بعد عشرين عاماً من اللقاء بين زعيمي كلٍ من اليابان وكوريا الشمالية الراحلين، رئيس الوزراء الياباني الأسبق جونيشيرو كويزومي، والزعيم الكوري الشمالي السابق كيم جونغ إيل، في بيونغ يانغ، في عام 2004، تتجدد التكهنات بإمكانية عقد قمة ثنائية بين زعيمي الدولتين خلال العام الجاري، في ظل إشارات متبادلة صدرت من الجانبين حول إمكانية انعقاد هذه القمة.
بدأ الأمر في خطاب رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، في 30 يناير الماضي، أمام البرلمان الياباني في دورته رقم 213؛ إذ قال: "ستعمل اليابان على إجراء مشاورات رفيعة المستوى، بهدف تحقيق محادثات على مستوى القمة مع الرئيس كيم جونغ أون". وأعاد كيشيدا، أمام لجنة الميزانية في البرلمان الياباني، في 9 فبراير 2024، تأكيد ما سبق بقوله: "يجب أن نتخذ خطوة جريئة لتغيير الوضع الراهن". وفي حديثه أمام البرلمان في 13 من الشهر ذاته، قال: "من المهم للغاية بالنسبة لي أن آخذ زمام المبادرة لبناء علاقات على أعلى مستوى مع بيونغ يانغ، وطوكيو لا ينبغي أن تضيع لحظة".
تصريحات كيشيدا، لاقت ترحيباً كبيراً في كوريا الشمالية؛ ففي بيان صدر يوم 15 فبراير الماضي، أشادت كيم يو جونغ، أخت الرئيس كيم جونغ أون، بتصريحات كيشيدا الإيجابية حول نيته بناء علاقات جيدة مع بيونغ يانغ، قائلة: "لا يوجد سبب يمنع بيونغ يانغ وطوكيو من الحفاظ على علاقات وثيقة". وعلى الرغم من أن كيم، أصرت على أن تعليقاتها تعكس فقط "وجهة نظرها الشخصية"، فإنه من الصعب أن تُصدِرَ تصريحات قد تتعارض مع آراء شقيقها، الذي أرسل في 5 يناير الماضي رسالة إلى رئيس الوزراء الياباني أعرب فيها عن "تعاطفه العميق وتعازيه" لكيشيدا ولأسر ضحايا الزلزال الذي ضرب الساحلي الغربي لليابان في ليلة رأس السنة الجديدة 2024، في رسالة تصالحية على نحو غير عادي نظراً لعدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية بين الدولتين.
الدوافع اليابانية:
يمكن القول إن تحول اليابان تجاه إمكانية تحسين العلاقات مع كوريا الشمالية يأتي في إطار حسابات وتطورات داخلية وإقليمية ودولية. فعلى المستوى الداخلي، ربما يمنح تحقيق تقدم ما في تسوية قضية اختطاف كوريا الشمالية لعدد من اليابانيين منذ أكثر من 40 سنة وتخفيف التوترات في الشرق الأقصى لـكيشيدا، نقاطاً سياسية يحتاج إليها، في ظل تراجع شعبيته مؤخراً إلى مستوى انخفاض قياسي بلغ 14% فقط، وتراجع شعبية حكومته إلى 25% فقط نظراً للمشكلات الاقتصادية ولفضيحة الفساد الخاصة بالحزب الحاكم، والتي تنطوي على اختلاس أموال تصل إلى عدة ملايين من الين، علاوة على توجيه تهم إلى عشرة سياسيين من الحزب الديمقراطي الليبرالي الذي يتزعمه كيشيدا. كذلك سوف يواجه الأخير معركة شاقة في محاولته إعادة انتخابه رئيساً للحزب؛ إذ يتفوق عليه المتنافسون الآخرون في استطلاعات الرأي، بمن فيهم: إيشيبا شيجيرو، وموتيجي توشيميتسو، وكونو تارو.
إقليمياً، وفي حال تحسين أو تطبيع العلاقات بين الدولتين، فإن اليابان يمكن أن تبدأ في تعويض كوريا الشمالية عن احتلالها في الفترة من عام 1910 إلى عام 1945، من خلال ضخ الاستثمارات في المقام الأول، ويمكن لليابان أن تساعد على استغلال الإمكانات الاقتصادية الكورية التي لم يتم استغلالها بَعْد. وعلاوة على ذلك، فإن تطبيع العلاقات مع كوريا الشمالية يمكن أن يجعل طوكيو أحد الفاعلين المشاركين في الجهود الدبلوماسية لحل الصراع في شبه الجزيرة الكورية، بما يعزز مكانة اليابان كقوة إقليمية، ولاسيما في ظل تصاعد التوتر مع الصين بشأن النزاع في بحر الصين الشرقي.
