أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

جدران العراق ولبنان والخيط الإيراني

11 نوفمبر، 2019


قبل ثلاثين عاماً، أوفدتني «الشرق الأوسط» لتغطية أخبار جدار برلين المتداعي. ولم يكن مستغرباً أن تنتابني، كصحافي عربي شاب، أسئلة عن العالم الذي أنتمي إليه. تزايدت حدة الأسئلة لاحقاً حين فر الاتحاد السوفياتي إلى متحف التاريخ، وتساقط أيتام الكرملين تباعاً.

في المقهى، قرب الجدار، رحت أفكر. متى ستسقط الجدران العربية؟ ليس فقط الجدران التي تمنع هذه الدولة العربية من التواصل مع جارتها، بل أيضاً جدران الداخل التي كانت تحتجز العقل والقلب والرئتين. كان اسم حاكم العراق صدام حسين. وحاكم ليبيا معمر القذافي. وحاكم سوريا حافظ الأسد. وكان قصر بعبدا اللبناني في عهدة جنرال صاخب اسمه ميشال عون، وبصفته رئيساً لحكومة شكّلها من العسكريين. اليوم، غاب الزعماء الثلاثة، ويقيم قصر بعبدا في عهدة عون رئيساً منتخباً تشهد بداية النصف الثاني من عهده سقوط جدران كثيرة بفعل الحراك الشبابي والطلابي. أما العراق الذي اعتقدنا أن صدام حسين كان الجدار الوحيد الذي يمنعه من التقاط أنفاسه واللحاق بالعصر، فيشهد هو الآخر تصدع جدران صيغة المحاصصة والتقاسم التي أنهكت البلاد.

كان سقوط الجدار نهاية حقبة وبداية أخرى. ساد الاعتقاد أن العالم سيعيش طويلاً في عهدة القطب الواحد المنتصر. ثم تبين أن أعباء قيادة العالم أكبر من أن تضطلع بها دولة واحدة، حتى ولو امتلكت الاقتصاد الأول والجيش الأقوى. ولم يتأخر الوقت كثيراً، فقد شهدنا روسيا تطل من الركام السوفياتي، وبزعامة الكولونيل الذي كان يقيم قرب الجدار وحمل الجرح في قلبه، واسمه فلاديمير بوتين. ثم شهدنا الصعود الصيني المذهل، حين تمكن ورثة ماو من إخراج مئات ملايين الصينيين من الفقر بأفكار لم ترد أبداً في «الكتاب الأحمر» الذي دبجه «الربان العظيم». أسقط الورثة جدار ماو بلا ضجيج، لكنهم حفظوا من عهده هالة ضريحه وآلة رقابة واستقرار، اسمها الحزب الشيوعي، بعدما غسلوه في نهر العولمة.

ثمة ما هو أهم وأخطر مما تقدم. أدى تراكم الأبحاث إلى سلسلة متلاحقة من الثورات العلمية والتكنولوجية غيرت أيضاً علاقة الفرد بالعالم، وسمحت بتدفق حر للأخبار والتعليقات والصور. لم يعد باستطاعة أحد اعتقال المعلومات عند نقطة الحدود، ومطالبتها بالحصول على تأشيرة دخول، والخضوع لامتحان جهاز الأمن قبل التسرب إلى عقول المواطنين؛ إنها ثورة وسائل التواصل الاجتماعي. وإذا كان التاريخ سجل أن رشاش الكلاشينكوف لعب دوراً كبيراً في تحقيق الثورات والانتفاضات في العالم، فإن التاريخ سيسجل لاحقاً أن الهاتف الذكي أعنف من الكلاشينكوف وأكثر فاعلية وخطراً.

أسقطت ثورة الاتصالات كثيراً من الجدران. الجدران التي شيدها الأهل بفعل المحافظة والخوف. والجدران التي أقامها الأمن لحراسة النظام. والجدران التي أقامتها الحكومات لمنع الدماء الجديدة الحارة من التدفق في عروق المجتمع. هزت ثورة الاتصالات كل شيء. وطرحت علامات استفهام حول كل شيء. أسقطت المحظورات واستدرجت إلى النقاش ما كان يستحيل اقتياده إلى المشرحة.

