أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

الذكاء الاصطناعي وحل أزمات التنمية في الدول الفقيرة

04 مايو، 2023


تعاني المجتمعات النامية من مشكلات عديدة، ليس أقلها الفقر والمرض ونقص الكفاءات وقلة الموارد، والتي يترتب عليها بالضرورة دخول بعض الدول في حالة من الفوضى والصراع الداخلي قد ترتقي إلى حالة الحرب الأهلية، وإذا رجعنا إلى أسباب هذا الانهيار فإنها تكمن في مثلث التعليم والصحة والاقتصاد، الركائز الضرورية للنهوض بالأمم والمجتمعات، والتي تضمن على الأقل وجود حياة مقبولة للأفراد تجنبهم الانجراف إلى الصراع حول الموارد.

ولكن قد يسهم الذكاء الاصطناعي في حل المشكلات التقليدية التي تواجهها ثلاثية التنمية هذه، ورغم أن أول ما يتبادر للذهن هو كيف لهذه المجتمعات القاحلة أن تطور نظم ذكاء اصطناعي يحقق تنميتها فإنه يجب التوضيح أن الأمر ليس بهذه الصورة، بل يكفي تقديم هذه النظم الذكية للمجتمعات الفقيرة في شكل معونات أو منح أو حتى قروض تستخدمها في تحقيق تنميتها مثلما يتم تقديم الغذاء لها، أما الدول الأقل تقدماً فإنها تستطيع أن تستغل الفرصة التاريخية التي يقدمها الذكاء الاصطناعي في إعادة تموضعها على المسار الصحيح من جديد.

مشكلات الاقتصاد

في تدوينته المهمة حول مستقبل الذكاء الاصطناعي قال بيل غيتس: "في أهميته الأساسية، لا يختلف تطوير الذكاء الاصطناعي عن إنشاء المعالج الدقيق "الميكروبروسيسور"، والكمبيوتر الشخصي، والإنترنت، والهاتف المحمول. سيغير هذا النظام طريقة عمل الناس، وتعلمهم، وسفرهم، وحصولهم على الرعاية الصحية، وتواصلهم مع بعضهم بعضاً. صناعات بأسرها ستعيد توجيه أعمالها على أساسه. ستتميز هذه الشركة عن تلك بحسب أوجه استخداماته الجيدة") )، ولذلك فإن للذكاء الاصطناعي استخدامات عديدة خاصة للتغلب على المشكلات التقليدية للمجتمعات النامية، كمشكلات التعليم والفقر والمرض والفساد، بخلاف الفرص الواعدة التي تظهر على مستوى كافة الصناعات.

فجميع الصناعات دون استثناء سوف تمر بمرحلة إعادة هيكلة، بفعل التطور الكبير في نظم الذكاء الاصطناعي والتقنيات الذكية التي أفرزتها الثورة الصناعية الرابعة، وهي فرصة لدول الإقليم، أن تعيد النظر في استراتيجياتها التنموية والصناعية، وأن تبدأ في إدخال الذكاء الاصطناعي في مكوناتها الصناعية والاقتصادية، لكي تحقق قيمة مضافة تضمن بها موضع قدم في الأسواق العالمية في المستقبل القريب. 

فهناك "لحظة تاريخية" فارقة عادت من جديد وبدأت تلوح في الأفق، قد تغير من مسار الدول الفقيرة والنامية وتجعلها في مكانة أفضل بكثير من مكانتها الحالية إذا أحسنت الاستفادة منها، تتمثل في امتلاك زمام المبادرة واللحاق بالثورة الصناعية الرابعة والاستفادة من مكتسباتها الكبيرة خاصة نظم الذكاء الاصطناعي التي يتم التعويل عليها كثيراً في النهوض بالأمم حتى المتقدمة منها.

مشكلات التعليم

استطرد بيل غيتس في تدوينته قائلاً: "رأيت عرضين تكنولوجيين تركا لديَّ شعوراً بالذهول لكونهما ينطويان على إمكانات ثورية. تعود المرة الأولى إلى 1980، عندما تعرفت إلى واجهة المستخدم الرسومية.. والمرة الثانية عند الاجتماع بفريق شركة "أوبن أي آي" "OpenAI") ) ذلك الفريق الذي طور أحد التطبيقات الثورية في مجال الذكاء الاصطناعي وهو "ChatGPT" "تشات جي بي تي".

وذلك لأن النسخة الأولية من "تشات جي بي تي" التي صدرت في نوفمبر 2022 أحدثت ضجة كبيرة داخل الأوساط المختلفة، نظراً لقدراته الفائقة على توليد نصوص تحاكي طريقة البشر تماماً، وتوفير إجابات متعددة لتساؤلات البشر في الموضوعات المختلفة، سواءً كانت صحية أو اقتصادية أو سياسية أو معلومات عامة أو تأليف القصص والروايات وكتابة المقالات والأبحاث وتلخيص الكتب وعمل محاضر الاجتماعات وغيرها من الاستخدامات البحثية والتعليمية، فظهر وكأنه مدرس شخصي لكل تلميذ ومكتبة متنقلة لكل باحث وعقل صناعي متحرك بين إصبعي كل إنسان.