دولياً، فإن استقرار العلاقات في شرق آسيا وتقليل اختبارات الأسلحة والصواريخ البالستية في شبه الجزيرة الكورية، ربما يفيد إدارة بايدن قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية؛ فمؤخراً، صرحت نائبة المبعوث الخاص للإدارة الأمريكية إلى كوريا الشمالية، جونغ إتش باك، لوسائل الإعلام، بأنها تدعم جهود اليابان للتقرب من كوريا الشمالية، وذكرت أن "الاتصال رفيع المستوى بين طوكيو وبيونغ يانغ قد يكون مفيداً نظراً لنقص التواصل بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية في ضوء العلاقات الصراعية بين الكوريتين". وفي الوقت نفسه، يشعر الأمريكيون بالقلق إزاء التطور الحادث في برامج كوريا الشمالية البالستية والنووية، فضلاً عن بيع الأسلحة والمعدات العسكرية لروسيا، والتي تستخدمها في الحرب في أوكرانيا.
ولذلك، أشارت نائبة المتحدث باسم البنتاغون، سابرينا سينغ، في 20 فبراير الماضي، إلى أن "واشنطن سترحب بالمحادثات بين اليابان والشمال إذا أدت مشاركتها إلى الاستقرار في المنطقة". ومن الواضح أن إدارة بايدن مستعدة لترك المبادرة لليابانيين لفعل شيء ما بشأن كوريا الشمالية. ومن الممكن أن يستفيد الصينيون أيضاً من الحوار بين اليابان وكوريا الشمالية، الذي من شأنه أن يُظهِر أن النظام الذي يدعمونه ليس نظاماً غير عقلاني، وأن زعماء كوريا الشمالية على استعداد لإجراء محادثات من أجل السعي إلى تحقيق السلام في شمال شرق آسيا.
دوافع كوريا الشمالية:
يأتي الموقف اللافت لكوريا الشمالية التي رحبت بتصريحات رئيس الوزراء الياباني وبإمكانية عقد قمة بين الدولتين، مدفوعاً بعدة اعتبارات ومتغيرات مهمة، يأتي في مقدمتها مواجهة ضغوط التحالف الثلاثي (الولايات المتحدة، واليابان، وكوريا الجنوبية)؛ ففي أغسطس 2023، عُقدت قمة تاريخية ضمت الدول الثلاث في كامب ديفيد بهدف كبح جماح كوريا الشمالية والصين. وتسعى كوريا الجنوبية في عهد الرئيس المحافظ، يون سوك يول، إلى إقامة علاقات دبلوماسية وعسكرية أوثق مع اليابان.
ويتلخص هدف الرئيس الكوري الشمالي، كيم، في إبطاء عملية إنشاء اتفاق مناهض لبلاده، والعمل على الحد من تفعيل التعاون العسكري بين الدول الثلاث، وهو ما يمثل تهديداً ملموساً لنظامه. وعلى الرغم من عدم وجود توترات واضحة حالياً بين الدول الثلاث، فإن التعاون بينها يبقى حساساً للغاية بسبب التاريخ العدائي بين اليابان وكوريا الجنوبية من جانب، واحتمالات تغير التوجهات السياسية الأمريكية بعد انتخابات 2024 من جانب آخر.
أيضاً، تستعد كوريا الشمالية ربما لعودة دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة، وربما تتطلع إلى استئناف المفاوضات مع الأمريكيين مجدداً، منذ لقاء الجانبين في قمة هانوي في عام 2018، وهنا يساعد التقارب مع اليابان على تعزيز التفاوض الكوري الشمالي الأمريكي. وعلى الرغم من أن اليابان لا تتمتع بالنفوذ اللازم لتعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، فإنها تظل قادرة على تعطيل المفاوضات بين الدولتين.
من جانب آخر، تدرك بيونغ يانغ أن التعاون مع اليابان يمكن أن يساعد بشكل أو بآخر الاقتصاد الكوري الشمالي المتعثر، وقد يكون هذا التعاون مع اليابان أحد مداخل تخفيف العقوبات الاقتصادية؛ إذ يتعين على بيونغ يانغ أن تتعامل مع المشكلات الاقتصادية الناجمة عن العزلة الدولية والعقوبات المفروضة عليها بسبب البرنامج النووي والتجارب الصاروخية، ويتعين على نظام الرئيس كيم، أن يقلل من سخط المواطنين بسبب الاقتصاد وظروف المعيشة ولا يعتمد فقط في حفظ نظامه على قوة أجهزة الاستخبارات والأمن.
