تمكَّن بول كاغامي من تحقيق انتصار بأغلبية ساحقة خلال الانتخابات الرئاسية التي شهدتها رواندا في مُنتصف يوليو 2024؛ ليفوز بولاية رابعة تستمر لمدة خمس سنوات، بنسبة 99.18% من إجمالي الأصوات.
ورغم الآمال التي رافقت الإعلان عن نتيجة الانتخابات في استمرار المُنجزات التي حقَّقها كاغامي على مدار ثلاثة عقود، في بناء الدولة الرواندية في أعقاب الإبادة الجماعية التي شهدتها البلاد في عام 1994، تظل هناك جملة من التحديات على الصعيديْن المحلي والإقليمي تلزم إدارتها بشكل فعَّال، واحتواء تبعاتها السلبية التي قد تؤثِّر سلباً في المسار التنموي للدولة الواقعة في شرقي القارة، والتي تُعد واحدة من أهم الدول الإفريقية ذات الاقتصاديات سريعة النمو.
فوز مُتوقع:
كان الفوز الساحق الذي حقَّقه بول كاغامي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة سهلاً ومُتوقعاً، ويمكن النظر إليه باعتباره انعكاساً لعدّة عوامل استطاع الرئيس الرواندي تكريسها على مدار ثلاثين عاماً، أبرزها ما يلي:
1. النجاح في بناء الدولة الرواندية: تمكَّن كاغامي على مدار ثلاثين عاماً من إدارة البلاد على نحو أدّى إلى تعزيز السلام المجتمعي وتلبية حاجة الروانديين إلى الاستقرار منذ الإبادة الجماعية وحوادث القتل الجماعي التي شهدتها البلاد في عام 1994 حينما قُتل ما يُقدَّر بنحو 800 ألف إلى مليون شخص من التوتسي والهوتو المعتدلين على يد متطرفين من الهوتو. وبفضل سياسات كاغامي الداخلية، انتقلت رواندا من الإبادة الجماعية؛ لتصبح أحد أكثر الاقتصادات نمواً بالقارة الإفريقية، حتى أُطلق عليها لقب الدولة المُعجزة (Miracle Nation) في عام 2024.
2. استمرار كاغامي في الحكم: استطاع كاغامي طيلة العقود الثلاثة المُنصرمة تثبيت دعائم حكمه، وهذا يتجلَّى بوضوح في نتائج الانتخابات الأخيرة؛ إذ حصد كاغامي 99.18% من إجمالي الأصوات، مُقارنةً بـالنسبة الضئيلة للغاية التي حصل عليها مُنافساه؛ وهما زعيم حزب الخضر فرانك هابينيزا (0.5%) والمرشح المُستقل فيليب مباييمانا (0.32%)، وهما المنافسان اللذيْن سُمح لهما بخوض الانتخابات أمام كاغامي من بين إجمالي ثمانية مُتقدمين.
كما أشرف الرئيس الرواندي في عام 2015 على التعديلات الدستورية التي قلّصت مدة الفترة الرئاسية من 7 إلى 5 سنوات، وأهَّلته للبقاء في منصبه حتى عام 2034؛ على أساس أن الدستور نصّ على أن يستكمل الرئيس القائم كاغامي فترته الرئاسية (والتي استمرت 7 سنوات)، وبعد انقضائها في يوليو 2024، يجوز له الترشح لدورة انتخابية، وفي حال فوزه فيها، يستمر في الحكم لمدة 5 سنوات، ويجوز إعادة انتخابه لمرة واحدة بعد ذلك.
ومن ثم، يمكن القول إن كاغامي يُعَد الزعيم السياسي الأكثر شعبية في رواندا منذ منتصف التسعينيات؛ رغم أن 65% من الروانديين تقل أعمارهم عن 30 عاماً. ففي الانتخابات الرئاسية التي خاضها في الأعوام 2003 و2010 و2017، فاز بأكثر من 93% من الأصوات، وبحصوله على نسبة 99.18% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يكون كاغامي قد حصل على هامش أكبر ممّا حصل عليه في السباق الانتخابي لعام 2017، والذي اكتسحه بنسبة 98.79% من الأصوات.
