أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

أزمة الديون:

هل ينقذ اتفاق اللحظة الأخيرة بين الجمهوريين والديمقراطيين الاقتصاد الأمريكي؟

23 مايو، 2023


حذرت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، منذ أوائل مايو 2023، من احتمالية نفاد السيولة المتوفرة لدى الحكومة الفدرالية الأمريكية بحلول الأول من يونيو المقبل، إذا فشل الكونغرس في التوصل إلى اتفاق بشأن رفع السقف القانوني للاقتراض في الولايات المتحدة لتجنب التخلف عن السداد، الأمر الذي جعل يلين تحث أعضاء الكونغرس على ضرورة اتخاذ إجراء حيال ذلك "في أقرب وقت ممكن" لرفع سقف الدين المحدد بـ31,4 تريليون دولار.

استمرار غياب التوافق:

أخفقت الإدارة الأمريكية، حتى الآن، في التوصل لحل لأزمة رفع سقف الدين، وهو ما يتضح في التالي: 

1- إخفاق بايدن في حل الأزمة: دعا الرئيس الأمريكي، جو بايدن، القادة الأربعة في الكونغرس الأمريكي لاجتماع يوم 9 مايو لمناقشة تلك الأزمة، والتوصل إلى اتفاق سريع حولها، ومن ثم تواصل بايدن مع رئيس مجلس النواب، كيفن مكارثي، والنائب، حكيم جيفريز، من نيويورك، زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب، إلى جانب السيناتور الديمقراطي، تشاك شومر، زعيم الأغلبية الديمقراطية في الشيوخ، والسيناتور ميتش ماكونيل، زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ.

وعلى الرغم من وصف بايدن اجتماع 9 مايو بأنه كان "مثمراً"، فإن كل المؤشرات أكدت فشله؛ حيث أصر الجمهوريون على تخفيضات كبيرة في الإنفاق، بينما دعم الديمقراطيون زيادة غير مشروطة لسداد الديون المترتبة على الإنفاق، وتخفيض الضرائب التي أقرها الكونغرس.

وكان الجمهوريون قد أقروا في مجلس النواب، في إبريل الماضي، تشريعاً من شأنه أن يسمح للحكومة الفدرالية باقتراض 1,5 تريليون دولار أخرى، أو رفع سقف الديون حتى 31 مارس 2024، أيهما يمكن الوصول إليه أولاً، في مقابل تخفيض الإنفاق التقديري للبرامج غير الدفاعية، كما سيحد التشريع من نمو النفقات المستقبلية إلى 1% سنوياً خلال العقد المقبل. ورفض مجلس الشيوخ، المهيمن عليه من الديمقراطيين، تمرير مشروع القانون.

2- العودة من اليابان إلى واشنطن: كان من المخطط للرئيس الأمريكي أن يقوم بجولة خارجية تتضمن اليابان وبابوا غينيا الجديدة وأستراليا، في مايو 2023، غير أنه قرر قطع جولته بعد زيارة اليابان، والتي عقد بها محادثات مع قادة العالم على هامش قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، وذلك للعودة إلى محادثات سقف الديون، وهي إشارة خطرة تعكس جدية الخلافات بين الجمهوريين والديمقراطيين.

3- احتدام الخلاف بين الجانبين: أعلن الجمهوريون، في 19 مايو 2023، أن "البيت الأبيض غير معقول وأن المحادثات توقفت"، بينما قال البيت الأبيض إنه "لا تزال هناك خلافات جدية مع الجمهوريين، وأن المحادثات ما زالت صعبة". 

ويلاحظ أن عدم التوصل إلى اتفاق، حتى الآن، يعكس محاولة كل طرف توظيف الأزمة في السباق الانتخابي الرئاسي المقرر عقده في 2024. وفي هذا الإطار، دخل الرئيس الأمريكي السابق والمرشح عن الحزب الجمهوري، دونالد ترامب، على الخط، منتقداً الإدارة الديمقراطية على أساس أنها تنفق "مثل البحارة المخمورين"، مطالباً الجمهوريين بضرورة انتزاع تنازلات من الرئيس بايدن لتقليل الإنفاق، أو دفع الولايات المتحدة إلى أول تخلف عن السداد على الإطلاق. 

وفي المقابل، يرغب الرئيس بايدن في تجنب أي إجراءات تقشفية، حتى لا تتراجع شعبيته في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وحذرت جانيت يلين أثناء مشاركتها باجتماع المسؤولين الماليين لمجموعة السبع في اليابان، من أن التخلف عن السداد قد يسبب "كارثة اقتصادية ومالية".

مؤشرات مقلقة:

يلاحظ أن إخفاق الاتفاق على رفع سقف الدين سوف يرتب تداعيات اقتصادية غير هينة، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي: 

1- خسائر اقتصادية هائلة: توقعت وكالة "موديز" أنه في حالة إخفاق الجمهوريين والديمقراطيين في التوصل لاتفاق حول سقف الدين، فإن الحكومة الأمريكية سوف تتخلف عن سداد ديونها، ومن ثم تنخفض أسعار الأسهم بمقدار الخُمس تقريباً، فضلاً عن انكماش الاقتصاد بأكثر من 4,6%، مما يؤدي إلى فقدان أكثر من 7,8 مليون وظيفة، ورفع معدل البطالة لنحو 8%، مما يؤدي إلى القضاء على 10 تريليونات دولار من ثروات الأسر الأمريكية. 

