قام رئيس دولة جنوب السودان، سلفا كير ميارديت، في 3 مارس 2023، بإقالة وزيرة الدفاع، أنجلينا تيني، ووزير الداخلية، محمود حمود سليمان، وهو ما أثار مخاوف من احتمالية انهيار اتفاق السلام الموقع مع زعيم المعارضة والنائب الأول للرئيس، رياك مشار، في عام 2018، والذي أنهى الحرب الأهلية في جوبا، التي استمرت لنحو خمس سنوات.
قرارات رئاسية مفاجئة
أعلنت المتحدثة باسم الرئاسة في جنوب السودان، ليلي مارتن مانيل، عدداً من القرارات الرئاسية المفاجئة، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- إقالة وزيري الدفاع والداخلية: تضمنت قرارات رئيس جنوب السودان، سلفا كير ميارديت، إقالة كل من، أنجلينا تيني، وزيرة الدفاع وزوجة نائب رئيس الدولة، رياك مشار، وهي عضو قيادي في حزب "الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة"، بالإضافة إلى وزير الداخلية، محمود حمود سليمان، والذي ينتمي لحزب سلفا كير، "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، ولم يوضح الأمر الرئاسي أسباب هذه الخطوة، أو هوية الوزيرين الجديدين اللذين سيشغلان حقيبتي الدفاع والداخلية.
وتأتي هذه الخطوة خلافاً لاتفاق السلام الموقع بين ميارديت، ونائبه، رياك مشار، في عام 2018، والذي أنهى الحرب الأهلية التي استمرت لنحو خمس سنوات بين القوات التابعة لكل منهما، وأدت إلى مقتل قرابة 400 ألف شخص وتسببت في أكبر أزمة لاجئين في القارة الإفريقية منذ الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا عام 1994.
وبموجب هذا الاتفاق مُنح حزب مشار سلطة تعيين وزير الدفاع، فيما حصل حزب سلفا كير على سلطة تعيين وزير الداخلية، وذلك في الحكومة الانتقالية المشتركة التي تم تشكيلها، في مارس 2020، وبالتالي جاء قرار الأخير بإقالة وزيري الدفاع والداخلية منافياً لنصوص اتفاق السلام.
كما عكست القرارات الرئاسية الأخيرة لسلفا كير إعادة تبادل الأدوار المنصوص عليها في اتفاق 2018، حيث أوكل الرئيس لحزب نائبه، رياك مشار، سلطة اختيار وزير الداخلية بدلاً من الدفاع، فيما بات حزب سلفا كير هو المنوط به تسمية وزير الدفاع.
2- تنديد حزب مشار: أعلنت المتحدثة باسم رياك مشار، بوك بوث بالوانغ، أن القرارات الأخيرة للرئيس، سلفا كير ميارديت، تشكل انتهاكاً جديداً لاتفاق السلام لعام 2018، معتبرة هذه القرارات أحادية الجانب من قبل الرئيس.
وطالب مشار بضرورة إعادة وزيرة الدفاع المقالة، كما عقد المكتب السياسي لحزب مشار اجتماعاً طارئاً، في 4 مارس 2023، لبحث قرارات الرئيس سلفا كير الأخيرة، وأكد أن قرار رئيس دولة جنوب السودان بإقالة وزيرة الدفاع دون مشاورات مع المعارضة يشكل انتهاكاً لاتفاق السلام، داعياً سلفا كير إلى التراجع عن هذه الخطوة.
دلالات مهمة
عكست القرارات الأخيرة التي اتخذها سلفا كير جملة من الدلالات المهمة، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تفسيرات متباينة: تشير بعض التقديرات إلى أن إقالة وزيري الدفاع والداخلية جاءت نتيجة خلافات سياسية قائمة بالفعل بين طرفي الصراع الرئيسيين بجوبا، وتستند هذه التقديرات إلى اتخاذ سلفا كير لهذه القرارات دون التشاور مع زعيم المعارضة ونائبه الأول، رياك مشار، رغم الاجتماع الذي كان مقرراً بين الطرفين، فيما ذهبت تقديرات أخرى إلى تقليل شأن هذه الخطوة والنظر إليها كخطوة روتينية نتيجة التطورات التي طرأت على مؤسستي الجيش والأمن بجوبا، بعدما تم تخريج عدد من الدفعات الجديدة بالمؤسستين، وهو ما بات يستدعي إجراء تعديلات في قيادتيهما وتعيين شخصيات لديها خبرات عسكرية قادرة على إدارة جيش نظامي.