3. فوز حزب "الجبهة الوطنية" في الانتخابات البرلمانية: بالتوازي مع فوزه بمنصب الرئيس، تمكن الحزب الذي ينتمي إليه كاغامي، وهو الجبهة الوطنية الرواندية (Rwandan Patriotic Front) (RPF)، من الفوز بأغلبية المقاعد في البرلمان؛ إذ فازت الجبهة بنسبة 68.83% من الأصوات في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي عُقدت بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية.
وفي البرلمان المنتهية ولايته، حصلت الجبهة الوطنية الرواندية على الأغلبية العظمى من المقاعد (40 من أصل 53 مقعداً)، وحصل حلفاؤها على 11 مقعداً، بينما حصل حزب الخضر على مقعديْن فقط.
تحديات اقتصادية:
نجح كاغامي في تنمية الاقتصاد الرواندي على النحو الذي جعله واحداً من الاقتصادات سريعة النمو في إفريقيا، كما يُنظر إليه على أنه نموذج للنمو المُستدام والقدرة على الصمود. ورغم ذلك، ثمَّة تحديات اقتصادية ستواجه الرئيس الرواندي في ولايته الرابعة، وذلك على النحو التالي:
1. ارتفاع معدلات البطالة: رغم إشادة البنك الدولي بمرونة اقتصاد رواندا، وتحقيقه معدل نمو بنسبة 7.6% في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2023، فضلاً عن تنامي قدرته على جذب مُختلف الصناعات كثيفة الأيدي العاملة، فإن رواندا تعاني من ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب الذين يُشكِّلون النسبة الأكبر من الروانديين، كما ذُكر آنفاً. وتُشير التقديرات إلى أن حجم البطالة قد بلغ حوالي 14.9%، ويتمثَّل التحدي الأهم في هذا الشأن في أن أعداداً ضخمة من الشباب المُتعلمين غير مؤهلين للوظائف في مجال التصنيع على وجه الخصوص؛ وهو الأمر الذي يتطلب استثمارات كبيرة في بناء القدرات وتدريب الكوادر البشرية.
2. تصاعد معدلات الفقر: رغم الانتعاش الملحوظ للاقتصاد الرواندي خلال فترة حكم كاغامي، لا يزال الفقر منتشراً في المناطق الريفية في البلاد. ووفقاً لمؤشر الفقر مُتعدد الأبعاد التابع للأمم المتحدة (UN’s Multidimensional Poverty Index)، تبلغ معدلات الفقر في المناطق الريفية من البلاد 42%، وهي نسبة أعلى كثيراً مقارنةً بالمدن؛ إذ تبلغ نسبة الفقر 15%. ويعيش ما يقرب من واحد من كل اثنين من الروانديين (48.4%) على أقل من 2.15 دولار في اليوم، وفقاً لتقديرات البنك الدولي.
3. الاعتماد على المُساعدات الخارجية: تتمثَّل إحدى نقاط الضعف الهيكلية في الاقتصاد الرواندي في اعتماده على المساعدات التنموية الخارجية، التي شكَّلت في العقود الماضية ما بين 12 إلى 17% من الدخل القومي الإجمالي، وفي عام 2018، كان نصيب الفرد في رواندا من المساعدات من بين أعلى المعدلات في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ إذ قُدِّر بنحو 91 دولاراً، في حين أسهمت المساعدات في حوالي 62.2% من النفقات الحكومية؛ الأمر الذي يُشكِّل خطورة على الاقتصاد الرواندي حال اتجاه القوى الغربية لتقليص حجم مُساعداتها، واستخدام ذلك كورقة ضغط على كاغامي في ملفات أخرى.
4. ارتفاع معدلات الدين: رغم تنامي الناتج المحلي الإجمالي (GDP) في رواندا أكثر من 6 أضعاف بين عامي 2000 و2022، وتحسُّن البنية التحتية والخدمات الصحية، تنامت معدلات الدين العام، وأصبحت تُمثِّل حوالي 69.9% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في 2024 وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، وتتفاقم إشكالية الدين بالنظر إلى محدودية الموارد الطبيعية والقاعدة الصناعية، فضلاً عن اعتبار رواندا دولة حبيسة ليست لها أية منافذ على البحر.