لم تكد تمر عدة شهور حتى صدرت النسخة الأكثر تطوراً منه وهي "ChatGPT-4" في مارس 2023 وتتميز بكونها أكثر دقة وكفاءة من النسخة السابقة، كما أنها قادرة ليس فقط على الكتابة بل على تصميم وإنتاج الصور والفيديوهات وكتابة أكواد الكمبيوتر المعقدة وتصميم برامج وتطبيقات وألعاب حاسوبية، وغيرها من المهام التي كانت في الماضي القريب حكراً على البشر، كل ذلك هو فقط مجرد بداية لما يمكن أن يقوم به الذكاء الاصطناعي في مجال واحد فقط وهو المهارات التعليمية.

وبالتالي قد نتغلب في المستقبل القريب على مشكلات عدم كفاءة بعض المدرسين من خلال استبدالهم بنظم ذكاء اصطناعي قادرة على تنمية وصقل مهارات الأطفال والطلاب، ونتغلب على صعوبة عدم توافر أعداد كافية من المدرسين لتدريس المواد، فيستطيع روبوت واحد فقط تدريس جميع العلوم داخل الفصل دون كللٍ أو مللٍ أو خطأٍ أو نسيان، بل قد يتم توفير نسخ صغيرة من هذه الروبوتات أو النظم الذكية تقوم بتعليم كبار السن والأميين وغيرهم ممن لا يجيدون مهارات القراءة والكتابة في بيوتهم أو في النوادي والطرقات، فتصبح عملية التعليم أسهل وأيسر.

الأمر لا ينطبق على المدارس فقط، بل كل ما يتعلق بالتعليم والتعلم، يشمل ذلك التعليم الجامعي وما بعده، والتعليم التقني والحرِفي، والتعليم التطبيقي والنظري أيضاً، بل حتى الدورات التدريبية ومهارات تطوير الذات وغيرها من أنواع المعرفة البشرية، يمكن تطويرها وتطويعها عبر نظم ذكية لكي تقدم تجربة تعليم أكثر ابتكاراً.

مشكلات الصحة

إلى جانب التعليم يمكن أيضاً تحسين الخدمات الصحية المقدمة للأفراد من خلال إدارة بيانات الرعاية الصحية وتحليل المعلومات الصحية الخاصة بملف المريض وربطها بمدى تدهور أو تحسن حالته الصحية، والمساعدة في تشخيص الأمراض المزمنة والخبيثة، وإجراء العمليات الجراحية الدقيقة بمساعدة نظم الذكاء الاصطناعي مثل الأذرع الآلية والآلات الذكية القادرة على رصد موضع المرض أو الورم بدقة شديدة للغاية واستهداف الأنسجة المعطوبة فقط دون السليمة.

كما يمكن أيضاً استخدام نظم الذكاء الاصطناعي في تقديم لقاحات أكثر فاعلية وكفاءة، وتطوير أدوية وعقارات بصورة أسرع من ذي قبل، أو حتى تطوير أدوية شخصية، أي تلائم حالة كل مريض على حدة، وليس علاجاً واحداً لجميع الأفراد، وذلك من خلال تحليل البيانات الجينية للشخص وربطها بالملف الطبي الخاص به للخروج بأفضل تركيبة دوائية تلائم حالته الصحية.

فضلاً عن القدرة على تقديم الرعاية الصحية في المناطق النائية التي يصعب توفير أطباء من تخصصات متعددة فيها، فيمكن للنُظم الذكية أن تساعد في عمل تشخيص سريع للأفراد وتقدير حالة خطورتهم حتى تلقي الرعاية المناسبة لهم، أو أن يقوم المرضى باستخدام أجهزة طبية ذكية تساعدهم في تقدير حالتهم الصحية وتقدم لهم توصيات عما يجب فعله، مثل زيادة جرعة دوائية معينة أو إضافة دواء جديد أو حتى مراجعة أقرب مستشفى طوارئ. 

إن الثورة القادمة من الذكاء الاصطناعي لا تقتصر فقط على الصناعة والتعليم والصحة، بل تشمل أيضاً تحسين عملية اتخاذ القرار سواءً على مستوى الأفراد أو الشركات أو حتى الحكومات، وكذلك تحقيق الكفاءة في إدارة الموارد وتجنب الهدر والفاقد، والتعامل بصورة أفضل مع توقعات الأفراد واحتياجاتهم وتقديم خدمات جيدة لهم، بالإضافة إلى تعظيم القدرة على تجنب بعض صدمات المستقبل التي يمكن التنبؤ بها من خلال تحليل البيانات الضخمة.