يتيح انعقاد مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ "كوب 28" في دولة الإمارات العربية المتحدة، وتحديداً في مدينة إكسبو دبي خلال الفترة من 30 نوفمبر إلى 12 ديسمبر 2023، فرصة سانحة للعالم لتغيير مسار العمل المناخي الدولي، في ظل المساعي الحثيثة لمنع ارتفاع حرارة الأرض بأكثر من 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية. وتتبنى دولة الإمارات، باعتبارها رئيساً للمؤتمر القادم، أجندة متعددة المستويات لمكافحة التغير المناخي، لا تقتصر على الاهتمام بقضية تيسير التمويلات للاقتصادات النامية فقط، وإنما تشمل أيضاً نشر ما يلزم من تقنيات لخفض الانبعاثات الكربونية الصادرة عن الأنشطة الكثيفة الاستهلاك للطاقة، وفي مقدمتها احتجاز وتخزين واستخدام الكربون.
احتجاز الكربون:
تتجه الأنظار حالياً أكثر من أي وقت مضى إلى أهمية تقنية احتجاز "أو التقاط" وتخزين الكربون واستخدامه؛ بهدف تقليص البصمة الكربونية لعمليات إنتاج الكهرباء والتكرير والبتروكيماويات، فضلاً عن الأنشطة الصناعية كثيفة الطاقة مثل الإسمنت والألومنيوم وغيرها. إذ إن نشر تقنية احتجاز الكربون ليس مهمة سهلة بطبيعة الحال؛ في ظل التحديات الفنية والاقتصادية لاستخدامها، فضلاً عن التعقيدات السياسية والاقتصادية على الساحة الدولية في الوقت الحاضر.
ومع ذلك، ثمة كثير من العمل الذي يمكن للعالم ولدول الشرق الأوسط على وجه خاص، القيام به لنشر تقنيات خفض الكربون، ودعم جهود مكافحة التغير المناخي. وبدورها، فإن الإمارات كانت من أوائل دول المنطقة التي دعمت استخدام احتجاز الكربون لخفض انبعاثات الكربون من الصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة عن طريق مشروع "الريادة" الذي يلتقط نحو 800 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون من عمليات شركة "حديد الإمارات أركان".
وتسعى دولة الإمارات لزيادة قدرة احتجاز الكربون إلى نحو 5 ملايين طن بحلول عام 2030، أي أكثر من 5 أضعاف الطاقة القائمة حالياً. كما أن شركة بترول أبوظبي الوطنية "أدنوك" بصدد تنفيذ عدد من المشاريع الأخرى لاحتجاز الكربون في السنوات القليلة المقبلة، إلى جانب مشروع "الريادة"، والتي تأتي ضمن خطة الشركة لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050. وخصصت "أدنوك" مبالغ مالية تُقدر بنحو 15 مليار دولار- قابلة للزيادة - للحد من الانبعاثات من عملياتها مستقبلاً.
وتستعد "أدنوك" لتنفيذ مشروع لاحتجاز أكثر من 18 ألف طن سنوياً من ثاني أكسيد الكربون من عمليات شركة "فرتيجلوب" بالسوق الإماراتي. وتتعاون "أدنوك" أيضاً مع مؤسسة الفجيرة للموارد الطبيعية، وشركة أبوظبي لطاقة المستقبل "مصدر"، لإطلاق مشروع تجريبي لتعدين ثاني أكسيد الكربون وتحويله إلى صخور بشكل دائم ضمن التكوينات الصخرية الموجودة في الفجيرة. ولا شك أن هذه المشاريع الحالية أو المستقبلية ستدعم جهود الإمارات لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050.
الجدوى الاقتصادية:
دوماً ما يهتم المحللون والخبراء بمسألة الجدوى الفنية والاقتصادية لتقنيات المناخ الناشئة، ويعطونها أولوية. وبالنسبة لدولة الإمارات، نجد أن شركة "أدنوك" حقنت الكربون المحتجز ضمن مشروع "الريادة" في بعض آبار النفط لتحسين قدرتها الإنتاجية، وهذا ما حسّن من معدل استرداد التكاليف الرأسمالية للمشروع. وتبدو تقنية احتجاز الكربون ذات جدوى تجارية مرتفعة في الإمارات؛ بالنظر أيضاً إلى انخفاض تكاليف نقل وتخزين الكربون.
على جانب آخر، تُولي دولة الإمارات اهتماماً خاصاً بتوسيع الشراكات والتعاون مع الشركات الدولية للتبادل التكنولوجي والمعرفي بشأن تقنيات المناخ المختلفة وخفض الكربون. وفي هذا الإطار، وقّعت شركة "أدنوك" وشركة "توتال إنيرجيز" الفرنسية، في نوفمبر 2020، اتفاقاً للتعاون الاستراتيجي في تكنولوجيا التقاط واستخدام وتخزين الكربون والمشاريع الهادفة لخفض الانبعاثات.