ملفات إقليمية:
ثمَّة ملفات رئيسة مثَّلت سمْتاً عاماً لتوجُّهات السياسة الخارجية لـكاغامي تجاه دول الإقليم، ويُرجَّح استمرارها خلال الولاية الرابعة له، وأبرزها ما يلي:
1. استمرار الدبلوماسية العسكرية: عمِدَ كاغامي في السنوات القليلة الماضية إلى تعزيز الدبلوماسية العسكرية لبلاده؛ وذلك من خلال التوسُّع في عمليات الانتشار العسكري لقوات الدفاع الرواندية في الدول الإفريقية سواء دول الجوار القريب أم الدول لا تشترك معها رواندا في الحدود. وهذا الانتشار العسكري جاء على أكثر من مظهر؛ أولها الانخراط في بعثات حفظ السِّلم التابعة للأمم المتحدة في دول إفريقيا جنوب الصحراء، وتُعَد رواندا من أكبر المساهمين في إفريقيا في تلك البعثات، وثانيها عقد اتفاقيات تعاون أمني وعسكري يقضي بنشر قوات رواندية على أراضي الدول الإفريقية كما هو الحال في كلٍ من موزمبيق (منذ عام 2021) وجمهورية إفريقيا الوسطى (منذ عام 2020)، وغير ذلك.
وتستهدف رواندا تحقيق جملة من المكاسب من التوسُّع في الانتشار العسكري بالإقليم، وأهمها:
أ. بناء شراكات إفريقية استراتيجية: تُعد رواندا دولة صغيرة حبيسة تتمتع بكثافة سكانية عالية، وتتسم بمحدودية الموارد الطبيعية، على عكس بعض جيرانها، والانتشار العسكري يُمكِّنها من تعزيز علاقاتها بالدول الغنية بالموارد الطبيعية؛ إذ غالباً ما تكون اتفاقيات التعاون العسكري مصحوبة باتفاقيات شراكة اقتصادية من قبيل امتيازات في القطاعات التعدينية والنفاذ للموانئ التجارية.
ففي جمهورية إفريقيا الوسطى على سبيل المثال؛ يتمتع الروانديون بامتياز الوصول إلى الاستثمار في قطاعات مثل: التعدين والزراعة والبناء، والتي غالباً ما تقودها شركة Crystal) (Ventures؛ وهي شركة استثمار مملوكة للجبهة الوطنية الرواندية الحاكمة بزعامة كاغامي، كما تعمل الآن أكثر من 100 شركة رواندية في إفريقيا الوسطى، وتشارك في استخراج الموارد الطبيعية القيمة مثل: الماس والذهب بالإضافة لتجارة الأخشاب.
ب. تنويع مصادر الدخل وتوفير العملة الصعبة: تُعَد رواندا رابع أكبر مُساهم في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في العالم (4500 إلى 6000 جندي رواندي)؛ ونتيجة لذلك، تجني مكاسب مالية ضخمة؛ إذ تدفع الأمم المتحدة للمُساهمين 1428 دولاراً لكل جندي شهرياً؛ مما يعني أن رواندا تتلقى أكثر من 100 مليون دولار سنوياً.
ج. تقديم بديل إفريقي أمني: أدّت الدبلوماسية العسكرية النشطة لـكاغامي إلى جعل رواندا واحدة من أكثر مُقدمي خدمات الأمن نشاطاً في إفريقيا. ومن خلال تبني مثل هذه الاستراتيجية، يستطيع كاغامي بناء علاقات أقوى مع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، وزيادة النفوذ الدبلوماسي الرواندي؛ وهو الأمر الذي جعل المراقبين يعتبرون مثل تلك السياسة نموذجاً للقوة الذكية (Smart Power).
د. التكامل الاقتصادي الإقليمي والقاري: يُعد التكامل الاقتصادي أحد المبادئ الأساسية لسياسة كاغامي؛ فهو خيار لا غنى عنه من أجل تنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية، بالنظر لكون رواندا دولة حبيسة تتسم بمحدودية الموارد الطبيعية؛ ومن ثم، يدعم كاغامي التحرُّكات من أجل تعزيز التجارة الحرة على المستوى الإقليمي والقاري؛ لأنها تؤدي إلى خفض تكاليف النقل والطاقة التي تعرقل التنمية الاقتصادية في رواندا، لكن هذا الدعم ليس مطلقاً، ويتجلَّى ذلك في الإغلاق المتكرر للحدود الرواندية مع أوغندا منذ عام 2019؛ بسبب التوترات طويلة الأمد بين البلدين.
