أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

رسائل لواشنطن:

تأكيد الصين على إقامة نظام دولي جديد أثناء زيارة شي إلى موسكو

30 مارس، 2023


قام الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بزيارة رسمية لموسكو في 20 مارس 2023، واجتمع بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهي الزيارة التي استمرت ثلاثة أيام، وصاحبتها انتقادات غربية حادة، إذ عدها الغرب دعماً صريحاً للرئيس بوتين. وانتهت الزيارة بتوقيع عدد من الاتفاقيات، أكد من خلالها الطرفان نيتهما تعزيز العلاقات الثنائية بينهما.

أبرز التفاهمات بين الجانبين

يلاحظ أن روسيا والصين وقعتا حوالي 14 اتفاقية تعاون بين الجانبين في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية، وتتمثل أبرز مجالات التعاون في التالي: 

1- بلورة رؤية أمنية مشتركة: اتجهت روسيا والصين إلى توقيع اتفاقية "الإعلان المشترك عن تعميق الشراكة الاستراتيجية الشاملة والتعاون الاستراتيجي"، والتي تقوم على رفض عقلية الأحلاف العسكرية، التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما وضح في تأكيد البلدين أن العلاقات بين موسكو وبكين ليست موجهة ضد أحد ولا تمثل حلفاً عسكرياً مماثلاً لموجة التحالفات العسكرية التي انتشرت خلال الحرب الباردة، وذلك في انتقاد للجهود الأمريكية الساعية إلى بناء تحالفات عسكرية لتطويق الدولتين، وهو ما وضح في تأكيد الطرفين خطورة استمرار الشراكة والتحالف العسكري بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وما سينتج عن ذلك من عسكرة لمنطقة آسيا وجنوب الهادئ في إشارة لتحالف "أوكوس"، خاصة مع إشارة الوثيقة صراحة لاتفاقية حصول أستراليا على عدد من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية من الولايات المتحدة.

ومن جهة أخرى، طالب البلدان الولايات المتحدة بتقديم كل الوثائق الخاصة بنشاطاتها في مجال الأسلحة البيولوجية، وكذا الأسلحة الكيميائية لكونها الدولة الوحيدة الموقعة على اتفاقية عدم نشر الأسلحة الكيميائية التي لم تقم بتدمير مخزونها، كما أكدت الوثيقة أيضاً دعوة الولايات المتحدة للتوقف عن وضع قواعد لأسلحة طويلة ومتوسطة المدى في مناطق أوروبا والمحيط الهادئ. 

وتهدف موسكو وبكين من هذه المواقف إلى تأكيد أن الولايات المتحدة تقوم بتقويض أسس معاهدة حظر الانتشار النووي، عبر إمداد أستراليا بغواصات نووية، فضلاً عن تأكيد أن الأسلحة الأمريكية البيولوجية تمثل تهديداً للأمن الروسي، خاصة مع اتهام موسكو لواشنطن بتطوير أسلحة بيولوجية في أوكرانيا. 

وبالإضافة إلى ما سبق، أكدت الوثيقة رفض روسيا أي انفصال أو استقلال لتايوان عن الصين الشعبية في رسالة صريحة إلى واشنطن بأن روسيا والصين تشتركان في رفض المساعي الأمريكية لفصل تايوان عن الصين.

2- تعزيز التعاون الاقتصادي: أثمرت القمة عن عدد من الاتفاقيات الاقتصادية، ومن أهمها الاتفاق على بناء خط جديد للغاز، وهو "قوة سيبيريا 2" الذي سيمتد بطول 2600 كم، لضخ 50 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي للصين عبر منغوليا، كما اتفق الجانبان على تعزيز التعاون في مجال الطاقة لتشمل الطاقة النووية والنظيفة. وتهدف روسيا من خلال ذلك إلى تأكيد وجود مشترين للغاز الروسي بديلاً عن الدول الأوروبية، وهو ما يعني أن العقوبات الغربية بوقف شراء الطاقة الروسية سوف تكون محدودة التأثير مستقبلاً. 

 كما أعلن الجانبان عن خطة مشتركة لتطوير المجالات الرئيسة للتعاون الاقتصادي حتى عام 2030، أكدت زيادة حجم التبادل التجاري وكذلك استغلال التكنولوجيات الحديثة مثل التجارة الإلكترونية، وتنسيق العمل فيما يخص استثمارات اللوجستيات والبنى التحتية لنقل البضائع والبشر، كما أشارت الوثيقة إلى تنسيق العمل المالي، وخصوصاً تعميق جهود التبادل التجاري بالعملات المحلية.