ويمكن أن تؤسس المشاريع الإماراتية في مجال احتجاز الكربون نموذجاً يُحتذى به لكل دول المنطقة؛ نظراً لما تحققه من مكاسب مادية واقتصادية تتمثل في تعزيز القيمة المضافة بقطاع الطاقة، وخلق فرص للعمل في أنشطة جديدة مثل الأمونيا والهيدروجين منخفض الكربون.
ويرى تقييم لشركتي "AFRY" و"GaffneyCline" - في دراسة صادرة عنهما في يناير 2022 - أن الفرص المتاحة لدول مجلس التعاون الخليجي والمرتبطة بتصدير الهيدروجين واستخدام تقنيات احتجاز واستخدام الكربون ستتراوح بين 15 إلى 44 مليار دولار بحلول عام 2050، وذلك بالتوازي مع خلق فرص عمل تتراوح ما بين 87 ألف إلى 245 ألف وظيفة. ومن المتوقع أن تستحوذ الإمارات على الجزء الأكبر من تلك المكاسب، حيث تنخرط الشركات الإماراتية بكثافة في مشاريع مختلفة لزيادة إنتاج الهيدروجين الأزرق والأمونيا منخفضة الكربون في المستقبل.
وباستثناء حالات قليلة من بينها المشاريع في دول الخليج، ربما لن يكون نشر تقنيات احتجاز الكربون يسيراً في باقي مناطق العالم؛ بالنظر إلى انخفاض معدل استرداد التكاليف الرأسمالية لاستخدامها في بعض الصناعات، الأمر الذي قد يضطر الشركات والمستثمرين للإحجام والتراجع عن تنفيذها. وتبدو تكنولوجيا التقاط الكربون فعالة من حيث التكلفة فقط، إذا ما أُعيد استخدام الكربون مرة أخرى، أو بصياغة أخرى خلق سوق للطلب على الكربون المُحتجز.
وتبدو التكاليف الرأسمالية لاستخدام تقنيات احتجاز الكربون مرتفعة حالياً، وهي تتراوح، وفق تقديرات الوكالة الدولية للطاقة، من نطاق 15 دولاراً للطن من ثاني أكسيد الكربون بالنسبة لمعالجة الغاز الطبيعي، إلى 120 دولاراً في صناعة الإسمنت، وإذا ما أضفنا عمليات النقل والتخزين، يزيد إجمالي التكاليف بنسبة تتراوح بين 15 و20%.
ولا يمكن لمعظم الشركات تحمل الأعباء المالية الناجمة عن تقنية احتجاز الكربون، لذا تقدم بعض الحكومات الحوافز لفاعلين في السوق لتحفيز تبنيها. فعلى سبيل المثال، يوفر قانون الحد من التضخم الأمريكي لعام 2022 "Inflation Reduction Act" ائتماناً ضريبياً لتقنية احتجاز الكربون قدرها 85 دولاراً للطن، مما يجعل استخدام التقنية تجارياً في بعض المرافق والصناعات.
وعلاوة على التكاليف الرأسمالية الكبيرة لنقل الكربون، فإن تحديد أفضل المواقع لتخزين الكربون من النواحي التجارية والبيئية يتطلب قدراً هائلاً من البيانات والمعلومات الجيولوجية أمام المستثمرين، والتي لن تتوفر إلا بمساعدة الهيئات الجيولوجية في كل دولة. ويُعد توفير تلك البيانات خطوة أساسية لتدشين مشاريع احتجاز الكربون في مختلف الدول.
في المُجمل، ما زال الطريق طويلاً أمام دول العالم لنشر تقنية احتجاز الكربون في الصناعات المختلفة، ويتطلب ذلك تضافر الجهود الدولية لتعزيز التبادل المعرفي والتقني بين الشركات والحكومات، مع تقديم الحوافز للمشتغلين في الصناعات المختلفة. وهذا ما سيحقق وفورات في التكاليف، ويسمح بتطوير تقنية أكثر كفاءة اقتصادياً، وتقليل مخاطر استخدامها.
ويؤشر المستقبل إلى وجود اتجاه متزايد لاستخدام شركات الطاقة والمصنعين لتقنيات خفض الكربون، بالرغم من أن هذا لن يكون سهلاً وسيتطلب فترة زمنية طويلة، لكن مع اتخاذ مزيد من الخطوات نحو تعزيز التبادل المعرفي الدولي، ودعم الاستثمارات وخلق أسواق للطلب؛ ستتحقق عناصر نجاح نشر تقنيات خفض الكربون في العالم، ومنطقة الخليج، ودولة الإمارات على وجه خاص.