وثمة سبب رابع ربما يشجع كويا الشمالية على التقارب مع اليابان، ففي 14 فبراير الماضي، أعلنت كوريا الجنوبية وكوبا، لأول مرة، عن إقامة علاقات دبلوماسية بينهما، ومن المعلوم أن كوبا من أبرز حلفاء كوريا الشمالية وشريك مهم لها؛ إذ ترتبط الدولتان تاريخياً بالأيديولوجية الماركسية وبمعاداة الولايات المتحدة، ومن المؤكد أن العلاقات بين سيول وهافانا ليست أمراً جيداً بالنسبة لبيونغ يانغ؛ ولهذا فإن تحسن العلاقات الكورية الشمالية مع اليابان، وربما إقامة علاقات دبلوماسية معها، قد يبدو رداً على تدشين العلاقات الدبلوماسية بين كوريا الجنوبية وكوبا، وإظهار كوريا الشمالية للمجتمع الدولي أنه يمكنها أن تعمل أيضاً مع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.
عقبات المصالحة بين اليابان وكوريا الشمالية:
من المؤكد أن طوكيو وبيونغ يانغ سوف تواجهان صعوبة في إيجاد طريقة لتطبيع العلاقات بينهما، فمن ناحية، تشكل قضية "الاختطاف" القضية الأساسية التي أثقلت العلاقات بين الدولتين منذ نحو نصف قرن. وقد وقعت عمليات الاختطاف بين سنوات 1977 و1983، كجزء من جهود النظام الكوري الشمالي لتدريب الجواسيس على معرفة اللغة والثقافة اليابانية. ويزعم اليابانيون أن 17 عملية اختطاف قد حدثت، بينما يعترف الكوريون الشماليون بـ 13 عملية اختطاف فقط. وفي حين تقول كوريا الشمالية إنها أعادت جميع المختطفين الذين ما زالوا على قيد الحياة إلى اليابان بين أعوام 2002 و2004، لكن لا تزال طوكيو تعتقد أن بعض اليابانيين المختطفين ما زالوا على قيد الحياة وأن نظام كيم يستخدمهم لأغراضه الخاصة.
وتُظهر استطلاعات الرأي العام باستمرار أن قضية الاختطاف تمثل أولوية قصوى بالنسبة للناخبين اليابانيين؛ إذ يرتدي كل سياسي ياباني محافظ تقريباً شارات زرقاء كل يوم للتعبير عن اعتقاده بأن قضية المختطفين مهمة للغاية ولم يتم التعامل معها بشكل كافٍ.
ومن ناحية أخرى، ترى اليابان الجهود المستمرة التي تبذلها كوريا الشمالية لتعزيز قدراتها النووية بمثابة تهديد أمني. وإلى جانب تعهُد كيشيدا بتعزيز القدرات العسكرية لبلاده كما ورد في وثائق الأمن القومي، تسعى طوكيو إلى معالجة التهديدات الصاروخية لكوريا الشمالية وتطويرها النووي، لكن نفوذ اليابان على تطوير الأسلحة النووية والصواريخ البالستية لبيونغ يانغ محدود، لأن الجهات الفاعلة الرئيسية هي: الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.
ومن ناحية ثالثة، قد لا ترحب كوريا الجنوبية بفرص تحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الشمالية، فمن الممكن أن تتعرض حكومة الرئيس الكوري الجنوبي يون، لضربة قوية؛ لأن ذلك من شأنه أن يظهر أن الحكومة اليابانية أكثر قدرة على تهدئة الوضع وإيجاد حوار مع الشمال من كوريا الجنوبية، بل وقد يثير التقارب الياباني مع كوريا الشمالية حساسية كوريا الجنوبية التي قد ترى أن ذلك يضعف نفوذها في المنطقة.
إجمالاً، يمكن القول إنه على الرغم من استمرار مشكلات الاختطاف، والبرامج النووية والبالستية لكوريا الشمالية، كعائق رئيسي في حدوث تقارب أو مصالحة بين طوكيو وبيونغ يانغ، فإنه ليس مستبعداً أن تنعقد قمة بين اليابان وكوريا الشمالية فعلياً؛ إذ سوف يستفيد كلٌ من كيشيدا وكيم، من مثل هذه القمة حتى لو لم يتم الاتفاق على أي شيء حاسم، فالقمة ستعطي تأكيداً قوياً للزعيمين أنهما فاعلان مهمان في النظام الإقليمي والعالمي، وربما تساعد مثل هذه القمة كيشيدا، على تعزيز شعبيته نسبياً في الداخل إذا تمت تسوية قضية الاختطاف، بينما قد تتيح للكوريين الشماليين فرصة لإيجاد وسيلة لتخفيف العقوبات الاقتصادية الدولية والحد من اندفاعة التحالف الثلاثي، الأمريكي الياباني الكوري الجنوبي، المُوجَّه في جزءٍ منه إلى تحجيم كوريا الشمالية، سياسياً وعسكرياً.