أجرى رئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال مارك ميلي، زيارة غير مُعلنة، إلى القواعد الأمريكية في سوريا، في 4 مارس 2023، تُعد الأولى له منذ تسلمه منصبه في عام 2019، وذلك بهدف تفقد القوات الأمريكية المُوجودة في تلك القواعد. وفي ضوء عدم تحديد المصادر الأمريكية للقواعد التي زارها ميلي، فقد تضاربت الأنباء حول ما إذا كانت الزيارة قد شملت القواعد العسكرية الأمريكية في شمال شرق سوريا، أم أنها شملت قاعدة التنف في المثلث الحدودي بين العراق وسوريا والأردن.
سياقات متزامنة
تزامنت هذه الزيارة مع عدد من التطورات، يمكن استعراضها على النحو التالي:
1- تزايد نشاط "داعش" في شرق سوريا: شهدت الفترة الأخيرة، لاسيما منذ بداية العام 2023، تزايداً في عمليات تنظيم "داعش" داخل سوريا، حيث شن التنظيم نحو 14 هجوماً خلال الأسبوعين الأولين من عام 2023، في مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، مما أدى إلى سقوط نحو 12 قتيلاً منها، علاوة على إصابة أربعة جنود أمريكيين في فبراير 2023.
ويدلل ذلك، على سعي التنظيم الإرهابي إلى إعادة ترتيب صفوفه لإثبات حضوره وتعزيز وجوده في سوريا كجزء من تحركاته من أجل استعادة نشاطه في مناطق النفوذ التقليدية، وهو ما أثار قلق الولايات المتحدة الأمريكية من تداعيات هذا التطور خلال الفترة المقبلة، لاسيما مع إشارة بعض المسؤولين الأمريكيين إلى أن مؤشرات عودة التنظيم لا تزال موجودة وهو ما يشكل تهديداً واضحاً.
وفي المقابل، أحرزت القوات الأمريكية، وحليفتها "قسد"، عدداً من النجاحات ضد "داعش" خلال الفترة الأخيرة، إذ استهدفت تلك القوات، في 17 فبراير 2023، القيادي البارز في التنظيم حمزة الحمصي، في غارة مُشتركة بمروحية في شمال شرق سوريا، كما كشف بيان للقيادة المركزية الأمريكية، نُشر في 4 مارس 2023، عن أن التحالف الدولي وشركاؤه الأكراد، نفذوا 48 عملية ضد التنظيم، أسفرت عن مقتل 22 عنصراً، واعتقال 25 آخرين.
2- جولة وزير الدفاع الأمريكي: تزامنت تلك الزيارة، مع جولة لوزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، بدأها في 5 مارس 2023، بزيارة إلى الأردن ثم مصر وإسرائيل، بهدف تعزيز التعاون والشراكة الأمريكية مع الدول الثلاث.
ويُنظر إلى تلك الجولة على أنها تمثل عودة لاهتمام واشنطن بالمنطقة، ومحاولة لإبداء الدعم والمساندة لحلفائها في مواجهة التهديدات المختلفة، وفي القلب منها التهديد الإيراني، وهي ذات الأهداف التي تسعى زيارة ميلي لتأكيدها.
3- تكثيف الضربات الإسرائيلية: تأتي تلك الزيارة في الوقت الذي تكثف فيه إسرائيل الضربات على مواقع تابعة للمليشيات الإيرانية داخل الأراضي السورية، إذ استُهدفت شاحنات أسلحة، في ريف مدينة البوكمال بمحافظة دير الزور، على الحدود العراقية السورية، في نهاية يناير 2023، مما أدى إلى مقتل وتدمير من بداخلها، في هجمات نُسبت لإسرائيل.
كما أعقب زيارة رئيس الأركان الأمريكي إلى سوريا بأيام، استهداف معمل أسلحة تابع لفصائل موالية لإيران في دير الزور أيضاً، وقد أسفر عن مقتل سبعة أشخاص، هذا إلى جانب القصف على مطار حلب، والذي أودى بحياة ثلاثة آخرين، في 7 مارس 2023، وهي هجمات تُشير المصادر إلى وقوف إسرائيل وراءها.
أهداف الزيارة
سعت واشنطن، إلى تحقيق عدد من الأهداف والرسائل من تلك الزيارة، يمكن إجمالها على النحو التالي:
1- الحفاظ على الوجود الأمريكي: جاءت تلك الزيارة كرسالة من جانب إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تفيد بمعارضته سحب القوات الأمريكية من سوريا، وتأكيد أهمية الحفاظ على وجودها، خاصة في ضوء تصاعد الرفض في الداخل الأمريكي لاستمرار هذا الوجود، حيث أكدت بعض التقييمات الأمريكية أن هذا الوجود له الكثير من المخاوف وليس له إلا فوائد رمزية.
كما تؤكد الأصوات الأمريكية المعارضة أن الولايات المتحدة ليست في حالة حرب مع سوريا، وأن وجود تلك القوات قد يدفعها للتصادم مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى الموجودة في سوريا، وقد قدّم عضو الكونغرس الأمريكي مات جايتس، مشروع قانون يتعلق بصلاحيات الحرب من شأنه إجبار إدارة الرئيس الأمريكي بايدن على سحب القوات الأمريكية من سوريا، وهو ما ترفضه الإدارة، كما أنه من المستبعد أن يتم تمرير هذا القانون من الأساس.