كما ستؤدي هذه الأزمة، وفقاً للوكالة، إلى رفع معدلات الرهن العقاري ومعدلات اقتراض المستهلكين والشركات الأخرى، مع تقديرات بتراجع آفاق النمو الاقتصادي على المدى الطويل. وعلى صعيد موازٍ، قدّر الاقتصاديون في بنك "غولدمان ساكس" أن إخفاق التوصل إلى اتفاق بشأن تحديد سقف الدين من شأنه أن يوقف حوالي عُشر النشاط الاقتصادي الأمريكي.

2- تخفيض التصنيف الائتماني: حذرت وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني من أنها قد تخفض التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة، بينما قالت "ستاندرد آند بورز" إن التخلف عن السداد من شأنه أن يؤدي إلى اعتبار الحكومة الأمريكية في حالة "تقصير انتقائي". وترى "أس آند بي غلوبال" أن التوصل إلى حل وسط تفاوضي في اللحظة الأخيرة أمر مرجح، ومع ذلك، ترى أن مخاطر التخلف عن السداد الفني قد زادت.

ومن جانبه، توقع صندوق النقد الدولي، في 11 مايو 2023، أن التخلف عن سداد ديون الولايات المتحدة سيكون له تداعيات خطرة للغاية على الاقتصاد الأمريكي والعالمي أيضاً، بما في ذلك ارتفاع تكاليف الاقتراض المحتملة، كما أنه قد يهدد القطاع المصرفي الأمريكي. وبوجه عام، يرى المراقبون أن الخفض المحتمل في التصنيف الائتماني سيؤدي إلى زيادة تكاليف الاقتراض، وتناقص إضافي في ثقة المستثمرين بالاقتصاد الأمريكي.

3- تراجع مكانة الدولار: تراجعت قيمة الدولار الأمريكي، في 22 مايو 2023، مقابل الين الياباني واليورو في ضوء استمرار فشل سلسلة الاجتماعات التي تُجرى بين البيت الأبيض وزعماء الحزبين للتوصل إلى اتفاق بشأن رفع سقف الدين الأمريكي، والمخاوف من تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها. وتُرجح كل المؤشرات أن استمرار حالة اللايقين بشأن الاقتصاد الأمريكي، ستدفع المستثمرين إلى بيع سندات الخزانة الأمريكية، ومن ثم إضعاف الدولار الأمريكي.

خيارات بايدن الأحادية:

يمكن للإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس الأمريكي ووزارة الخزانة الأمريكية اللجوء إلى حلول أحادية في حال عدم التوصل إلى اتفاق لرفع سقف الاستدانة، والتي تتمثل في التالي: 

1- الاستناد إلى الدستور الأمريكي: تتمثل أحد الحلول المعروضة لتجنيب واشنطن التخلف عن سداد دينها، في اللجوء إلى المادة 14 من الدستور الأمريكي، والتي تنص على أن "صلاحية الدين العام للولايات المتحدة المسموح به بموجب القانون، يجب ألا تكون موضع شك"، ومعنى ذلك أن النفقات التي أقرت بالتصويت يجب أن تحترم ومن بينها معاشات التقاعد. 

وطالب 66 عضواً من الكتلة التقدمية الديمقراطية في مجلس النواب بايدن باختيار هذا الحل، وألمح بايدن في أحد تصريحاته أنه قد يلجأ إلى هذا الخيار في حال إذا لم يقر الكونغرس رفع سقف الدين انطلاقاً من واجبه الدستوري. 

وفي هذه الحالة، قد يطلب بايدن من جانيت يلين الاستمرار ببساطة في إصدار هذا الدين إذا لزم الأمر لدفع فواتير الأمة، أي أن يتصرف وكأن سقف الدين غير موجود أساساً. ومع ذلك، يستبعد المراقبون أن يتبنى بايدن هذا الخيار، ولاسيما في ظل تصريحات وزيرة الخزانة الأمريكية التي شككت في فائدة اللجوء إلى المادة 14، إذ رأت أنها موضع جدل من الناحية القانونية.

2- صك عملة التريليون دولار: يمكن أن تطرح وزارة الخزانة فكرة صك عملة معدنية بقيمة تريليون دولار، ثم تودع هذه العملة لدى مجلس الاحتياطي الفدرالي، مما يضيف تريليون دولار إلى حساب الخزانة في الاحتياطي الفدرالي، ويمكن للحكومة بعد ذلك الاعتماد على هذا الحساب لدفع فواتيرها دون الاضطرار إلى إصدار ديون جديدة. 

