لم تكن سوى بضع ساعات تلك التي فصلت بين تشكيل الوفد الفلسطيني للتفاوض مع الاحتلال وتولّد أسئلة عديدة حول ما حقّقه الفلسطيني في هذه الجولة من المواجهة أو ما يمكن أن يحققه من خلال المفاوضات المبنية على ما حققه المقاوم في الميدان.
جزء من التساؤلات جاءت في صيغة تشكيك حول جدوى المقاومة العسكرية، ويستند أصحابها على بيانات إحصائية توضّح حجم الخسائر في الجانب الفلسطيني في سياق المقارنة مع خسائر الاحتلال، ومعزّزين وجهة نظرهم بما آلت إليه الأمور من الذهاب إلى المفاوضات بما تحمله الكلمة الأخيرة من مدلولات لا علاقة لها بأصل المفهوم بقدر ما هي مدلولات مستقاة من تجارب بائسة في التفاوض مع الاحتلال.
في الجهة المقابلة، حاول البعض إعادة إنتاج ذات التساؤلات إيماناً منهم بأن لديهم الإجابة الحاسمة التي تفيد بتفوق الفلسطيني في هذه الجولة، ويستند أصحابها على بعض الأدبيات أو لنقل الأعراف العسكرية التي تؤكد انتصار المقاومة كونها صدّت العدوان أو منعت الاحتلال من تحقيق أهدافه. وبين هذين النموذجين ظهر أولئك الذين تجاوزوا الميدان ظنّاً منهم أن الربح والخسارة أو الهزيمة والانتصار تقرّره أروقة السياسة فقط، وهم بذلك أجّلوا تقييم كل ما قدّمه الفلسطيني إلى ما بعد المفاوضات.
السطور القادمة فيها محاولة للقفز عن النماذج السابقة في التساؤل والإجابة، وهي نماذج رغم أنها ترتكز على مسوّغات مقبولة ويمكن نقاشها، إلا أنّها تتجاهل إمكانية تحقيق الإنجازات خلال المواجهة أو تؤطر كل ما يقوم به الفلسطيني في دائرة رد الفعل بحيث يصبح أقصى ما يمكن تحقيقه هو صدّ فعل الاحتلال.
والقفز هنا ليس تعالياً على النهج التقليدي في تقييم كل مواجهة، كما أنّه ليس تجميلاً لحالة هزيمة ولا هو كذلك "رومانسية" سياسية، إنّما هو قفز استدعته الإنجازات الفلسطينية التي ارتقت على الصيغ الكلاسيكية في السؤال والإجابة، بحيث أصبح السؤال التقليدي ضيّق أو مؤجّل، ولذا فإن إجابته حتماً تسير في فلك التضليل، والتضليل هنا يرتكز على حسن نيّة في غالب الأحوال.
ثقافة سياسية فلسطينية مختلفة
دون مبالغة في اجتراح الأسئلة التي تليق بما قدّمه المقاوم الفلسطيني، فإن السؤال عمّا حققه الفلسطيني خلال المواجهة وحتى اللحظة يتطلب الإضاءة على العديد من الإنجازات التي تحقّقت فعلاً دون إشارة واضحة إليها. السطور القادمة ليست سوى إضاءة على جانب معتم مما أنجزه المقاوم الفلسطيني، وهو الجانب المتعلق بتصحيح بعض المفاهيم في الثقافة السياسية الفلسطينية، علماً أنّه ليس الجانب الوحيد الذي يستحقّ الإضاءة، وعليه فإن هناك حاجة لمزيد من الجهود للكشف عمّا قدّمه الفلسطيني في ميدان المواجهة مع الاحتلال.
الحديث عن أثر المواجهة الأخيرة مع الاحتلال على الثقافة السياسية الفلسطينية قد يبدو مبكراً، لكنّه ليس من المبكّر الحديث عن دور هذه المواجهة في بلورة مدخلات جديدة للثقافة السياسية الفلسطينية قد تدفع نحو تعديل بعض عناصرها التي أخذت تترسخ على مدى العقدين الماضيين. منذ أن قبلت منظمة التحرير الفلسطينية بخيار المفاوضات دون امتلاكها لأوراق قوة كافية تضمن لها تحقيق بعض الإنجازات الجوهرية خلال رحلة التفاوض مع الاحتلال؛ بدأ الفلسطيني في تشكيل صورة نمطية عن المفاوضات، وهي صورة مستقاة من تجربة منظمة التحرير وبعيدة كل البعد عن المفهوم المجرّد أو حتى عن تاريخ المفاوضات في تجارب الشعوب الأخرى.