هل ترانا نبالغ إذا قلنا إن تدفق الشبان العراقيين إلى الساحات ينذر بسقوط جدار الفساد والدولة المتصدعة والزمن الطائفي الذي كاد يقتل العراقيين، ومعهم العراق؟ وهل ترانا نبالغ إذا قلنا إن تدفق الشبان اللبنانيين إلى الساحات والشوارع ينذر بسقوط جدار الفساد والدولة المتصدعة وخيمة الطوائف التي كادت تقتل اللبنانيين، ومعهم روح لبنان؟ وهل نبالغ إذا قلنا إن عراقياً جديداً يولد ولن يقبل بأقل من دولة عصرية المؤسسات تقوم على الشفافية والنزاهة والكفاءة والانخراط في العصر؟ وهل نبالغ إذا قلنا إن لبنانياً جديداً يولد ويرفض أن يستدعى إلى الأعراس الطائفية بولائمها ومجازرها، وإنه لن يقبل بأقل من دولة القانون والانفتاح والقضاء المستقل؟

أبحرنا طويلاً في اليأس. قتلنا الانتظار المديد. ثم خيبتنا انهيارات «الربيع العربي»، وتقدم قوى الماضي للاستيلاء على أحلام الناس. وأخافتنا قدرة الأنظمة على الترويع وتغيير مسارات الحراكات وإغراقها في الدم والإرهاب. لكننا نكاد نشهد اليوم ولادة عربي جديد. لا يريد الانتصار على الطائفة الأخرى ولا المذهب الآخر. يريد تعليماً يفتح أمامه فرص العمل والتقدم والإبداع. يريد شرطياً يعمل تحت سقف القانون. ومحكمة لا يزجرها مدير المخابرات. يريد دولة طبيعية وعصرية لا تعيش دائماً على شفير حرب أهلية، ولا تنجب اليائسين والانتحاريين والأحزمة الناسفة. العربي هنا وهناك يريد دولة الشرفات لا دولة الجدران.

ما يجري في العراق ولبنان يستحق التوقف عنده من قبل الجميع. لا يمكن اعتقال نهر التاريخ مهما بلغت القدرة على تشييد السدود والجدران. على السلطات العراقية أن تقرأ وتسمع وتستنتج. الأمر نفسه بالنسبة إلى السلطات اللبنانية. ولأن الخيط الإيراني حاضر بقوة في العاصمتين، وتستندان إليه في مقاومة رياح التغيير، فإن على إيران نفسها أن تقرأ وتستمع وتستنتج.

يصعب الاعتقاد أن الشاب الإيراني لا تراوده الأحلام نفسها التي تراود الشاب العراقي والشاب اللبناني، رغم خصوصية أوضاع كل دولة. إدمان النفخ في جمر الثورة لا يؤجل إلى الأبد الاستحقاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. جدار الاشتباك الدائم مع الغرب لن يخفي أرقام الاقتصاد ووضع العملة وارتفاع معدل الفقر. وعلى المسؤولين الإيرانيين أن يتذكروا أن الثورة الصينية أنقذت على يد من صالحوها مع حقائق التقدم الاقتصادي وتحسين حياة الناس، وأن الاتحاد السوفياتي انهار بسبب الفشل الاقتصادي ورفض القراءة في مشاعر الناس. اتهام المحتجين في العراق ولبنان بتلقي الأموال والأوامر من السفارات لغة لا تحل مشكلة المتهِم ولا المتهَم.

شبان أبرياء بهواتف ذكية ومخيلات غنية وإرادات صافية يسقطون الجدران. من لا يستمع إليهم يقف في المعسكر الذي سيسمى عاجلاً أو آجلاً معسكر الخاسرين. لا يحق لإيران أن تكون الجدار الذي يمنع التغيير في العراق ولبنان.

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط