أخبار المركز
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (تأملات حول فشل جهود السلام الفلسطينية الإسرائيلية)
  • محمد محمود السيد يكتب: (آليات التصعيد: خيارات إسرائيل إزاء معادلات الردع الجديدة مع إيران)
  • شريف هريدي يكتب: (الرد المنضبط: حسابات الهجمات الإيرانية "المباشرة" على إسرائيل)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (عام على حرب السودان.. ترابط المسارين الإنساني والسياسي)
  • د. أحمد أمل يكتب: (إرث فاغنر: هل قاد "التضليل المعلوماتي" النيجر للقطيعة مع واشنطن؟)

الاستقواء المتبادل:

إلى أين تتجه أزمة الرئاسات الثلاث في تونس؟

14 مارس، 2021


تكشف المتابعات المستمرة للمشهد التونسي خلال الشهور الماضية، وبصفة خاصة منذ تولي "هشام المشيشي" رئاسة الحكومة التونسية في سبتمبر الماضي، عن حالة متعمقة من المشاحنات المتبادلة والاحتكاك المستمر بين الرئاسات الثلاث في تونس، ممثلة في رئاسة الجمهورية التي يقودها الرئيس "قيس سعيد"، والذي يمكن اعتباره في معسكر منفرد، بينما يتحالف كل من "هشام المشيشي" رئيس الحكومة، وأخيرًا "راشد الغنوشي" رئيس مجلس نواب الشعب،  وفي ظل اشتعال حرب التصريحات بين ممثلي الرئاسات الثلاث، يمكن استعراض أهم أسباب وتطورات تلك الأزمة من خلال هذا التحليل. 

خلافات متصاعدة:

تصاعدت الشائعات أثناء فترة تشكيل حكومة "المشيشي" حول الخلاف بينه وبين الرئيس "قيس سعيد"، وارتفعت بناءً عليه احتمالية حدوث توترات بين الرئاسة والحكومة. حيث أكد بعض السياسيين التونسيين في ذلك الوقت، أنه على الرغم من أن الرئيس "قيس سعيد" هو من أتى بالمشيشي، إلا أنه قد تخلى عن دعمه له منذ ذلك الحين، وهنا أكد بعض المسؤولين من الأحزاب أن "سعيد" طلب منهم التصويت ضد حكومة "المشيشي"، والاستمرار بدلًا من ذلك في حكومة تصريف الأعمال.

ومن جانب آخر تكون تكتل ضد الرئيس "قيس سعيد"، فقد كشف رئيس حزب قلب تونس "نبيل القروى" في يوم مصادقة البرلمان التونسي على تشكيل حكومة "المشيشي" عن نوايا الائتلاف الحاكم سحب الثقة من عدد من الوزراء المفروضين على "المشيشي" من قبل الرئيس "قيس سعيد"، وهو ما يؤكد وجود النية المبيتة من قبل كل من حزب حركة النهضة ذي المرجعية الإسلامية، وحليفه "قلب تونس" الليبرالي على التحالف معًا في مواجهة الرئيس "سعيد"، الأمر الذي حدث بالفعل، ففي الخامس من أكتوبر 2020، أقال "المشيشي" وزير الثقافة "وليد الزيدي" المحسوب على "قيس سعيد".

وبعد شهر واحد فقط من أدائه اليمين الدستورية، وذلك بسبب رفضه تطبيق الإجراءات المتعلقة بكورونا على القطاع الثقافي. أعقبه أيضًا إقالة أخرى في ديسمبر 2020 لوزير البيئة إثر الكشف عن ملف وصول شحنات من النفايات المنزلية من إيطاليا بدون ترخيص.

ومع بداية عام 2021، تعقدت الأزمة بوتيرة أكبر مع إقالة "المشيشي" لوزير الداخلية "توفيق شرف الدين" المقرب من رئيس الجمهورية "قيس سعيد"، وإسناد حقيبة الداخلية لنفسه في سابقة بتاريخ الحكومات المتعاقبة بتونس. وعلى الرغم من أن بيان رئاسة الحكومة للإقالة كان مقتضبًا؛ إلا أن أغلب التحليلات تشير إلى أنه جاء بإيعاز من حزب "قلب تونس"، حيث أقدم الوزير المقال على الإعداد لقائمة من التحويرات على مراكز أمنية حساسة وأخرى جهوية دون استشارة رئيس الحكومة . 

