توافق هشّ:

هل يمكن أن يدفع "مؤتمر برلين" باتجاه حل الأزمة الليبية؟

23 January 2020


استضافت ألمانيا فاعليات "مؤتمر برلين" المتعلق بحلحلة الأزمة الليبية، في التاسع عشر من يناير الجاري، بحضور أممي رفيع المستوى، ومشاركة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، إلى جانب حضور أبرز الدول الإقليمية وبعض الدول الأوروبية، مع تمثيل لجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار، يمكن إلقاء الضوء على أبرز مخرجات مؤتمر برلين، وما يمكن أن يرتبط به من تداعيات على الصراع الليبي في المرحلة المقبلة.

مخرجات المؤتمر:

أكد البيان الختامي للمؤتمر أن الهدف الرئيسي هو مساعدة الأمم المتحدة في توحيد المجتمع الدولي من أجل دعم حل سلمي للأزمة الليبية، فيما تضمنت أبرز المحاور التي تم الاتفاق عليها ما يلي:

1- وقف إطلاق النار: حيث رحّب المؤتمر بالتخفيض الملحوظ في العنف منذ 12 يناير الجاري، والمفاوضات التي أُجريت في موسكو في 13 يناير، وكذلك جميع المبادرات الدولية الأخرى في الشأن ذاته، مع دعوة جميع الأطراف المعنية إلى مضاعفة جهودها من أجل وقف الأعمال القتالية والوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار، مع تشكيل لجنة عسكرية مشتركة (5+5) بمشاركة طرفي الصراع الرئيسيين من أجل تثبيت وقف إطلاق النار.

2- تدابير بناء الثقة: حيث طالب البيان بضرورة اتخاذ تدابير لبناء الثقة بين طرفي الصراع، مثل تبادل الأسرى والرفات. وفيما يتعلق بالدول المنخرطة في الصراع، فإن البيان قد طالب بضرورة فك الارتباط بين بعض الدول والجماعات الإرهابية المدرجة على قائمة الأمم المتحدة، في إشارة إلى تركيا، حيث تم التأكيد على ضرورة تعزيز التعاون لمواجهة تهديد المقاتلين الإرهابيين الأجانب، وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 2322.

3- حظر توريد الأسلحة: أعلنت الدول المشاركة في مؤتمر برلين التزامها بالاحترام والتنفيذ الكامل لحظر الأسلحة المفروض على ليبيا بموجب قرار مجلس الأمن الدولي في هذا الشأن، مع تعزيز آليات المراقبة الحالية من جانب الأمم المتحدة في حدود القدرات المتاحة، بما في ذلك المراقبة البحرية والبرية والجوية، مع توفير موارد إضافية على غرار صور الأقمار الصناعية، إلى جانب تبادل المعلومات الاستخباراتية من أجل وقف توريد الأسلحة لطرفي الصراع في ليبيا.

4-  دفع العملية السياسية: حيث دعمت الدول المشاركة الاتفاق السياسي الليبي الموقّع في الصخيرات أواخر عام 2015 كإطار عمليٍّ للحل السياسي الليبي، مع الدعوة لإنشاء مجلس رئاسي فعّال وتشكيل حكومة ليبية واحدة وموحدة وشاملة عبر موافقة مجلس النواب الليبي (شرق ليبيا)، مع ضرورة استئناف العملية السياسية الشاملة تحت رعاية أممية بما يمهد لإنهاء الفترة الانتقالية من خلال انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة.

5- إصلاح قطاع الأمن: تم التأكيد على ضرورة استعادة الدولة الليبية للاحتكار المشروع للقوة عبر إنشاء قوات أمن وشرطة وقوات عسكرية ليبية موحدة تحت مظلة السلطة المركزية بناء على محادثات القاهرة المتعلقة بتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية.

6- الإصلاحات الاقتصادية: لم يغفل المؤتمر الإشارة إلى ضرورة استعادة المؤسسات الاقتصادية الليبية، خاصةً بنك ليبيا المركزي (CBL)، وهيئة الاستثمار الليبية (LIA)، والمؤسسة الوطنية للنفط (NOC)، وجعلها مؤسسات متوافقة مع المعايير الدولية، مع تعزيز قدرة المؤسسات الرقابية، لا سيما الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ومكتب المدعي العام. وقد تم التركيز على ضرورة استقلالية المؤسسة الوطنية للنفط، مع حثّ جميع الأطراف على مواصلة ضمان أمن المنشآت النفطية، والامتناع عن أي أعمال عدائية ضدها.

ثبات الوضع القائم:

يُمكن القول إن مؤتمر برلين لم يأتِ بأي جديدٍ يُذكر، ولم يسعَ لحل القضايا الخلافية، واكتفى بخطوط عريضة كان قد طرحها المبعوث الأممي لدى ليبيا "غسان سلامة" على مدار العام الماضي. ويمكن القول إن مؤتمر برلين قد فشل في تحقيق تقدم ملموس، وذلك لعدة أسباب:

1- إغفال الواقع الليبي: حيث إن مؤتمر برلين أغفل وجود واقع سياسي وعسكري جديد مع نجاح الجيش الوطني الليبي في تحقيق تقدمات ميدانية مهمة منذ أبريل الماضي، مع تحرير مدينة سرت الاستراتيجية، والتقدم شرق مصراتة، علاوةً على الاقتراب بشكل كبير من قلب العاصمة طرابلس، وهو ما يجعل كفّة الجيش الوطني هي الأكثر ترجيحًا، خاصةً في ظل وجود دعم قوي من جانب مجلس النواب الليبي الموجود شرق البلاد.

كذلك فإن عدم دعوة مجلس النواب هو أحد المآخذ على مؤتمر برلين، خاصةً وأن البرلمان هو الجهة الوحيدة المنتخبة التي تحظى بتوافق أغلب المواطنين الليبيين، جنبًا إلى جنب مع تجاهل المؤتمر لمحاولة تقريب وجهات النظر بين طرفي الصراع الرئيسيين (الجيش الوطني الليبي، وحكومة الوفاق)، حيث إنهما لم يجلسا معًا، ولم يحضرا حتى الجلسة العامة للمؤتمر، واكتفى الطرفان بعقد مباحثات ثنائية على هامش المؤتمر، وبالتالي فإن مؤتمر برلين بدا وكأنه صورة واقعية وتكريس للخلاف السياسي الليبي المحتدم وكذلك للاصطفافات الإقليمية والدولية إلى جانب أحد طرفي الصراع.

2- عدم تحجيم الدور التركي: تَصَاعُدُ الانخراط التركي في الصراع الليبي على مدار الأسابيع القليلة الماضية مَثَّلَ أحدَ أسباب تأجيج الصراع وتفاقمه، خاصةً مع استمرار أنقرة في إرسال المقاتلين الإرهابيين الموالين لها، جنبًا إلى جنب مع الخرق التركي المعلن لحظر توريد الأسلحة عبر تدفق الأسلحة إلى الميليشيات الموالية لحكومة الوفاق، حتى إن أنقرة قامت بتركيب منظومة دفاع جوي في مطار معيتيقة بطرابلس، بالتزامن مع انعقاد المؤتمر. وبالرغم من انتقاد بعض الدول المشارِكة في المؤتمر للدور التركي بشكل مباشر وغير مباشر، إلا أنّ ذلك لم يتمخض عنه موقف دولي واضح وحازم في مواجهة ذلك.

وفي ضوء هذا، فقد كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان في 18 يناير الجاري عن ارتفاع أعداد المرتزقة الموالين لتركيا الذين يتم نقلهم إلى ليبيا إلى نحو 3660 مقاتلًا، عبر إغراءات مادية كبيرة، وهو ما يعكس الإصرار التركي على خلق موطئ قدمٍ لها في ليبيا، إذ تستثمر أنقرة ذلك من أجل الحفاظ على مصالحها في شرق المتوسط عقب توقيع الاتفاقية غير المشروعة مع "الوفاق" في أواخر نوفمبر الماضي، وهو ما قوبل بانتقادات دولية وإقليمية شديدة آنذاك، ومع ذلك لم يُركز مؤتمر برلين على تلك المسألة رغم أهميتها ورغم ارتباطها المباشر بمصالح بعض الدول الأوروبية وبعض دول الجوار الليبي.

3- تجاهل دعوة بعض الدول: تجاهل مؤتمر برلين دعوة بعض الدول (مثل تونس) قبل أن يتم توجيه دعوة متأخرة لها قامت برفضها لاحقًا، وهي دولة جوار مباشر لليبيا، خاصةً في ظل ما توارد من أنباء عن محاولات تركية حثيثة لاصطفاف تونس إلى جانبها، وإعلان الأخيرة بشكلٍ رسمي رفضها أي تدخل خارجي في ليبيا.