2- استمرار دعم واشنطن للأكراد: سعت واشنطن من تلك الزيارة إلى تأكيد دعمها قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، المتحالفة مع القوات الأمريكية في شرق سوريا، والتي تقاتل معها تنظيم "داعش".
وتُعد الزيارة بمثابة رسالة إلى تركيا مفادها استمرار الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية، بما يعني قطع الطريق على أنقرة إذا ما أرادت القيام بأي عملية عسكرية ضد "قسد"، التي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية السورية قوامها الرئيسي، وتصنفها أنقرة بأنها منظمة إرهابية.
لذا فقد استنكرت تركيا الزيارة، وقامت باستدعاء السفير الأمريكي في أنقرة، جيفري فليكف، في 6 مارس 2023، لطلب توضيحات بشأن الزيارة، مُعربة عن "عدم ارتياحها للزيارة".
3- تقليل خطر هجمات المليشيات الإيرانية: جاءت الزيارة بهدف توفير الحماية للقوات الأمريكية في سوريا من الهجمات العسكرية التي تشنها المليشيات المسلحة المدعومة من إيران، خاصة في ضوء تكثيف تلك المليشيات من تحركاتها المناوئة وهجماتها على القواعد الأمريكية بشمال شرق سوريا، خلال شهري يناير وفبراير2023.
وأعلن الجيش الأمريكي، في 14 فبراير 2023، إسقاطه طائرة مسيرة استطلاعية إيرانية في شمال شرق سوريا، إضافة إلى تصديه لهجوم ثلاث طائرات مسيرة في منطقة التنف، في 20 من نفس الشهر. كما تهدف الزيارة إلى تقييم وتعزيز مراقبة الحدود بين سوريا والعراق، ومراقبة الفصائل التابعة لإيران، لمنعها من التجهيز لأي عمل عسكري تعتزم تنفيذه ضد القوات الأمريكية في سوريا.
4- رفض عودة العلاقات مع الحكومة السورية: حملت الزيارة التي أجراها رئيس هيئة الأركان الأمريكية، تجديد الإدارة الأمريكية رفضها الانفتاح على الحكومة السورية، ودعوتها لدول المنطقة بألا تترافق عمليات إرسال المساعدات الإنسانية لمتضرري الزلزال في سوريا مع عودة العلاقات معها، وهو ما أكده السيناتور الجمهوري في لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأمريكي، جيم ريش، حيث قال إن كارثة الزلزال لا يمكن أن تنسي المجتمع الدولي الانتهاكات التي تعرض لها الشعب السوري، كما أكد ضرورة منع إعادة تأهيل النظام أو إعادته إلى الجامعة العربية.
ومن ناحية أخرى، فإن زيارة ميلي، تمت دون التنسيق مع الحكومة السورية أو إخطار مُسبق لها، وهو ما أدى إلى إدانة وزارة الخارجية السورية، للزيارة ووصفتها بإنها "غير شرعية"، واعتبرتها انتهاكاً لسيادة أراضيها ووحدتها.
5- بحث جهود إعادة النازحين: استعرض رئيس الأركان الأمريكي خلال زيارته قواته في سوريا، جهود الإعادة المستمرة للنازحين من مخيم الهول، والذي يضم أكثر من 70 ألف نازح، بينهم 25 ألف طفل في ظروف مزرية.
ويضم هذا المخيم النازحين من العراق وسوريا نتيجة العمليات العسكرية التي أعقبت ظهور تنظيم "داعش"، كما يتغلغل التنظيم داخل المخيم، وهو ما يؤهله لأن يتحول إلى بيئة خصبة لظهور جيل جديد من التنظيم، وذلك في ضوء أن ما يقرب من 70% من سكانه، تحت سن 12 عاماً، وهؤلاء الشباب أكثر عرضة للتطرف نظراً لنوعية حياتهم السيئة للغاية. لذا تسعى واشنطن، من تكرار زيارات المسؤولين العسكريين للمخيم، إلى استكمال مساعي إعادة اللاجئين بداخله إلى بلدانهم، وإعادة تأهيلهم.
وفي التقدير، يمكن القول إن التحركات الأمريكية الأخيرة في المنطقة، تُشير إلى محاولات واشنطن استعادة نفوذها ودورها في المنطقة، وذلك بالتنسيق مع حلفائها، وذلك بهدف مواجهة نفوذ روسيا وإيران، خاصة وأن لديهما موقفاً مشتركاً يدعو لتقليص الوجود والنفوذ العسكري الأمريكي في المنطقة. وقد يؤدي ذلك الموقف من جانب واشنطن إلى اتخاذ عدد من الإجراءات خلال الفترة المقبلة، والتي من بينها تأمين القواعد الأمريكية لتعزيز حماية الجنود الأمريكيين وإبعادهم عن الاستهداف، خاصة مع تزايد احتمالات توجيه إسرائيل، بضوء أخضر أمريكي، ضربات ضد منشآت نووية إيرانية، وهو ما سيدفع الأخيرة إلى التصعيد الإقليمي ضد القوات والمصالح الأمريكية في المنطقة.