وإذا وافق الاحتياطي الفدرالي على إيداع هذه العملة، فهذا يعني أنه يمنح الحكومة قرضاً دون فائدة. ورفضت جانيت يلين هذا الحل، إذ رأته عملية تحايل غير واقعية. ومن ناحية أخرى، سوف يضر هذا الإجراء بأسواق السندات والأذون الأمريكية، كما أنه سيؤدي إلى فقدان الثقة لدى المستثمرين في السياسات الاقتصادية الأمريكية.

السيناريوهات المحتملة:

يتفق الخبراء الاقتصاديون على أن الولايات المتحدة لن تتخلف عن سداد الديون، وإن تعثرت في دفع رواتب الموظفين الفدراليين، أو قدامى المحاربين، أو المعاشات التقاعدية، وغيرها من الوكالات ما يعرضها للإغلاق. وفي هذا السياق، وضع بعض المراقبين ثلاثة سيناريوهات متوقعة للخروج من هذه الأزمة: 

1- اتفاق اللحظة الأخيرة: يشبه هذا السيناريو ما حدث في أزمة رفع سقف الدين الفدرالي في عام 2011، إذ توصل الزعماء الديمقراطيون والجمهوريون إلى اتفاق مع الرئيس الأسبق، باراك أوباما، في اللحظة الأخيرة، وتحديداً قبل يومين من انتهاء المهلة التي حددتها وزارة الخزانة الأمريكية. 

وعلى الرغم من أن هذا السيناريو يُعد بمثابة انفراجة في الأزمة، فإنه سيؤدي إلى اضطرابات في الأسواق المالية، وربما تتراجع الأسهم وتستغرق شهوراً في التعافي، بسبب مناخ عدم اليقين الذي يعتري حالة الاقتصاد الأمريكي، كما أن هذا السيناريو سيؤدي إلى تخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، كما حدث في عام 2011، إذ خفضت شركة "ستاندرد آند بورز" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من AAA إلى AA +، وكانت تلك الخطوة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة. ولكن على الجانب الآخر، فإنه من غير المحتمل أن يفقد العمال وظائفهم، أو تعجز الدولة عن دفع رواتب موظفيها.

2- اتفاق ما بعد الموعد النهائي: قد تمتد المفاوضات إلى ما بعد 1 يونيو، وهو ما يعزز احتمالية تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها، وتعثر الحكومة عن دفع رواتب الموظفين، وتقليل إنفاقها على المتنزهات الوطنية، وغيرها من الوكالات إلى حين التوصل إلى حل. 

وقد تقوم إدارة بايدن ببعض الإجراءات الاستثنائية المؤقتة، مثل تعليق المدفوعات لبعض برامج ادخار الموظفين الحكوميين، وتقليل الاستثمار في بعض الصناديق الحكومية، وتأخير مزادات الأوراق المالية، وصدرت تصريحات رسمية تؤكد أن واشنطن سيكون لديها رصيد نقدي يبلغ نحو 300 مليار دولار مع بلوغ شهر يونيو المقبل، بعضها من عوائد الضرائب المتأخرة، وقد يكون لدى وزارة الخزانة حوالي 60 مليار دولار من النقد المتبقي حتى أواخر يوليو، مما سيسمح للحكومة بمواصلة سداد مدفوعاتها.

وتشير التوقعات إلى أن الناتج المحلي الإجمالي سينكمش بمعدل سنوي 2% في الربع الثالث، ويتقلص أكثر في الربع الرابع، وسوف تفقد الولايات المتحدة نحو 250 ألف وظيفة في النصف الثاني من العام الجاري.

3- عدم التوصل إلى اتفاق: يعكس هذا السيناريو سيطرة الاستقطاب الحزبي على المفاوضات التي تفشل في التوصل إلى حل بشأن تحديد سقف الدين الفدرالي، ويعني ذلك دخول الولايات المتحدة في نفق مظلم، إذ قد يفقد 6 ملايين شخص وظائفهم، وسينكمش الناتج المحلي الأمريكي نحو 4%، وسيرتفع معدل البطالة إلى أكثر من 7%، وستتعرض العديد من الشركات التي تعتمد على التمويل الحكومي إلى الإفلاس، وسيخرج العديد من المستثمرين الأجانب من الأسواق الأمريكية، وبالتالي، ستشهد الولايات المتحدة حالة ركود مماثلة لأزمة "كورونا"، مع عجز محتمل في تقديم حوافز اقتصادية كافية للخروج من الأزمة. 

وفي الختام، بات من الواضح أن الجمهوريين يسعون لاستغلال حاجة إدارة بايدن الديمقراطية لرفع سقف الدين، لإجبارها على تبني إجراءات تقشفية تؤثر في شعبيتها، خاصة قبل الانتخابات الرئاسية، وهو ما يرفضه بايدن. ويلاحظ أن هذا الخلاف الحزبي سوف ينعكس سلباً على الاقتصاد الأمريكي، خاصة وأنه يقوض الثقة في الدولار الأمريكي، وذلك في الوقت الذي تسعى فيه الصين وروسيا إلى البحث عن عملة بديلة عن الدولار لإضعاف الهيمنة الأمريكية على النظام المالي العالمي.