خسارة الفلسطيني المتراكمة وتعاظم الإنجاز الإسرائيلي/الصهيوني خلال مسار المفاوضات دفع الفلسطيني إلى تعريف المفاوضات من خلال تجربته الضيقة ليصبح التنازل رديفاً للتفاوض كما أشار باسم زبيدي في كتابه "الثقافة السياسية الفلسطينية" 2003، وهو ما جعل من تداول كلمة مفاوضات في الأوساط الرافضة لمسار أوسلو أمراً قد يثير الحساسية أو يسبب الحرج، لدرجة عزوف بعض الأكاديميين عن دراسة أو تدريس المفاوضات كانعكاس لطغيان الإجرائي على المجرد في الثقافة السياسية الفلسطينية.
من أهم إنجازات المواجهة الأخيرة مع الاحتلال أنّها شكّلت الأرضية اللازمة لتقبّل الفلسطيني فكرة المفاوضات، وهي أرضيّة شيّدتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة حصراً، نتاج تطوير قدرتها في الميدان مما عزّز من ثقة الفلسطينية بنفسه، والثقة هنا مصدرها القوة، بالإضافة إلى الإيمان بعدالة القضية. في ظل هذا الشعور بات الفلسطيني على استعداد لنقاش إمكانية تحقيق مطالبه من خلال المفاوضات، إذ إنّه وفي هذه التجربة الجديدة يدرك يقيناً أنّ لديه ما يمكن أن يشكل ضغطاً على الاحتلال، ورغم أن الكثيرين ممن أيدوا المقاومة ما زالوا في صفّ المتخوّفين من اللجوء إلى المفاوضات نتاجاً لتأثرهم العميق بتجربة منظمة التحرير، إلا أنّ صمتهم أو كفّهم عن رفض المفاوضات من حيث المبدأ وتأييد البعض لمسار المفاوضات الجديد يؤشر على أنّنا على مشارف مرحلة تصحيحية للثقافة السياسية الفلسطينية، وهذا التصحيح المفاهيمي يمثّل تمرّداً حميداً على إرث مشوّه من صيغ التعامل مع الاحتلال.
تأسيساً على ذلك يمكن الانطلاق نحو ما يمكن أن تقود له هذه المواجهة من توسيع مفهوم المقاومة وتعديل صورتها النمطية. رغم أن المقاومة بصورتها العسكرية هي الأبرز، إلا أن ما تخلّلها من عمل دبلوماسي تمثّل بشكل أساسي في جهود الوفد الموحّد في القاهرة وبشكل متناغم مع العمل المقاوم رغم الهفوات الإعلامية، قد يؤدّي إلى إعادة انتشار المفاهيم في الثقافة السياسية الفلسطينية بحيث تحتل المفاوضات موقعها الصحيح كأداة من أدوات المقاومة، فيما تحتل المقاومة المساحة الأوسع من الثقافة السياسية الفلسطينية بحيث تحتوي كل نشاط فلسطيني وتسخّره لمواجهة الاحتلال، وهو ما بدا واضحاً خلال هذه المواجهة، حيث احتوت المقاومة النشاط العسكري والدبلوماسي والمقاطعة الاقتصادية ودعم المنتج الوطني والمواجهة الإعلامية والحشد الدولي، بل إن الأفراح والأتراح أضحت منابر للحشد ضد الاحتلال. مع ذلك، فحاجتنا لتفعيل دور المؤسسات الأخرى كمنظمات المجتمع المدني والتعليم والرياضة وغيرها باعتبارها بؤراً للتنشئة والتوعية ما زالت قائمة، وكذلك الأمر بالنسبة لإحياء ودعم القطاعات الاقتصادية وخصوصاً قطاع الزراعة كخطوة لا تنفصل عن مقاطعة الاحتلال.
