فرضت جماعة الحوثي نفسها كمصدر تهديد رئيسي لحرية الملاحة في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن ومضيق باب المندب منذ 19 نوفمبر 2023، على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أعقاب ما يُعرف باسم عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي؛ إذ انخرطت الجماعة في الصراع من خلال استهداف السفن المتجهة إلى إسرائيل، قبل أن توسع هجماتها لتشمل السفن الأمريكية والبريطانية بعد إعلان الدولتين عن تحالف "حارس الازدهار" لردع الحوثي عن تهديد حرية الملاحة. وعلى الرغم من أن الجماعة رفعت شعار "نُصرة غزة والدفاع عنها" ضمن إطار ما تُطلق عليه المليشيات الإيرانية في المنطقة مبدأ "وحدة الساحات"، فإن المتضرر الأكبر من تهديداتها لحرية الملاحة كان دول المنطقة، وخاصةً المطلة على البحر الأحمر.
ومع تهديد الجماعة الحوثية بتوسيع الهجمات البحرية إلى المحيط الهندي، في مستهل الشهر الخامس من المواجهة في البحر الأحمر وخليج عدن، والكشف في منتصف مارس 2024 عن انعقاد اجتماع في بيروت بين حركة حماس والحوثيين للتنسيق ضد إسرائيل، يبدو مستوى التهديد الحوثي مرشحاً لمزيد من التصعيد "المحسوب"، وهو ما يسعى هذا المقال إلى توضيحه في ضوء التطورات الأخيرة.
التهديد الحوثي للملاحة:
منذ 19 نوفمبر 2023، توالت إعلانات الحوثيين عن استهداف مواقع في إسرائيل ومُسيّرات أمريكية، وسفن تجارية، وصل عددها، بحسب بيانات الحوثي نفسه، إلى 75 سفينة منذ بدء هذه الهجمات. وأُصيبت 16 سفينة على الأقل خلال الهجمات الحوثية، إلى جانب قرصنة "غالاكسي ليدر" واحتجاز طاقمها حتى الآن، كما تسببت إحدى الهجمات، في 18 فبراير الماضي، في غرق السفينة البريطانية "روبيمار" في البحر الأحمر. علاوة على تسبب هجوم صاروخي حوثي، في 6 مارس الجاري، في مقتل ثلاثة بحّارة، وإصابة أربعة آخرين، بعد أن استهدف سفينة شحن ليبيرية.
ولم يحُل إعلان الولايات المتحدة، في 19 ديسمبر 2023، عن تشكيل تحالف دولي متعدد الجنسيات باسم "حارس الازدهار" لحماية التجارة في المنطقة، دون مواصلة الجماعة الموالية لإيران هجماتها التي وعدت بتوسيع نطاقها.
وعلى الرغم من أن الهجمات الحوثية كانت تستهدف من البداية ردع إسرائيل وإجبارها على وقف حربها على غزة، فإنها لم تنجح في ذلك حتى الآن، في المقابل كان التأثير أكبر في المصالح الاقتصادية لدول المنطقة، وعلى حركة الملاحة الدولية عبر البحر الأحمر؛ إذ تشير بيانات التجارة العالمية إلى أنه يمرّ من خلال البحر الأحمر سنوياً بضائع وسلع تُقدر بنحو 2.5 تريليون دولار؛ ما يمثل 13% من التجارة العالمية، ونحو 30% من حركة الحاويات العالمية. وتوضح بعض التقديرات تراجع التجارة العالمية بنسبة 1.3% في الفترة من نوفمبر إلى ديسمبر 2023، نتيجة هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر، وتراجع كميات الشحن المنقولة عبر هذه المنطقة الحيوية.
ودفعت هذه الاضطرابات في المنطقة شركات الشحن إلى إعادة توجيه سفنها بعيداً عن قناة السويس التي تشهد مرور 15% من حجم التجارة البحرية العالمية، وهو ما يؤثر في اقتصادات العديد من الدول؛ إذ يترتب على ذلك ارتفاع تكاليف الشحن وإطالة أمد تسليم المنتجات؛ ما يزيد المخاوف من أزمة في سلاسل الإمداد مشابهة لما حدث عقب انتشار وباء "كورونا".
