أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد، في 29 سبتمبر 2021، قراراً بتكليف نجلاء بودن حرم رمضان بتشكيل الحكومة التونسية الجديدة. وتبلغ نجلاء 63 عاماً، وهي أستاذة تعليم عالٍ في المدرسة الوطنية للمهندسين، متخصصة في علوم الجيولوجيا، وحالياً مكلفة بتنفيذ برامج البنك الدولي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي.
دلالات سياسية مهمة:
يكتسب قرار تكليف نجلاء بودن بتشكيل الحكومة الجديدة أهمية خاصة، نظراً لارتباطه بعدة أمور رئيسية، من أبرزها ما يلي:
1- الحكومة الثالثة: تعد الحكومة الجديدة التي ستقوم نجلاء بودن بتشكيلها، هي حكومة الرئيس سعيد الثالثة، منذ انتخابه في سبتمبر 2019. فقد قام بتكليف رئيسي وزراء لتشكيل حكومتين متعاقبتين. وكانت المرة الأولى عندما قام بتكليف إلياس الفخاخ بتشكيل حكومة وطنية في فبراير 2020، بعدما فشل الحبيب الجملي مرشح حركة النهضة، الذراع السياسية للإخوان المسلمين، في الحصول على ثقة البرلمان وتشكيل حكومة وطنية.
وكانت المرة الثانية حينما قدم الفخاخ استقالته في يوليو 2020 بعد مرور خمسة أشهر فقط على توليه رئاسة الحكومة؛ بسبب تورطه في قضايا فساد مالي وإداري، فاضطر الرئيس سعيد إلى تكليف وزير الداخلية هشام المشيشي بتشكيل حكومة تكنوقراط في سبتمبر الماضي. وعقب إقالة حكومة المشيشي، جاء قرار تكليف نجلاء بودن لتصبح المرشحة الثالثة التي يقوم الرئيس سعيد بتكليفها لتشكيل حكومة جديدة، وهو ما يؤكد قوة الدور الذي يلعبه رئيس الدولة في الحياة السياسية التونسية خلال العامين الأخيرين.
2- سابقة تاريخية: يتم تكليف سيدة بتولي منصب رئيس الوزراء وتشكيل حكومة لإدارة شؤون البلاد لأول مرة في التاريخ السياسي التونسي بصفة خاصة، وفي المنطقة العربية بصفة عامة. وفي ذلك إشارة من الرئيس سعيد إلى تعمده اختيار سيدة لتولي هذا المنصب تكريماً للمرأة التونسية كما جاء في خطاب تكليفه لها.
3- استيعاب الضغوط: يلاحظ أن تكليف بودن يأتي عقب مرور شهرين من إعلان الرئيس سعيد الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو الماضي وإقالته حكومة المشيشي، وبالتالي جاء قرار تكليف بودن استجابة للضغوط الداخلية والخارجية التي تزايدت خلال الفترة الأخيرة، خاصة بعدما قام الرئيس سعيد بتمديد العمل بالإجراءات الاستثنائية في 23 سبتمبر الجاري.
فقد تزايدت الاتهامات للرئيس سعيد، عقب التمديد الأخير، بالاستئثار بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، وتكريس نظام سياسي استبدادي. ورد سعيد على هذه الاتهامات عبر تأكيد عزمه تكليف أحد الشخصيات لتشكيل الحكومة الجديدة، وبالتالي فإن هذا التعيين من شأنه تخفيف حدة هذه الضغوط على المستويين الداخلي والخارجي بشأن هذه المسألة على وجه التحديد. وفي الوقت نفسه تفنيد الاتهامات الموجهة إليه بعدم امتلاكه رؤية سياسية واضحة المعالم لإخراج البلاد من أزمتها السياسية الحالية.
أسباب اختيار نجلاء بودن:
أثار القرار الرئاسي بتكليف نجلاء التساؤلات بشأن اختيارها تحديداً، وهو ما يمكن تفسيره من خلال الآتي:
1- شخصية تكنوقراط مستقلة: تركز اختيار الرئيس سعيد على نجلاء بودن لكونها من التكنوقراط، والتي تتمتع بخبرة إدارية واسعة، إذ تولت عدة مناصب في مؤسسات الدولة المختلفة، كما أن بودن ليس لها أي انتماء سياسي. ويسعى سعيد لتجنب تشكيل حكومة حزبية في الوقت الحالي، وذلك لضمان تكليف فريق حكومي يعمل على تحقيق المصالح العليا للبلاد بعيداً عن المصالح الحزبية الضيقة، وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة.
2- قناعات الرئيس: ألمح الرئيس سعيد في أكثر من مناسبة خلال الشهرين الماضيين إلى تفكيره في اختيار شخصية نسائية لتشكيل الحكومة الجديدة، واتضحت مؤشرات ذلك بشكل كبير خلال زيارته الأخيرة إلى محافظة سيدي بوزيد في منتصف شهر سبتمبر الجاري.
كما أن اختيار نجلاء يأتي رداً على الآراء الخاصة بقادة حركة النهضة وائتلاف الكرامة، المتحالف معها، والذين يرفضون فكرة تولي امرأة لمناصب قيادية في الدولة، لاسيما في منصب رئيس الوزراء، وقد يكون الهدف من ذلك الحصول على دعم القوى الدولية المنخرطة في الشأن التونسي والتأكيد على تمكين سعيد المرأة في بلاده.