تأسيس مرحلة المطالب الكبرى
من القضايا المهمة التي يمكن الإشارة إليها أيضاً في باب الثقافة السياسية الفلسطينية، أن الفلسطيني نظر للمقاوم غالباً في صورة الضحيّة دنيوياً والمنتصر أخروياً. وهو اعتقاد بدأ يتكرّس نتاجاً لتعرّف الفلسطيني على المقاومة من خلال صورتها العسكرية فقط، والفصائل الفلسطينية في علاقتها مع العمل العسكري انقسمت بين مُتراجع عن هذا الخيار باعتباره دون جدوى مقارنة بالتسوية السياسية أو مُراهن على هذا الخيار شريطة الدعم العربي وربما الإسلامي، أو مكتفياً بهذا الخيار كأداة لإبقاء الصراع مفتوحاً لا أكثر، ورغم منطقية طرح الثاني والثالث، إلا أن هذا الأمر جعل من صورة المقاوم في ذهن الفلسطيني كمشروع شهادة، وأقصى ما يمكن أن يحقّقه دنيوياً هو إبقاء الصراع مفتوحاً إلى أن يأتينا المدد الخارجي فيما مكافأته مؤجلة إلى ما بعد البعث.
هذه الصورة جميلة بما تحمله من معاني الفداء، والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة وخلال المواجهة الأخيرة تحديداً زادتها جمالاً، بحيث لم تعد إنجازات المقاوم مقتصرة على إبقاء الصراع مفتوحاً، بل اتسعت إلى حد تسخير قوته المتنامية في الضغط على الاحتلال من أجل تحسين الظروف المعيشية. البعض اعتبر هذا مأخذاً على المقاومة كون تحسين ظروف الحياة ليس مطلباً سياسياً، بيد أن إصرار المقاومة على تطوير قدراتها، وهو ما ظهر جلياً في الفترة الواقعة بين الوهم المتبدّد والعصف المأكول يعني إمكانية تطوير المطالب، فكون المطالب في هذه المرحلة إنسانية بحتة لا يعني أن المطالب اللاحقة لن تكون سياسية، إذ إن المُدخلات على الثقافة السياسية الفلسطينية لم تقتصر على مفهومي المفاوضات والمقاومة، بل وصلت إلى فكرة التحرير التي بدأت بالارتقاء من قاع أضغاث الأحلام إلى سماء الممكن بفضل المقاومة.
ما دفعني للإضاءة على هذا الإنجاز الذي يشكّل مساحة محدودة من إنجازات المقاومة، هو مراقبتي لبعض الأقلام التي تحاول إيهام الفلسطيني بأن المقاومة الفلسطينية تهدف في هذه الجولة من المواجهة إلى إزالة الاحتلال عن بعض أراضينا أو تحرير كل الأسرى أو إعادة لاجئين، إلى غير ذلك من القضايا الجوهرية، وهم بذلك ودون الخوض في نواياهم يساهمون في رفع سقف المطالب الشعبية، بحيث يصبح أي إنجاز للمقاومة فيما دون هذا السقف الحالم هو مجرد تجميلٍ للهزيمة بما يعنيه ذلك من تكريس لمفهوم المقاومة كفعل فدائي مردوده الدنيوي محدود جدّاً وتكريس مفهوم المفاوضات كعملية تنازل تدريجي عن الحقوق الفلسطينية.
من العدل أن نشير إلى أن الهدف الأساسي للمقاومة هو صد عدوان الاحتلال، وأن أي إنجاز يتجاوز صدّ العدوان في هذه المرحلة كتحسين ظروف الحياة للمواطنين فيما لو نجحت المفاوضات لاحقاً، أو إدخال عناصر جديدة للثقافة السياسية الفلسطينية كما اتضخ أعلاه هو فائض تُمتدح المقاومة عليه ولا تذمّ، ليس انشغالاً عمّا هو استراتيجي بل إيماناً بأن تعديل الثقافة السياسية وتحسين البيئة الحاضنة للمقاومة ما هو إلا تمكين للأخيرة بما يؤهلها لخوض جولة قادمة تتطوّر فيها المطالب بتطوّر قدراتها.