وثمة تقديرات أخرى شككت في هذه التفسيرات، فحتى وإن كانت وزيرة الدفاع، أنجلينا تيني، لم يكن لها علاقة مباشرة بمؤسسة الجيش بجنوب السودان، بيد أنها تبقى عنصراً رئيسياً في اتفاق السلام الذي تم إبرامه عام 2018 مع قوى المعارضة، وبالتالي يدرك سلفا كير أن خطوة إقالتها ستكون لها ارتدادات سلبية على علاقاته بفصيل رياك مشار، وتشير هذه التقديرات إلى خطوة تبادل الأدوار التي أجراها الرئيس سلفا كير على بنود الاتفاق، من خلال تكليف حزب المعارضة بسلطة اختيار وزير الداخلية بدلاً من الدفاع، وهو ما يعني ضمنياً تقليص نفوذ "الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة" داخل الحكومة.
2- الاستعداد للانتخابات المقبلة: ربطت تحليلات إقالة وزيري الدفاع والداخلية من قبل سلفا كير بالاستعدادات الجارية للانتخابات الرئاسية المرتقبة في ديسمبر 2024، وهو ما يفسر إقالة وزير الداخلية، محمود حمود سليمان، الذي ينتمي لحزب سلفا كير، إذ ربما تمثل هذه الخطوة محاولة منه لإحكام السيطرة على المشهد السياسي تحضيراً للانتخابات المقبلة، كما تأتي في السياق ذاته دعوة سلفا كير ميارديت لنحو مليوني لاجئ للعودة إلى البلاد، لتوسيع شبكة الموالين له في الداخل.
3- تباطؤ تنفيذ بنود اتفاق السلام: منذ توقيع اتفاق السلام في جنوب السودان عام 2018، والذي نص على تشكيل حكومة موحدة وتقاسم المسؤولية عن القوات المسلحة، فضلاً عن العمل على تشكيل جيش موحد، كان تنفيذ بنود هذا الاتفاق بطيئاً للغاية، وحدثت عدة اشتباكات بين طرفي الصراع خلال السنوات الماضية على خلفية التباين بشأن كيفية تقاسم السلطة.
وتم تأجيل أول انتخابات في جوبا منذ استقلالها عن الخرطوم إلى نهاية عام 2024، بل إن بعض التقديرات أشارت إلى أن بنود اتفاق السلام اقتصر تنفيذها على نطاق العاصمة جوبا فقط، فيما استمرت الصراعات المسلحة بين النخبة السياسية في بقية الولايات.
4- تفاقم المعضلة الأمنية في جوبا: جاءت قرارات سلفا كير الأخيرة في ظل تصاعد حدة التوترات السياسية والقبلية مرة أخرى بعد فترة وجيزة من الهدوء الهش الذي شهدته جوبا بعد اتفاق السلام، فقد شهد عام 2022 اتساع خريطة العنف في غالبية ولايات جنوب السودان. وعلى الرغم من تباين دوافع هذه الصراعات، بيد أنها فاقمت، في مجملها، المعضلة الأمنية التي تعاني منها جوبا.
فقد شهدت ولاية أعالي النيل، على سبيل المثال، في أغسطس 2022، مواجهات مسلحة عنيفة امتدت لحدود ولايتي جونجلي والوحدة، وذلك على إثر تجدد الاشتباكات بين قوات كل من سايمون جاتويك، وجونسون أولوني، المنشقين عن "الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة"، بقيادة رياك مشار، على الرغم من توقيع الجنرالين المنشقين على اتفاق لوقف إطلاق النار مع سلفا كير، في يناير 2022.