تحولات استراتيجية مهمة 

حملت زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو عدداً من الدلالات، يمكن توضيح أهمها في النقاط التالية:

1- رفض الأحادية القطبية الأمريكية: يلاحظ أن أحد أهداف القمة هو تأكيد بلورة رؤية صينية روسية للنظام العالمي الجديد، الذي يطمح البلدان إلى إقامته، ويقوم على تحوّل النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب، وهو ما وضح في ختام زيارة شي إلى موسكو، إذ قال موجهاً خطابه لبوتين: "الآن هناك تغييرات لم نشهدها منذ 100 عام. عندما نكون معاً، نقود هذه التغييرات"، ليرد بوتين قائلاً: "أوافق"، وهو ما يكشف عن تأكيد الدولتين تعاونهما معاً للرد على الجهود التي تبذلها واشنطن لإدامة هيمنتها على النظام الدولي عبر بناء تحالفات دولية تستهدفهما. 

2- إحباط جهود عزل موسكو: تتمتع الزيارة برمزية كبيرة، لكونها دليلاً على إخفاق الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً، في عزل روسيا دولياً، خاصة بعد استصدار الدول الغربية قراراً من المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة بوتين بدعوى ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، إذ ما زالت ثاني أقوى الاقتصادات العالمية، وصاحبة ثاني أكبر إنفاق عسكري عالمي، وثالث قوة عسكرية في العالم مهتمة بالحفاظ على علاقاتها مع روسيا. 

كما أن فتح الصين أسواقها للمنتجات الروسية المختلفة دليل على عدم اكتراثها بالتهديدات التي أطلقتها واشنطن في الأيام الأولى من الحرب، والتي حذرت فيها الصين من إقامة علاقات اقتصادية مع روسيا تعوضها عن علاقاتها مع الدول الغربية؛ وهو ما أضعف عملياً فعالية العقوبات الاقتصادية الغربية غير المتوافق عليها دولياً، إذ ترى موسكو وبكين أن العقوبات خارج الشرعية الدولية، أي تلك التي تصدر خارج مجلس الأمن، غير ملزمة للمجتمع الدولي، وبالتالي فإن بكين غير ملزمة بها. 

ومن جهة أخرى، علّق المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية على قرار المحكمة الجنائية الدولية، مطالباً إياها بتجنب ازدواجية المعايير وتسييس المحكمة، فضلاً عن احترام الحصانة التي يتمتع بها رؤساء الدول.

3- حفاظ بكين على حيادها: على الرغم من الاتهامات الموجهة للصين بدعم موسكو عسكرياً، وهي الاتهامات التي لم يتم إثباتها، حتى الآن، فإن بكين سعت لتأكيد حيادها، وهو ما اتضح في عدد من المواقف أبرزها عدم توقيع أي اتفاقيات ذات طبيعة عسكرية مع روسيا، بالإضافة إلى عدم تعقيب شي على تهديد الرئيس الروسي بالرد بالمثل على إرسال لندن قذائف للدبابات "شالنجر" تحتوي على يورانيوم منضب إلى أوكرانيا.  

ومن جهة أخرى، لم تعترف بكين بقيام روسيا بضم القرم، أو الأقاليم الأوكرانية الأربعة الأخرى في سبتمبر الماضي. وفي نفس الوقت، لم تقم الصين بالتنديد بالعملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، بل وترى بكين أن واشنطن هي المتسببة في هذه الأزمة، وذلك من خلال عدم مراعاتها الهواجس الأمنية الروسية، عبر الإصرار على فتح الباب أمام انضمام أوكرانيا إلى حلف "الناتو". 

وتسعى بكين لاستثمار موقفها الحيادي لتكون قادرة على أداء دور "صانع السلام" بين روسيا وأوكرانيا، وذلك عبر مبادرة السلام التي طرحتها، وهي المبادرة التي لا تحظى بتأييد الكرملين، وتكتفي موسكو بتأكيد أن أوكرانيا والولايات المتحدة ترفضانها. 

4- تأكيد الصداقة "غير المحدودة": نشر الرئيس بوتين مقالة في أهم الصحف الصينية "يومية الشعب" بمناسبة زيارة الرئيس الصيني لموسكو، وأكد فيها أن بلاده تهتم بالصداقة غير المحدودة مع جمهورية الصين الشعبية، مثمناً "صداقته" بالرئيس الصيني الذي التقى به 40 مرة في مناسبات عديدة، وأكد بوتين ضرورة تنسيق العمل مع بكين لأنهما يضربان مثالاً يحتذى به في علاقات الدول العظمى بعضها ببعض، منتقداً بذلك أساليب الولايات المتحدة "السلطوية" المنفرة. 