وتجدر الإشارة إلى أن خطوات رواندا الثابتة تجاه تعزيز شراكاتها العسكرية والأمنية مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، جنباً إلى جنب مع تعزيز الشراكات الاقتصادية؛ أثَّرت بشكل إيجابي في الصورة الذهنية لرواندا بالقارة، ويتجلَّى ذلك في زيادة عدد المناصب التي شغلتها في مختلف المنظمات الإقليمية والدولية؛ إذ تمَّ انتخاب وزيرة الخارجية الرواندية السابقة لويز موشيكيوابو، أمينة عامة للفرانكفونية، كما تمَّ انتخاب النائبة السابقة لمحافظ بنك رواندا الوطني (BNR) مونيك نسانزاباغانو، نائبة لرئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، والمكلَّفة بتحسين تنفيذ إصلاح المنظمة.
2. التوترات مع دول الجوار: شهدت الولاية الثالثة لكاغامي توترات عديدة مع دول الجوار، ويُتوقَّع أن تستمر تلك التوترات أو تعود وتطفو مُجدداً على السطح بين الفينة والأخرى؛ طالما بقيت الأسباب الجوهرية التي تؤجِّجها دون حسم، وذلك على النحو التالي:
أ. جمهورية الكونغو الديمقراطية: تتهم بعض التقارير رواندا بأنها تقوم بتدريب وتجهيز عناصر "حركة 23 مارس" وإمدادهم بالأسلحة التي تمتلكها الجيوش النظامية، وتزعم تلك التقارير أن رواندا تستخدم الحركة من أجل تصفية خصومها؛ وهو ما أعلنته بشكل رسمي حينما أكَّدت أن وجودها العسكري في شرقي الكونغو وسيلة للدفاع عن أمنها القومي ضد القوات الديمقراطية لتحرير رواندا (FDLR)، وهي جماعة مُتمردة مُسلحة، وتضم في صفوفها مُرتكبي الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي قُتل فيها ما يقرب من مليون من التوتسي على يد مليشيات الهوتو، وفرَّ العديد من مرتكبيها إلى الكونغو لتجنب المحاكمة في رواندا.
ب. أوغندا: استمرت الحدود الرواندية الأوغندية مُغلقة لمدة ثلاث سنوات منذ عام 2019 حتى 2022؛ وذلك على خلفية اتهام أوغندا بدعم الجماعات المتمردة من أجل زعزعة استقرار رواندا، وفي الوقت نفسه، اتهمت أوغندا حكومة رواندا بالتجسس، لكن يبدو أن الوقت الراهن يشهد تنسيقاً بين الدولتيْن بشأن انتقال عناصر "حركة 23 مارس" وتدريبهم، وكذلك بشأن عمليات الاتجار غير المشروع في المعادن النفيسة بالمناجم التي تسيطر عليها الحركة في شرقي الكونغو.
ج. بوروندي: أغلقت بوروندي حدودها مع رواندا، مطلع العام 2024، بعد أن اتهمت جارتها بتمويل هجمات المتمردين؛ إذ شهد ديسمبر 2023 هجمات دموية لجماعة ريد تابارا (Red Tabara) -جماعة مُتمردة بوروندية- أفضى إلى قتل 20 شخصاً بالقرب من الحدود مع جمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد نفى كاغامي هذه التُّهم، لكن حكومة بوروندي وصفته بأنه "جار سيئ".
وفي التقدير، يمكن القول إنه وفقاً لمعطيات المشهد الراهن، يُرجَّح استمرار التوجُّهات الرئيسة والمبادئ الحاكمة لأجندة السياسة الخارجية الرواندية خلال الولاية الرابعة لـبول كاغامي، دون إحداث تغييرات جوهرية ما لم تضغط القوى الكبرى بتقليص المساعدات التنموية.
هذا، ويُنذر استمرار التوترات مع دول الجوار بمنطقة البحيرات العظمى وغياب الإرادة السياسية لتصفير تلك المشكلات وتسوية الملفات العالقة باندلاع صراع شامل (السيناريو الأسوأ)، ولاسيما فيما يخص التوترات مع جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ الأمر الذي من شأنه عرقلة المسار التنموي وتدفقات المساعدات والاستثمارات الأجنبية إلى رواندا كما يلحق أضراراً بالغة بالتجارة الإقليمية وقطاع السياحة الرواندي خصوصاً في ضوء استمرار المشكلات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد دون معالجة فعَّالة.