أخبار المركز
  • صدور العدد السادس من "التقرير الاستراتيجي" بعنوان "حالة الإقليم: التفاعلات الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط 2024"
  • محمد خلفان الصوافي يكتب: (منتدى الخليج وأوروبا.. دبلوماسية جماعية للتهدئة الإقليمية)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (تأملات حول فشل جهود السلام الفلسطينية الإسرائيلية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (المكاسب المُنتظرة: حدود فاعلية رسائل الضربات الإسرائيلية الإيرانية المتبادلة)
  • سعيد عكاشة يكتب: (مستقبل الحرب بين إسرائيل وإيران ومأزق "مصداقية الردع")

مخلفات الحرب:

كيف تعكس "تجارة الخردة" اقتصاديات الصراعات المسلحة العربية؟

27 مارس، 2019


تشير تجارة الخردة- الناتجة عن حطام السيارات وقطع الطائرات المفخخة والدبابات المتهالكة والقذائف الفارغة والأسلحة المخربة والكابلات الكهربائية المدمرة والأدوات النحاسية التالفة والأواني المنزلية القديمة والبراميل المعدنية والأنابيب النفطية- في بؤر الصراعات المسلحة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، إلى تبلور اقتصاديات متكاملة، تمر بمراحل مختلفة من نقل مخلفات الحرب في المناطق المدمرة إلى مراكز التجميع ثم إلى مصانع التذويب. 

ويقوم بالسيطرة على تلك التجارة وتوفير خطوط الإمداد والتموين لها ضباط في الجيوش النظامية وجماعات في الميلشيات النافذة. وقد عكست هذه التجارة تصاعد التنافس بين رجال الأعمال الداعمين للنظم القائمة على إعادة تصنيع الخردة فيما يطلق عليهم "أمراء الحرب"، وانتعاش تجارة التهريب عبر الحدود الرخوة، وتعزيز قوة وسطوة الميلشيات المسلحة، ومواجهة تدهور الأوضاع الاقتصادية الداخلية، وإعادة إعمار تدريجية للمدن المنهارة.

وقد أفرزت الموجة الراهنة من الصراعات المسلحة العربية تشكل اقتصاديات ظل، تعمل في تجارة "مخلفات الحرب"، لا سيما بعد انهيار البنى التحتية، وبصفة خاصة قطاع الكهرباء، فضلاً عن وجود بقايا للأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، وهو ما يتزامن مع ضعف أو غياب الرقابة الأمنية وقوة الفصائل المسلحة، على نحو ما توضحه النقاط التالية:

أمراء الحرب:

1- تصاعد التنافس بين رجال الأعمال الموالين: مثلما برز بين المقربين من النظام السوري، الذين تسابقوا على عملية شراء وإعادة تصنيع الحديد الخردة، الذي يتم تجميعه من المناطق التي نجح نظام الأسد في استعادة السيطرة عليها من فصائل المعارضة المسلحة وتنظيم "داعش" و"جبهة النصرة"، بعد معارك عنيفة، على نحو قاد إلى التدمير الكامل أو شبه الكامل للكثير من تلك المناطق، مثلما حدث في أحياء حلب وحمص ومخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في جنوب دمشق، حيث يشرف كل ضابط على قطاعات بعينها وينفذ عناصر الجيش أوامر الضابط المسئول عن القطاع.

ويمثل ذلك التوجه امتدادًا لما يعرف في وسائل الإعلام العربية بـ"التعفيش"، أى سرقة الأثاث، التي ظهرت خلال سنوات الحرب الثماني، لا سيما بعد قيام عناصر من الجيش النظامي السوري والميلشيات التابعة له بعمليات نهب منظمة لأثاث المنازل التي يتم السيطرة عليها من جديد في عدد من القرى والبلدات، فضلاً عن تجميع أبواب ونوافذ الألومنيوم وأسلاك النحاس وكذلك قضبان الحديد التي يتم استخراجها من الأسقف المدمرة والأبنية المنهارة، وتحميلها على شاحنات بعد وزنها وترحيلها من المنطقة، لصهر الحديد وتصنيعه لإعادة استخدامه.