كما اندلعت مواجهات أخرى في ولاية الوحدة بين القوات الموالية للرئيس سلفا كير، وتلك التابعة لنائبه الأول مشار، فضلاً عن التمرد الذي شنته "جبهة الإنقاذ الوطني" بقيادة الجنرال، توماس سيريلو، مما أدى إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن الحكومية، كما يضفي البعد القبلي مزيداً من التعقيد على المعضلة الأمنية في جنوب السودان، في ظل الصراع المستمر بين "النوير" و"المورلي" من ناحية، وبين "الدينكا" و"الشلك" من ناحية أخرى.
مسارات محتملة
تشكل القرارات الأخيرة لرئيس جنوب السودان اختباراً حقيقياً لاتفاق السلام الموقع عام 2018، وهو ما ألمح إليه المبعوث الأممي لجنوب السودان، نيكولاس هايسوم، في 6 مارس 2023، والذي أكد في إفادته أمام مجلس الأمن الدولي أن العام الجاري سيشكل عام الحسم بالنسبة لاتفاق السلام، داعياً الحكومة الانتقالية في جوبا إلى ضرورة الالتزام ببنود الاتفاق والتمهيد لإجراء الانتخابات في 2024. وفي هذا السياق، هناك ثلاثة مسارات رئيسة محتملة لمستقبل المرحلة الانتقالية واتفاق السلام في جنوب السودان، بناءً على القرارات الأخيرة للرئيس سلفا كير، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- توافقات جديدة بين سلفا كير ومشار: من المرتقب أن يعقد سلفا كير مباحثات مع مشار، خلال الأيام القليلة المقبلة، والتي يمكن أن تفضي إلى توافقات جديدة بينهما، تحول دون تفاقم الخلافات التي تمخضت عن قرارات سلفا كير الأخيرة.
وربما يدعم هذا المسار تكرار المواجهات بين فصيلي سلفا كير ومشار عدة مرات خلال الأشهر الماضية، وكان أبرزها المواجهات العنيفة التي اندلعت في مارس 2022، وأدت إلى انسحاب "الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة" من الهيئة المنوطة بالإشراف على عملية السلام في البلاد، بيد أن الضغوط الدولية والإقليمية حالت دون تفاقم المواجهات وانهيار اتفاق السلام، والدفع نحو توقيع وثيقة جديدة لـ"هيكلة القيادة العليا"، وبالتالي يبقى التدخل الإقليمي والدولي مطروحاً بقوة هذه المرة، في ظل حرص الشركاء الدوليين والإقليميين على تجنب اندلاع حرب أهلية جديدة في جوبا.
2- قبول مشار بالأمر الواقع: قد تتجه "الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة" لقبول قرارات سلفا كير الأخيرة، والدخول في مباحثات جديدة بشأن اختيار الوزيرين الجديدين. ويرجع ذلك السيناريو إلى الضعف الذي انتابها جراء الانشقاقات التي طرأت عليها، وانضمام بعض المنشقين إلى الفصيل الموالي للرئيس سلفا كير.
3- انهيار اتفاق السلام وعودة الصراع: قد تؤدي قرارات سلفا كير الأخيرة إلى تقويض اتفاق السلام الموقع في 2018، ومن ثم تأجيج الصراعات المسلحة مرة أخرى وإعادة المشهد إلى حالة الحرب الأهلية. وعلى الرغم من أن هذا المسار يبدو مستبعداً بسبب الضغوط المتوقعة من قبل الشركاء الإقليميين والدوليين، فإنه يبقى قائماً أيضاً في ظل الصراعات العرقية التي تهيمن على المشهد.
وفي الختام، تبقى كافة المسارات مطروحة في ظل الأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة التي تعاني منها جنوب السودان، والتي تنذر بتقويض الترتيبات التي تمخضت عن اتفاق السلام الهش في عام 2018. وعلى الرغم من إشارة بعض التقديرات إلى أن الضغوط الدولية ستحول على الأغلب دون تفاقم الصراعات الداخلية في جوبا، بيد أن ثمة تقديرات أخرى حذرت من أن تؤدي الأوضاع الإقليمية المضطربة إلى إذكاء الصراعات في جنوب السودان.