دلالات التصعيد الحوثي:
بعد تهديد زعيم الجماعة الحوثية، عبدالملك الحوثي، بأن عمليات أنصاره ضد السفن ستمتد نحو المحيط الهندي؛ أعلن الحوثيون، في بيان يوم 15 مارس الجاري، أنهم نفذوا ثلاث عمليات ضد ثلاث سفن إسرائيلية وأمريكية في المحيط الهندي بعدد من الصواريخ البحرية والطائرات المُسيّرة. وبشكل عام، تنطوي تهديدات الجماعة الحوثية بتوسيع هجماتها إلى المحيط الهندي لمنع الملاحة عبر رأس الرجاء الصالح، على مجموعة من الدلالات المهمة، من بينها الآتي:
1- لا تخرج التهديدات الحوثية الأخيرة عن سياسة "عض الأصابع" ومحاولة زيادة الضغط وإثبات القدرة عبر إحداث تأثير أكبر في حركة التجارة العالمية، وبالتالي مزيد من الضغوط على الدول المناوئة للجماعة وعلى دول تحالف "حارس الازدهار" لوقف هجماتها ضد الحوثيين، وربما الدفع في اتجاه زيادة الضغوط على إسرائيل لمنعها من تنفيذ الهجوم المحتمل على رفح جنوب قطاع غزة.
2- ربما لا تملك جماعة الحوثي الأسلحة والأدوات التي تساعدها على تهديد حركة الملاحة في المحيط الهندي بنفس مستوى التهديد الذي تشكل في مضيق باب المندب وجنوب البحر الأحمر، وهو ما يقلل من أهمية هذا التهديد. لكن إذا اتضح أنها تملك بالفعل الأسلحة والأدوات التي تساعدها على فرض تهديد كبير، فإن التأثير سيكون أخطر وأكبر على حركة التجارة الدولية. ففي هذه الحالة، ستكون طرق التجارة البديلة للبحر الأحمر هي الأخرى مهددة، ما سيكون له تأثير أكبر في سلاسل الإمداد والتوريد، ولاسيما للسلع الغذائية عبر العالم.
3- في حال نفذت جماعة الحوثي تهديداتها بمزيد من استهداف حركة التجارة في المحيط الهندي، فإنها ستخاطر بتوسيع دائرة الدول التي يمكن أن تدخل معها في حالة عداء وربما صراع، ولاسيما أن هناك عدداً أكبر من الدول المعنية بتأمين الملاحة في هذه المنطقة مثل الهند التي تعزز وجودها الأمني والعسكري في المحيط الهندي، وهذا سيؤدي بدوره إلى ممارسة ضغوط أكبر على إيران الداعمة للجماعة الحوثية بما قد يدفعها للضغط عليها لوقف هجماتها، ولاسيما إذا تضررت التجارة البحرية لتلك الدول.
اجتماع بيروت:
يشكل الاجتماع الذي تم الكشف عنه في منتصف مارس 2024 بين قيادات من حركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجماعة الحوثيين اليمنية في العاصمة اللبنانية بيروت لمناقشة ما يُسمى "آليات تنسيق أعمال المقاومة" ضد إسرائيل، تطوراً مهماً في سياق ما يُعرف باسم سياسة "وحدة الساحات" التي تراهن عليها حركة حماس في مواجهتها مع إسرائيل. وهذا المصطلح يُستخدم للإشارة إلى الجماعات والقوى التي تصف نفسها بـ"المقاومة"، وتشمل طيفاً واسعاً من الجماعات والمليشيات غير الخاضعة لسلطة الدول التي توجد فيها مثل: حزب الله اللبناني، والحشد الشعبي وعصائب أهل الحق في العراق، والحوثيين في اليمن، والتي تقوم جميعها بشن حروب بالوكالة عن إيران.