وتشير الكثير من المصادر الإعلامية إلى أن عمليات بيع الحديد الخردة تتم لصالح شركة "حمشو الدولية" بشكل حصري، وترافق عملية نقل الحديد سيارات تأمين من قوات الجيش وأجهزة الأمن، إلى جانب مشرفين على عمليات الوزن والتحميل وإيصال تلك الشاحنات إلى معمل الحديد الخاص بتلك الشركة في منطقة عدرا الصناعية بريف دمشق الشمالي، لتتم إعادة التصنيع من جديد، على نحو يسهم في تحقيق أرباح طائلة للأفراد الداعمين للنظام. فقد ارتفع سعر طن الحديد الذي يستخدم في البناء، حسب بعض التقارير، من 45 ألف ليرة في عام 2010 إلى 340 ألف ليرة في عام 2019. 

ويمكن تفسير ارتفاع سعر الحديد في ضوء توقف العديد من مصانع الحديد في سوريا خلال سنوات الحرب الثماني، بعد تضررها بشكل كبير، وارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة، فضلاً عن العقوبات الاقتصادية التي تفرضها شركات غربية وعربية على الحكومة السورية. وفي هذا السياق، يبرز اسم محمد حمشو أمين سر غرفة تجارة دمشق وأمين سر اتحاد غرف التجارة السورية وعضو مجلس الشعب الذي تعرض لعقوبات أمريكية وأوروبية، والذي أصدر رئيس الوزراء السوري السابق وائل الحلقي، في ديسمبر 2015، قرارًا بإنشاء المجلس السوري للمعادن والصلب برئاسته.

مافيا التهريب:  

2- انتعاش تجارة التهريب عبر الحدود الرخوة: على نحو ما تعكسه، على سبيل المثال، بلدة عرسال البقاعية على الحدود اللبنانية- السورية، حيث ترتبط البلدة مع منطقة القلمون بريف دمشق بشبكة من الطرق الجبلية الوعرة، الأمر الذي سهل عمليات التجارة غير الشرعية لمختلف أنواع البضائع ومنها أصناف متعددة من المعادن كالنحاس والألومنيوم والحديد، إذ يتم جمعها من فرز النفايات أو من أنقاض البيوت المهدمة نتيجة الصراع السوري، وتنقل الخردة من الداخل السوري إلى المناطق الحدودية بين عرسال وسوريا، ويعاد شحنها تجاه بعض المرافئ اللبنانية، لإعادة تصنيعها.

كما ازدهرت تجارة تهريب الخردة، وخاصة خردة السيارات والغسالات وأجهزة المنازل التي تم الاستغناء عنها في ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي، حيث تشير عدة وسائل إعلامية إلى أن الشاحنات تنقل أطنانًا من الخردة إلى موانئ مدن الشمال، وتحديدًا ميناء مصراتة تمهيدًا لشحنها وبيعها في الخارج. وفي هذا السياق، عبر جهاز المخابرات الليبية التابع لحكومة الوفاق، في 27 إبريل 2017، عن استنكاره للصمت المطبق من السلطات إزاء ازدهار تهريب الخردة إلى خارج البلاد الذي اعتبره "تهديدًا للأمن القومي"، وأضاف: "إن البلاد تعاني من انهيار للاقتصاد والعملة وضياعها وفق مؤامرة تستهدف الليبيين وقوتهم بهدف تجويعهم في وقت تنهب فيه خيرات البلاد ويتم تهريبها للخارج".

دولة موازية: 

3- تعزيز قوة وسطوة الميلشيات المسلحة: وهو ما تعكسه حالة فصائل "الحشد الشعبي" في العراق التي تجني أموالاً طائلة من تجارة مخلفات الحرب في المناطق التي تم تحريرها من سيطرة تنظيم "داعش"، بحيث تستولى على معدات صالحة للتشغيل أو يمكن إصلاحها وبيعها في أسواق الخردة، مثل السيارات المحطمة والأسلحة المتهالكة وصهاريج المياه ومولدات الكهرباء وإطارات النوافذ، ويتم صهرها بعد ذلك للاستخدام في مواد البناء، ويذهب بعضه إلى إقليم كردستان العراق والمحافظات الجنوبية. 