كذلك فإن عدم دعوة المغرب أثار استياء النظام المغربي، خاصةً وأن الأخير كان قد لعب دورًا مهمًّا عبر رعاية توقيع اتفاق الصخيرات في أواخر عام 2015، وهو الاتفاق الذي ساهم برغم بعض سلبياته في تعزيز الحل السياسي والسلمي قبل أن تتفاقم الأوضاع من جديد في البلاد.

4- تغيُّر المزاج العام في الداخل الليبي: حيث إن استمرار توظيف الميليشيات في الصراع قد عزّز من الغضب الشعبي في ليبيا، وهو ما تجلّى بشكل واضح مع إعلان عدد كبير من قبائل شرق ليبيا إغلاق الموانئ النفطية تزامنًا مع التحضير لانعقاد مؤتمر برلين، بداعي قيام حكومة الوفاق باستغلال عوائد النفط في "دفع أجور المقاتلين الأجانب"، ويعكس ذلك الموقف تصاعد الرفض الشعبي لأي دور ميليشياوي في ليبيا.

كذلك فإن هناك إدراكًا شعبيًّا متزايدًا بعدم مشروعية حكومة الوفاق التي لا تحظى بموافقة البرلمان الليبي المنتخب، وقد تعزّز ذلك الشعور عقب توقيع مذكرتَيِ التفاهم الأمنية والبحرية مع أنقرة في أواخر نوفمبر الماضي، حيث رفض عدد كبير من القبائل الليبية تلك المذكرتين، كما أعلنوا خروجهم ضد ما أسموه "الاحتلال التركي" مع تقديم الدعم المطلق للجيش الوطني الليبي.

هامش محدود للحل السياسي:

لا يمكن التعويل علي أيّ مسار سياسي في حلحلة الأزمة الليبية دون وضع أطر ملزِمة يمكن من خلالها تحييد الأدوار المؤجّجة للصراع؛ حيث إنّ دعوة تركيا لمؤتمر برلين قد حمل ضمنيًّا اعترافًا بالدور التركي المشبوه، وشرعنة لانخراطها في الصراع. كذلك فإن تجاهل تحقيق أيّ توافق -ولو كان نسبيًّا- بين طرفي الصراع الرئيسيَّيْن (حكومة الوفاق، والجيش الوطني) في ظل عدم حضور الطرف الليبي الثالث المهم، وهو مجلس النواب الشرعي؛ قد حدّ بشكل كبير من قدرة مؤتمر برلين على تحقيق تقدم ملموس في اتجاه حلحلة الأزمة الليبية.

ومن جانب آخر، فإن المُضيّ قدمًا نحو تثبيت وقف إطلاق النار، دون وجود رؤية دولية واضحة لتسليم أسلحة الميليشيات في العاصمة طرابلس وطرد المقاتلين الأجانب الموالين لتركيا، سوف يكون غير فعّال، خاصةً وأن الميليشيات تقوم بخروقات مستمرة لوقف إطلاق النار، كما أن تلك الميليشيات خارج قدرة حكومة الوفاق على ضبطها والسيطرة عليها بشكلٍ تام، وأبرز مثال على ذلك هو قيام بعض تلك الميليشيات بمحاصرة مقر حكومة الوفاق في مطلع نوفمبر الماضي باستخدام الأسلحة الثقيلة، وهو ما يجعل أي رهان على حكومة الوفاق بوضعها الحالي، وفي ظل ضعفها الشديد في مواجهة سطوة الميليشيات، لن يؤدي إلى اختراق حقيقي في الموقف الأمني المتأزم.

وفي إطار تلك المعطيات القائمة، فقد يكون الجيش الوطني مضطرًا لاستكمال معركة طوفان الكرامة، التي كان قد أطلقها في أبريل الماضي، في ظل غضّ الطرف دوليًّا عن عسكرة الصراع من جانب تركيا، ومحاولة الأخيرة "سورنة" ليبيا عبر إعادة إنتاج الواقع السوري المتدهور في طرابلس، بما يُعزز من إمكانية اتساع دائرة الحرب بالوكالة في ليبيا في المدى المنظور في ظل عدم التفكيك الجدّي لمحفزات الصراع الليبي.