ويأتي التصعيد الأكبر، الذي تسبب في خروج الأزمة إلى العلن بشكل كبير، مع إعلان "المشيشي" تعديلًا وزاريًا في حكومته، وذلك في 16 يناير 2021 وبطلب من أحزاب الحزام السياسي، وهي الأحزاب الداعمة لحكومته. وهو ما اعتبره "قيس سعيد" في اجتماع بمجلس الأمن القومي في 25 يناير 2021، بمثابة عدم احترام للدستور، والذي يقتضي عقد المداولات بين الرئاسة والحكومة. إلا أن الأمر تم تجاهله من قبل البرلمان الذي صادق بالأغلبية على هذا التعديل في 27 يناير 2021، بالرغم من تحفظ الرئيس الذي تحدث عن شبهات بالفساد وتضارب مصالح تحوم حول بعض المعينين الجدد. حيث جاء حصولهم على ثقة البرلمان وفقًا للنظام الداخلي للبرلمان وليس وفقًا لمقتضيات الدستور. وفي المقابل، صمم الرئيس "سعيد" حتى الوقت الحالي على موقفه رافضًا توجيه الدعوة الرسمية للوزراء لأداء اليمين في قصر قرطاج، وعدم صدور المرسوم الرئاسي لتعيينهم في مناصبهم.

واستمرارًا لوتيرة التصعيد، وفي الخامس عشر من فبراير، قرر "المشيشي" إعفاء خمسة وزراء من المحسوبين على الرئيس التونسي من مهامهم معتمدًا على حكومة مصغرة. وهم: وزير العدل، ووزيرة الصناعة والطاقة والمناجم، ووزير الشباب والرياضة، ووزيرة أملاك الدولة والشؤون العقارية، ووزيرة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، بانتظار استكمال التعديل الوزاري.

قضايا جذرية:

في ظل تمسك الرئيس "قيس سعيد" برفض الموافقة على التعديل الوزاري الأخير، نتيجة لوجود شبهات بالفساد تحيط بالأعضاء الجدد؛ فقد نشرت منظمة "أنا يقظ" غير الحكومية والمتخصصة في ملفات الفساد، تقارير أكدت فيها وجود شبهات في تضارب مصالح وفساد "جدية" تحوم حول الوزراء الذين اقتُرحت أسماؤهم حينها، وهم: "الهادي خيري" لوزارة الصحة، و"سفيان بن تونس" لوزارة الطاقة والمناجم، و"يوسف فنيرة" وزير التكوين المهني والتشغيل، و"يوسف الزواغي" للعدل. لكن "المشيشي" لم يعفِ وزير الصحة من منصبه. إلا أن تلك التقارير تعضد من موقف الرئيس "سعيد".

وفتح رفض الرئيس الموافقة على التعديل الوزراي نقاشًا دستوريًا حول صلاحيات الرئيس بهذا الشأن، حيث أقر دستور 2014 ضرورة موافقة كلٍّ من البرلمان والرئيس على رئيس الوزراء وأعضاء حكومته ليتمتع بمعظم الصلاحيات التنفيذية، في حين يشرف الرئيس على الشؤون الخارجية والدفاع. وفي حين كان من المفترض في حال الخلاف اللجوء إلى المحكمة الدستورية للفصل في النزاعات بين الأفرع المتنافسة للدولة، ومنها الخلاف حول التعديل الوزاري؛ إلا أنه وبسبب التجاذبات السياسية المتواصلة، لم تتمكن الأطراف السياسية في تونس منذ ست سنوات من إرساء المحكمة الدستورية، لأن كل من في السلطة لم يتفقوا على قضاة يثقون في قدرتهم على التزام الحياد. ومجمل الوضع أنه في حين يريد الرئيس نظامًا رئاسيًا مع دور ثانوي للأحزاب السياسية؛ فإن "الغنوشي" وحلفاءه يريدون نظامًا برلمانيًا أكثر وضوحًا.

الاستقواء بالمظاهرات: 

في مواجهة تمسك الرئيس "قيس سعيد" برفض التعديل الوزاري الذي أقدم عليه "المشيشي" في 15 فبراير 2021، وبعد عدم استجابته لمبادرات "الغنوشي" بعقد لقاء بين الرئاسات الثلاث للحوار حول الوضع السياسي الراهن، والضغط على الرئيس لقبول التعديل الوزاري، واعتماد الوزراء الجدد ليكونوا ضمن الحكومة التونسية، حيث جاء إصرار "سعيد" على رفض الوزراء الجدد لوجود شبهات بالفساد تحيط بهم، وهو ما أدى إلى تعقد الأزمة. فقد تحالف كل من رئيس الوزراء ورئيس المجلس ضده، إلا أن كلًا منهما اتخذ مسارًا مختلفًا لمواجهة الرئيس. 

فقد عمد "الغنوشي" إلى مواجهة الاتهامات ضد حركته بالتسبب في أزمة الرئاسات الثلاث في تونس، من خلال تحريك الشارع كمجال يثبت فيه شرعيته، حيث خرجت المظاهرات في شوارع تونس بدعوة من حركة النهضة التي يرأسها "راشد الغنوشي" للتظاهر، وذلك بدءًا من يوم السبت 27 فبراير 2021 لدعم رئيس الحكومة "هشام المشيشي"، في مواجهة الرئيس "قيس سعيد". 

