مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
كان العام الأول للرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" عاصفًا ومليئًا بالتحديات والقرارات المفاجئة والصراع بين أقطاب إدارته. فقد شهدت هذه الإدارة قبل مرور أول شهر لها استقالة مستشار الأمن القومي "مايكل فلين" على خلفية انتهاكه القانون الأمريكي لتواصله مع روسيا، ثم تبعتها استقالات عدد من المقربين لـ"ترامب" من البيت الأبيض، أهمهم: "ستيف بانون" كبير مستشاري الرئيس للشئون الاستراتيجية، و"رينس بريبوس" كبير موظفي البيت الأبيض، و"شون سبايسر" المتحدث باسم البيت الأبيض. كما أقال الرئيس الأمريكي مدير الاتصالات بالبيت الأبيض "أنتوني سكاراموتشي" بعد عشرة أيام فقط من توليه المنصب.
وشهد هذا العام صراعًا بين الرئيس ووزير الخارجية "ريكس تيلرسون" ووزير الدفاع "جيمس ماتيس"، حول كثير من قراراته، وكان من أهمها ما يتعلق باعتراف "ترامب" في السادس من ديسمبر الماضي بأن مدينة القدس عاصمة للدولة الإسرائيلية، مع توجيه وزارة الخارجية لنقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس. وقد تجلّى هذا الاختلاف في معارضة الرئيس -خلال تغريدات له - نهجَ "تيلرسون" الدبلوماسي مع كوريا الشمالية. فضلًا عن استمرار شغور عدد من المناصب الهامة بالوزارتين لعدم موافقة "ترامب" على تسمية الوزيرين لتلك المناصب، وكذلك رفض "تيلرسون" و"ماتيس" تسمية الرئيس لها.
وعلى الرغم من سعي الرئيس إلى الخروج على تقاليد السياسة الخارجية منذ عقود؛ فإن المؤسسات الأمريكية لعبت دورًا رئيسيًّا خلال هذا العام في كبح جماح "ترامب" لاتخاذ سياسات من شأنها الإضرار بالأمن القومي والمصلحة الأمريكية لعدم خبرته بالعملية السياسية، لكونه جاء من خارجها، وقد ظهر ذلك جليًّا في استراتيجية الأمن القومي لعام 2017 التي جاءت متسقةً في كثيرٍ منها مع السياسة الأمريكية التقليدية، ومعارِضة لبعض التوجُّهات التي أعلنها الرئيس خلال حملته الانتخابية خلال عام ٢٠١٦.
وقد مثّلت تصريحات "ترامب" خلال عامه الأول بالبيت الأبيض والسياسات التي اتّخذها، تحديًا للنظام الدولي يفوق التحدي الذي تمثّله القوى العدوانية التعديلية (الصين وروسيا)، حيث يعارض الرئيس الأُسس التي يرتكز عليها النظام الدولي (مثل: التجارة، والتحالفات، والقانون الدولي، وحقوق الانسان)، وهو الأمر الذي من شأنه إنهاء الدور الأمريكي كحامٍ للنظام الدولي الليبرالي. فقد حملت تصريحاته قطيعة مع السياسة الأمريكية التقليدية المتبعة لمدة سبعة عقود، كالالتزام الأمريكي بالأمن الأوروبي، والدور الأمريكي الفاعل في منظمة حلف شمال الأطلنطي (الناتو) والمنظمات الدولية. وخلال عامه الأول أيّد أفكار اليمين الأوروبي التي تدعو إلى إنهاء المشروع الوحدوي.
وداخليًّا، أخفق الرئيس في رأب الصدع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وبين أعضاء حزبه الرافضين لكثيرٍ من سياسته، حيث فشل "ترامب" في إلغاء نظام الرعاية الصحية الذي مرره الرئيس السابق "باراك أوباما" بجانب كثير من تعهداته الانتخابية، لتنخفض معدلات قبوله بين الأمريكيين إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ السياسي الأمريكي، وهو الأمر الذي دفع كثيرًا من أعضاء الحزب الجمهوري إلى التبرؤ من تصريحاته وتصرفاته مع قرب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر القادم.
وفي حال خسارة الحزب الجمهوري الأغلبية في الكونجرس الأمريكي بمجلسيه (مجلس النواب والشيوخ) فستتزايد فرص طرح الديمقراطيين فكرة عزل الرئيس، لا سيما مع اقتراب التحقيقات من "ترامب" وأفراد أسرته والمقربين منه بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أُجريت في الثامن من نوفمبر ٢٠١٦، واحتمالات التواطؤ بين حملته الانتخابية وروسيا، وتأكيد أن إقالته لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالي "جيمس كومي" أعاقت تطبيق العدالة الأمريكية.
وخلال عامه الأول في البيت الأبيض، سعى "ترامب" إلى تنفيذ وعوده الانتخابية بشأن قضايا وأزمات منطقة الشرق الأوسط، والتي يأتي في مقدمتها: الاعتراف بأن مدينة القدس التاريخية عاصمة لإسرائيل، والعمل على إعادة إحياء الشركات والتحالفات الأمريكية بالمنطقة التي شهدت تصدعًا خلال إدارة الرئيس "أوباما" على خلفية التوجه تجاه آسيا، والاتفاق النووي الإيراني الذي عارضته الدول الحليفة للولايات المتحدة، مع عدم الموافقة على وفاء طهران بالتزاماتها المنصوص عليها في الاتفاق، وشنّ ضربات عسكرية ضد التنظيمات الإرهابية في اليمن وليبيا، بجانب الدور الأمريكي الفعّال في التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" الذي خسر مناطق نفوذه في سوريا والعراق.
بيد أن هذا التوجُّه لم يُعزِّز من الدور الأمريكي في التسويات السياسية للأزمات لتزايد انخراط وفاعلية أدوار القوى المناوئة للولايات المتحدة إقليميًّا ودوليًّا في تلك الأزمات، وتخطيطها لتسويات تخدم مصالحها بالأساس على حساب المصلحة الأمريكية، في وقت تنشغل فيه الإدارة بأزماتها الداخلية، وعدم تمكن الرئيس -حتى وقتنا هذا- من تثبيت مرشحيه للمناصب الرئيسية المسئولة عن صياغة سياسة أمريكية متماسكة تجاه أزمات المنطقة المتفجرة بوزارتي الدفاع والخارجية.
وعليه، يُناقش هذا الملف الذي يضم تحليلات نُشرت على الموقع الإلكتروني للمركز، وفي مجلة "اتجاهات الأحداث"؛ أهم القضايا التي أثارها "ترامب" خلال عامه الأول في البيت الأبيض، والتحديات التي واجهت الإدارة الأمريكية، وتداعياتها أمريكيًّا ودوليًّا.