاً على الخدمات التعليمية والصحية في المجتمعات المضيفة، فضلاً عن احتمالية وجود ظواهر اجتماعية سلبية مثل التطرف والعنف في بعض هذه المجتمعات.

بدائل متاحة:

في ضوء قراءة المشهد الراهن في مناطق الصراعات في بعض دول الشرق الأوسط، وتحديد أبرز تداعياته السلبية على الأفراد والمجتمعات المحلية، يمكن تقديم بعض البدائل والمقترحات التالية لتخفيف وطأة الخسائر التعليمية في هذه الدول كما يلي:

1- بدائل سياسية: يمكن أن تشتمل على التزام الأطراف المتنازعة بالاتفاقيات الدولية مثل البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن اشتراك الأطفال في النزاعات المسلحة، والذي يحظر تجنيد الأطفال دون سن 18 عاماً، وإعلان المدارس الآمنة، الذي يهدف إلى حماية المؤسسات التعليمية من الهجمات.

2- بدائل إغاثية: تشمل تقديم دعم فوري وعاجل للأطفال في المناطق المتضررة، على أن يتمثل هذا الدعم فيما يلي:

أ- تقديم المنظمات الدولية مثل: "اليونيسيف" وصندوق "التعليم لا ينتظر"، الدعم المالي والتعليمي للأطفال في مناطق النزاع، على غرار ما قام به صندوق "التعليم لا ينتظر" في غزة خلال العام الماضي.

ب- إطلاق برامج تعليمية غير رسمية مكثفة في المخيمات والمناطق الآمنة لتوفير التعليم للأطفال النازحين، لضمان تعليمهم القراءة والكتابة وتحسين المهارات الحياتية.

ج- توفير خدمات الدعم النفسي والاجتماعي لمساعدة الأطفال على التعامل مع الصدمات الناتجة عن النزاع.

3- بدائل تنموية: هي بدائل تتعلق باستراتيجيات طويلة المدى تهدف إلى تحسين النظام التعليمي بشكل كلي في فترة ما بعد انتهاء الصراعات، ويمكن أن تتضمن ما يلي:

أ- إعادة بناء المدارس المتضررة وتوفير بيئات تعليمية آمنة؛ الأمر الذي يتطلب تمويلاً كبيراً من المجتمع الدولي والدول المانحة.

ب- التركيز على إعادة المُعلمين المؤهلين إلى المدارس، وتدريب المُعلمين الجدد وتأهيلهم لتقديم تعليم جيد في بيئات ما بعد النزاعات.

ج- مراجعة وتحديث المناهج الدراسية لتكون أكثر شمولاً وملاءمة لاحتياجات الأطفال في مناطق الصراع، مع التركيز على تعزيز القيم الإنسانية والتسامح.

ترتيباً على ما سبق، يمكن تأكيد أن أزمة التعليم في دول الصراعات بالشرق الأوسط تمثل أحد أبرز التحديات الإنسانية التي تواجه المجتمع الدولي ودول المنطقة، وتتطلب معالجتها استجابة شاملة ذات ثلاثة أبعاد: سياسية، وإغاثية، وتنموية؛ من أجل توفير بيئات تعليمية آمنة ومستدامة تضمن حق الأطفال في دول الصراعات في التعليم، وتعزز فرص المجتمعات المحلية في التماسك وتحقيق مستقبل أفضل، وتقلل المخاطر التي يفرضها الوضع الراهن.