وحملت المظاهرات عنوان "مسيرة الثبات والدفاع عن مؤسسات الدولة"، ورفعت شعار "الدفاع عن الشرعية والبرلمان"، ويستمر خروجها كل سبت، وقد وصفها البعض بكونها أكبر مسيرات تظاهرية منذ انطلاق الثورة التونسية ضد "بن علي" في عام 2011. وقد وُصفت تلك المظاهرات بكونها استعراضًا للعضلات من قبل النهضة، وتجسيدًا للمناكفة السياسية مع رئيس الجمهورية.

وفي المقابل، خرجت في المواجهة تظاهرات أخرى تندد بـ"عبث المنظومة القائمة" خلال السنوات العشر الأخيرة، وبتنظيم من قبل حزب "العمال" اليساري و"اتحاد القوى الشبابية". وتضيف كلا التظاهرات إلى حالة الاستقطاب السياسي التي تسيطر على المشهد التونسي، وتعمق الهوة بين أطراف الصراع التي اختار كل منهما الاستقواء بالشارع، حيث رغب حزب النهضة في الجلوس إلى طاولة المفاوضات معززة بهذا الدعم، في مواجهة رئيس يرفض التسويات.

الرحيل الكامل:

 في أحدث تصعيد للأزمة السياسية، خرج الرئيس "قيس سعيد" يوم الجمعة 5 مارس ليعلن اشتراطه استقالة "المشيشي" للموافقة على انطلاق الحوار الوطني. وهو الأمر الذي قوبل برفض شديد عمّق من الأزمة، حيث خرج رئيس مجلس نواب الشعب "راشد الغنوشي" ليعلن أنه ضد أي طلب من شأنه أن يُحدث فراغًا في البلاد، باعتبار أن البلاد تحتاج إلى تماسك السلطة وليس إلى فكها.

أما الرد الأكثر قوة فقد جاء من "المشيشي" ذاته الذي خرج ليعلن رفضه طلبَ الرئيس باستقالته، مؤكدًا تمسكه بالبقاء في السلطة. مؤكدًا أن ربط رئيس الجمهورية انطلاق الحوار الوطني بتقديم "المشيشي" استقالته هو كلام لا معنى له، وأن استقالته غير مطروحة، حيث إن تونس بحاجة إلى الاستقرار وإلى حكومة تستجيب لتطلعات الشعب، مضيفًا أنه لن يتخلى عن مسؤوليته تجاه البلاد ومؤسساتها الديمقراطية واستحقاقات الشعب.

وفي مواجهة عملية الحشد الداخلي ربما اتجه الرئيس "سعيد" للخارج، حيث أجرى مجموعة من الاجتماعات بسفراء الدول الأوروبية، وذلك في محاولة للتذكير بدور أوروبا في إخراج البلاد من أزمتها. ومن ثم، يمكن رؤية مظاهرات النهضة بأنها تحمل رسالة للخارج وللأطراف الإقليمية والدولية من خلال الحشد الداخلي بأن أي حل سياسي في تونس لا يجب أن يمر إلا من خلال النهضة. 

وفي حين صدرت بعض التصريحات من بعض المنتمين لحزب "قلب تونس" في وقت مبكر من الأزمة السياسية بين رئيسي الحكومة والدولة، حيث دعا قيادي في حزب "قلب تونس" مسبقًا إلى تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة ردًا على دعوات متكررة من الرئيس الحالي "قيس سعيد" لتعديل الشرعية. ويشير الدستور التونسي إلى إمكانية عزل رئيس الجمهورية في حالة وحيدة عبر لائحة لوم تتقدم بها الأغلبية في البرلمان، ويوافق عليها الثلثان على الأقل إذا ما حدث "خرق جسيم" للدستور من جانبه. ولكن هذه الخطوة تواجه تعقيدات دستورية، كونها لا تحظى بإجماع في البرلمان، كما أنها تحتاج إلى محكمة دستورية غير متوفرة حاليًا، وإلى ثلثي أعضائها من أجل البت في لائحة اللوم. كما أن "الغنوشي" أكد في تصريحات أخرى أن الذهاب لانتخابات مبكرة ليس الحل الأمثل نتيجة للأزمة الاقتصادية. 

وختامًا، يمكن القول إن مرحلة الانسداد السياسي في تونس قد بلغت ذروتها، الأمر الذي قد يُنذر باحتمالات شديدة الخطورة، أو على الأقل مضاعفة حجم التداعيات، سواء على مسار الانتقال الديمقراطي أو خسارة دعم المانحين الدوليين. إلا أن هناك بعض المحللين يرون أن هناك  مسارين محتملين للحل؛ أحدهما يتمثل في نجاح جهود الوساطة، سواء من قبل الاتحاد العام التونسي للشغل أو الأحزاب والشخصيات المنتمية للتيار الوسطي الليبرالي. أما المسار الثاني، فيتمثل في نجاح الائتلاف الذي تقوده النهضة في عزل رئيس الجمهورية، والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، وهو الأمر الذي قد يُعد مكلفًا على الدولة التونسية في ظل التحديات التي تمر بها، كما أنه يواجه العديد من العقبات الدستورية.