3- حكومة تتسم بالنزاهة: يرغب الرئيس سعيد في تشكيل نجلاء لحكومة جديدة يتم اختيار أعضائها وفقاً لمعايير نظافة اليد والخبرة والكفاءة والتماهي مع أفكار الرئيس وتوجهاته لرسم ملامح المشهد السياسي للبلاد خلال المرحلة القادمة.
تحديات ضاغطة:
من المقرر أن تواجه رئيسة الحكومة الجديدة جملة من التحديات المتنوعة في المجالات كافة، ومن أبرزها ما يلي:
1- تراجع الأوضاع الاقتصادية: تطرح الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد نفسها على قائمة أولويات الحكومة الجديدة برئاسة نجلاء. ومن أبرز مؤشرات هذه الأزمة ارتفاع المديونية العامة خلال العام الجاري بحوالي 35 مليار دولار، تشكل حوالي 85% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 30 مليار دولار بنهاية 2020، وتزايد معدلات البطالة التي وصلت إلى حوالي 17.8% خلال الثلث الأول من العام الجاري، بعد أن كانت حوالي 17.4% خلال الربع الثالث من عام 2020.
كما انكمش الاقتصادي التونسي بنسبة 8.8% خلال عام 2020، هذا بالإضافة إلى أن بودن ستبقى مطالبة بتحسين موقف بلادها التفاوضي مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض جديدة لإنعاش الاقتصاد الوطني والتفاوض بشأن جدولة الديون الخارجية على البلاد، وبالتالي فإن تراجع الأوضاع الاقتصادية تفرض على نجلاء وضع سياسات اقتصادية تقشفية لحل هذه المشكلات وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية للبلاد خلال الفترة القادمة.
2- مواجهة أزمة كورونا: سيتعين على حكومة نجلاء مواجهة أزمة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، وذلك لضبط الزيادة المستمرة في أعداد المصابين على الرغم مما شهدته البلاد خلال الفترة الأخيرة من تطبيق صارم للإجراءات الوقائية والاحترازية في مواجهة وباء كورونا، ورغم كثافة حملات تطعيم المواطنين باللقاحات المضادة لكورونا.
وسوف يتوجب على رئيسة الحكومة الجديدة سرعة الإنتهاء من التشكيل الحكومي وتعيين وزير للصحة من أجل التعامل مع هذه الأزمة للتخفيف من حدتها على الأوضاع الداخلية في المجتمع التونسي، خاصة أن اللجنة العلمية لمواجهة كورونا في البلاد تصف الوضع الوبائي في البلاد بالخطير.
3- مكافحة الفساد: من المتوقع أن تضع الحكومة الجديدة إشكالية مكافحة الفساد على قائمة أولوياتها، خاصة أن ذلك الأمر يحظى باهتمام شخصي من قبل الرئيس سعيد الذي يحمل على عاتقه عملية مواجهة الفساد بشتى صوره منذ إعلانه الإجراءات الاستثنائية، وقيامه بمتابعة التحقيقات الخاصة بالمتورطين في قضايا الفساد بنفسه.
كما يسعى سعيد لاستعادة أموال الدولة المنهوبة من خلال إبرام صفقات مع رجال الأعمال الهاربين، يتم بمقتضاها إعادة أموال الدولة في مقابل ضمان عدم التحقيق معهم. كما يقوم الرئيس سعيد بتنظيم زيارات ميدانية يقوم بها بنفسه في الأسواق لمتابعة أسعار السلع والخدمات الضرورية للمواطنين، ومع ذلك لاتزال عملية مكافحة الفساد في البلاد من أكثر التحديات صعوبة.
4- تشكيل الفريق الحكومي: تواجه نجلاء إشكالية اختيار فريق حكومي قادر على مواجهة التحديات المشار إليها أعلاه، خاصة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك تعيين ولاة جدد في 24 محافظة تونسية، وتواجه نجلاء في هذا الخصوص إشكالية أخرى، وهو التوقيت الزمني الضاغط عليها للإعلان عن تشكيلة الحكومة الجديدة في أقرب وقت ممكن، وذلك وفقاً لتوجيهات الرئيس سعيد الذي طالبها بذلك في خطاب تكليفها بتشكيل الحكومة. ومن المرجح أن يكون لرئيس الدولة سعيد دور كبير في عملية اختيار الوزراء الجدد لضمان تنفيذ سياساته، خاصة فيما يتعلق بمواجهة الفساد.
وفي الختام، فإنه يمكن القول إن تكليف الرئيس سعيد جلاء بودن لتشكيل حكومة جديدة يضع على قائمة أولوياتها حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصحية المتفاقمة في البلاد، وفي الوقت نفسه تنفيذ المشروع السياسي الذي يسعى الرئيس سعيد لتطبيقه خلال الفترة القادمة، خاصة فيما يتعلق بتغيير النظام السياسي للبلاد، ومن المرجح أن تتسارع عملية تشكيل الحكومة الجديدة وكذلك الإعلان عن باقي خطوات المرحلة الانتقالية.