وأرجع بوتين التنسيق مع بكين إلى المصالح الاقتصادية المشتركة النابعة من وصول حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 185 مليار دولار في 2022، والذي يتوقع أن يصل إلى حوالي 200 مليار دولار عام 2024، بالإضافة إلى الاستمرار في تبني سياسات اقتصادية تسمح باستمرار التبادل التجاري بالعملات المحلية. 

أما جيوسياسياً، فقد أكد بوتين أن الغرب يرى روسيا "الخطر الذي يحب مواجهته بشكل طارئ"، في حين ينظر الغرب للصين باعتبارها "الخطر الأكبر"، ما يؤكد من وجهة نظره عدم استعداد الغرب للتواصل مع الصين وروسيا لضمان عالم أكثر أمناً مبني على التوافق وتجنب الصدام بين الدول العظمى. ولفت بوتين الانتباه إلى التعاون بين بكين وموسكو عبر منظمة شنغهاي للتعاون و"البريكس"، باعتبارهما بمثابة لبنات أولى لبناء نظام اقتصادي وسياسي عالمي موازٍ للنظام الغربي، ويؤكد جدية سعي البلدان في بناء نظام دولي متعدد الأقطاب بعيد عن هيمنة ما يسميه بوتين في كل خطاباته "المليار الذهبي"، أي الغرب. 

ردود أمريكية مقابلة

تبلورت ردود فعل واشنطن على زيارة شي إلى موسكو في الموقفين التاليين: 

1- رفض أمريكي لمبادرة الصين: أعلنت الولايات المتحدة رفضها لخطة السلام الصينية، فقد انتقدت واشنطن خطة الصين بشدة معتبرة أن الهدنة في هذه المرحلة ستعني رمزياً الاعتراف بالغزو الروسي واحتلال الأراضي الأوكرانية، غير أن جون كيربي، منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، عاد ليؤكد أن البيت الأبيض يريد من بكين الضغط على موسكو لسحب قواتها من أوكرانيا، حتى لا تكون المبادرة مجرد "محاولة لوقف تكتيكي للمعارك"، وذلك في محاولة لإدانة الصين دبلوماسياً، خاصة وأن الأخيرة لن تستطيع إقناع بوتين بالانسحاب من أراضٍ بات يعدها جزءاً من التراب الوطني لبلاده.

ويلاحظ أن هناك انقساماً داخل المجموعة الغربية فيما يخص مقترح السلام الصيني؛ حيث أعلن رئيس وزراء إسبانيا، بيدرو سانشيز، أهمية التواصل مع الصين وأخذ مقترحها للسلام على محمل الجد، كما أعلن عن نيته السفر لبكين لمناقشتها بالتفصيل مع الرئيس الصيني، وهو أمر له أهميته نظراً لرئاسة إسبانيا للاتحاد الأوروبي خلال النصف الثاني من 2023.

2- رسائل يابانية من واشنطن لبكين: زار رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، في 21 مارس 2023، كييف، والتقى الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وذلك في زيارة مفاجئة لم يتم الإعلان عنها مسبقاً. وأكدت وزارة الخارجية اليابانية أن كيشيدا سينقل إلى الرئيس زيلينسكي احترامه لشجاعة ومثابرة الشعب الأوكراني، كما سيعبّر عن التضامن والدعم المستمرّ لأوكرانيا من جانب اليابان ومجموعة الدول السبع. وبدا من الواضح من الزيارة المفاجئة إلى كييف أن واشنطن تسعى لإدخال اليابان كقوة مؤثرة في التفاعلات الدولية، وكثقل مضاد للدور الصيني. 

وفي الختام، يمكن القول إن بكين هدفت من الزيارة إلى تأكيد عزمها الحفاظ على علاقاتها بموسكو على الرغم من الاعتراضات الأمريكية، وأن الصين ماضية في تأسيس نظام دولي متعدد الأقطاب بالتعاون مع روسيا، وهو ما تسعى واشنطن لمواجهته عبر إدخال اليابان كثقل موازن للصين في التفاعلات الروسية الأطلسية، وهو ما يؤشر على أن واشنطن ماضية قدماً في تصعيد صراعها مع الصين وروسيا خلال الفترة المقبلة.