بعبارة أخرى، تحولت أطنان المعادن الخردة (السكراب) في المناطق التي كانت تحت سيطرة "داعش" إلى مصدر ثروة لـ"الحشد الشعبي" عبر بيعها في المناطق الكردية مقابل ضعف السعر أو السماح لمجموعة من التجار بالقيام بذلك مقابل حصة من الأرباح للمرور عبر مناطق تسيطر عليها. كما تشرف ميلشيا الحرس الثوري الإيراني على عمليات نقل الحديد من العراق إلى إيران والإتجار فيها، حيث تدخل هذه الكميات من الخردة في صناعة قضبان الحديد التي تستخدم في البناء وصناعة السيارات والأسلحة، ومن ثم تعيد إيران بيعها إلى العراق بأسعار باهظة.

مضخات مالية:

4- مواجهة تدهور الأوضاع الاقتصادية الداخلية: اضطر بعض السكان في دول عديدة إلى العمل في جمع الخردة لظروف العوز الاقتصادي، بعد غياب الدخل لكثير منهم، وتسرب الطلاب من مراحل التعليم المختلفة. كما يتم التعامل مع الخردة القديمة من قبل عدد من المستهلكين في بؤر الصراعات العربية كوسيلة لمواجهة شح السيولة وغلاء الأسعار ومصاعب الحياة خاصة في ظل قلة فرص العمل وضعف توفير الخدمات من قبل إدارات المحافظات. هذا فضلاً عن تغطية النفقات الخاصة بحصول الفاعلين المسلحين ما دون الدولة على الأسلحة.

إعمار مناطقي:

5- إعادة إعمار المدن المنهارة: يسير اتجاه رئيسي في الأدبيات إلى أن مواد البناء تسهم من جانب بعض الحكومات في إعمار عدد من المناطق دون الانتظار لتسويات سياسية ممتدة بين أطراف متعددة في الصراع محليين وإقليميين. فالمسألة لا تتعلق بالسيطرة على الاقتصاد في مرحلة إعادة الإعمار في مناطق داخل سوريا والعراق، بقدر ما تشير أيضًا إلى إعادة بناء الأحياء السكنية لتوجيه رسالة إلى الداخل والخارج مفادها إعادة تدوير العجلة من جديد، على نحو ما تفعله حكومتا سوريا والعراق، سواء بعد تغير توازنات القوى لصالح الجيوش النظامية، أو دحر تنظيمات الإرهاب العابر للحدود مثل "داعش". في حين يرى اتجاه آخر في الأدبيات أن نقص مواد البناء، مثل الحديد، في مناطق عراقية على غرار الموصل، أدى بصورة كبيرة إلى توقف أنشطة إعادة البناء في تلك المدينة وغيرها من المدن السنية الأخرى، بشكل أثر على حالة الاستقرار فيها.

تجارة رائجة:

خلاصة القول، إن الصراعات أو ساحات الحرب التي شهدتها دول عربية عدة، على مدى السنوات الثماني الماضية، أفرزت جماعات مصالح أو بالأحرى "مافيا اقتصادية" متخصصة في تجارة الخردة، بل ظهرت تخصصات دقيقة، كالتي تتعامل مع الثلاجات أو مكيفات الهواء أو الأثاث بعد النهب المنظم لها أو معدات الشركات الأجنبية أو حواجز الطرقات، حيث تنشط هذه الجهات عبر المعابر التي تربط مناطق الصراع، وتحظى بدعم النظم القائمة. وقد تباع هذه الخردة لعدد من مصانع الحديد والصلب المحلية، أو يتم تهريبها لبعض دول الجوار مثل لبنان وإيران وغيرها، حيث تعتبر ثروة معدنية تستغلها مختلف الأطراف في بؤر الصراعات.