لكن مبدأ أو سياسة "وحدة الساحات" الذي راهنت عليه حماس أثبت أنه "مجرد أوهام"، فمنذ انطلاق حرب غزة، كان انخراط الساحات الأخرى في هذا الصراع "في حده الأدنى"، فحزب الله اللبناني تبنى سياسة توجيه الضربات العسكرية "المحسوبة" مع تجنب أية تحركات يمكن أن يترتب عليها الدخول في حرب شاملة مع إسرائيل. ونفذت الفصائل العراقية المختلفة عدداً من الضربات التي لم تكن مؤثرة بأي شكل من الأشكال في مسار "الحرب اللاإنسانية" في غزة، وعندما وصلت إلى مستوى يهدد بتوتر حقيقي بين إيران والولايات المتحدة بعد الهجمات التي استهدفت قاعدة عسكرية أمريكية في الأردن أسفرت عن مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وإصابة أكثر من 30 آخرين، وتبناها فصيل "كتائب حزب الله" العراقي، سارعت إيران للضغط على الجماعات العراقية وطالبتها بوقف هجماتها؛ ما دفع هذه الجماعة بالفعل إلى تعليق عملياتها. كما أن طهران نفسها أعلنت تبرؤها من هذه الهجمات، وأكدت أن المسلحين الذين يشنون هجمات في المنطقة لا يأخذون أوامر منها.
أما جماعة الحوثي فقد استمرت بوصفها الورقة الأنجح في يد إيران في "لعبة المصالح" التي ربما فرضتها حرب غزة، وهي الجبهة الأنسب ليس فقط في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، ولكن أيضاً لأن هجماتها وعملياتها العسكرية المهددة لحرية الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن وربما المحيط الهندي قد تضر أيضاً منافسي طهران. ويشير اجتماع بيروت الأخير بين الحوثيين والجماعات الفلسطينية إلى أن هذه الجبهة ستكون الأنشط في العمل بالوكالة نيابةً عن طهران في هذا الوقت.
لكن النتائج التي أسفر عنها هذا الاجتماع ربما لن تخدم القضية الفلسطينية ولا حتى حماس، بل قد تشكل ضغطاً إضافياً عليها؛ لأن الاجتماع أثار من جديد حالة الاستقطاب السياسي داخل لبنان، والحديث عن حدود سلطات الدولة اللبنانية، كما أن تصعيد الهجمات الحوثية أو حتى التهديد بذلك قد لا يمنع إسرائيل من مواصلة حربها على غزة، بما في ذلك احتمال اقتحام رفح. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوقف هذا التصعيد ويؤدي إلى التوصل إلى تسوية سلمية تضع حداً للحرب ومآسيها الإنسانية؛ هو الجهود التي تبذلها دول المنطقة وعلى رأسها دول الخليج ومصر والضغوط التي تمارسها على الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية، وهي الجهود التي بدأت تؤتي ثمارها من خلال حملات المساعدات الإنسانية المستمرة التي يتم إيصالها للفلسطينيين في غزة عبر البر والبحر والجو، ومن خلال إقناع الإدارة الأمريكية بتغيير موقفها الداعم للحرب الإسرائيلية، ولاسيما في ملف اقتحام رفح، وهو ما ظهر في تبني مجلس الأمن الدولي يوم 25 مارس الجاري للمرة الأولى، وبتأييد 14 عضواً، قراراً يدعو لوقف فوري لإطلاق النار في غزة بعد مرور أكثر من خمسة أشهر على الحرب؛ إذ أحجمت الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض "الفيتو" هذه المرة.
ختاماً، إن منطق الدول والحكومات والسياسات العقلانية هو الذي يقود إلى حلول عملية تخدم شعوب المنطقة وليس منطق المليشيات؛ هذه هي خلاصة الدروس المستفادة من الصراعات التي شهدتها المنطقة وآخرها حرب غزة.