أعلنت المحكمة العليا الإسرائيلية، يوم 18 يناير 2023، أنها استبعدت أرييه درعي، رئيس حزب شاس والحليف الرئيسي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، من الخدمة في منصبه الوزاري (كوزير للصحة والداخلية)، وذلك بعد إدانته الجنائية في العام الماضي والحكم عليه مع وقف التنفيذ. واضطر نتنياهو، في اجتماع حكومته يوم 22 يناير الجاري، إلى إقصاء درعي من الحكومة، تنفيذاً لقرار المحكمة.
ولم يلبث نتنياهو أن تنفّس الصعداء بعد تشكيل حكومته الحالية وتلبية مطالب شركائه الجُدد في الحكم، حتى جاء هذا القرار الصادر من المحكمة العليا ليضعه في مأزق جديد، ويُهدد كل جهوده السابقة. فهذا الحكم قد يُقوّض اتفاقاته الائتلافية، وربما يؤدي إلى حلّ حكومته، إذا ما قرر حزب شاس الانسحاب منها. أما إذا قرّر نتنياهو الالتفاف حول الحكم القضائي بإعادة درعي إلى مناصبه بطريقة أو بأخرى، أو حتى وضعه في مناصب جديدة، فإنه سيضع نفسه في مأزق سياسي وربما دستوري، غير مسبوق، وسيُضيِّق الخناق عليه وعلى حكومته أكثر، محلياً ودولياً.
حيثيات الحكم:
جاء قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بعدم قانونية تعيين أرييه درعي في منصب حكومي، بموافقة عشرة من أحد عشر قاضياً، وكان القاضي يوسف ألرون هو منْ رفض الوقوف ضد تعيين درعي. وأوضحت رئيسة المحكمة العليا، إستر حايوت، في قرارها، أن "هذا الشخص [أي درعي] أُدين بجرائم وانتهك واجبه في خدمة الجمهور، وتجاوز القانون أثناء خدمته في مناصب عامة عليا".
وكان درعي قد أُدين في عام 1999 بتلقي رشى أثناء توليه وزارة الداخلية، وقضى 22 شهراً في السجن بين أعوام 2000 و2002. وبعد خروجه من السجن، ابتعد سنوات عن السياسة، ليعود مرة أخرى في عام 2013 إلى قيادة حزب شاس. وفي عام 2016، عاد لمنصب وزير الداخلية من جديد، وفي العام ذاته (2016)، تم التحقيق مُجدداً مع درعي في تهم فساد. وفي يناير 2022، تمت إدانته بتهم الاحتيال الضريبي، وطالبت حينها النيابة بسجنه 12 شهراً مع وقف التنفيذ وغرامة قدرها 180 ألف شيكل (حوالي 56 ألف دولار). وصدر الحكم بالإدانة مع إيقاف التنفيذ، في إطار صفقة عقدها درعي مع المحكمة، حيث أقر بالذنب واعترف بمخالفاته الضريبية، وأعلن تحمل المسؤولية كاملة عن أفعاله، مقابل الاستقالة من الكنيست والتقاعد من المناصب السياسية مستقبلاً.
ومن المعروف أن إسرائيل لا تملك دستوراً مكتوباً، لكن هناك مجموعة من القوانين تُسمى "قوانين الأساس" تعمل كبديل للدستور وتُنظم العلاقة بين مختلف السلطات. ووفقاً للبند (6) من "قانون أساس الحكومة"، يحظر تعيين شخص أُدين بالفساد وتهم جنائية بمنصب وزاري. لكن بعد الانتخابات التي جرت في نوفمبر 2022، وعودة درعي مرة أخرى إلى الائتلاف الحاكم، تحايل درعي ونتنياهو على هذا البند في "قوانين الأساس". ودفع نتنياهو وشركاؤه الكنيست (الذي يملكون فيه الأغلبية)، إلى تعديل هذا البند، ليكون حظر التعيين في منصب وزاري سارٍ فقط على من حُكم عليه بعقوبة السجن الفعلي، وليس مع إيقاف التنفيذ. وسمح هذا التعديل بعودة درعي مرة أخرى إلى حكومة نتنياهو الـ 37، وتولى حقيبتي الصحة والداخلية.
ردود الفعل:
في هجومها المستمر على حكومة نتنياهو الحالية، ركّزت المعارضة الإسرائيلية، بقيادة يائير لابيد وبيني غانتس، على ملف تعيين أرييه درعي في منصب حكومي، وعدم قانونية التعديل الأخير الذي أقره الكنيست لتسهيل هذا التعيين، بل وقدّمت عدة التماسات إلى المحكمة العليا رفضاً لتعيين درعي.
وفي أعقاب صدور قرار المحكمة، أكد لابيد أنه "إذا لم يُطرد درعي، ستقع إسرائيل في أزمة دستورية غير مسبوقة ولن تكون بعد الآن ديمقراطية ولن تكون دولة قانون". وبدورها، أكدت رئيسة المحكمة العليا، إستر حايوت، أن نتنياهو لا يحق له تجاهل "تراكم جرائم الفساد الخطيرة لدرعي"، مضيفةً أن "تكليفه بوزارتين من أهم الوزارات في الحكومة يضر بصورة وسمعة النظام القانوني في البلاد، ويتعارض مع مبادئ السلوك الأخلاقي والشرعية".
وفي رسالة موجزة إلى رئيس الوزراء، صدرت في 19 يناير 2023، أمرت المدعية العامة الإسرائيلية، غالي باهراف ميارا، نتنياهو، بالانصياع لقرار المحكمة، وكتبت: "عضو الكنيست درعي لا يمكنه الاستمرار في العمل كوزير في حكومة إسرائيل. يجب أن تتصرف بما يتماشى مع قرار المحكمة، وعزل درعي من أدواره في الحكومة".
في المقابل، أصدر حزب شاس بياناً هاجم فيه ذلك الحكم بشدة، ورأى أن المحكمة العليا ألغت أصوات 400 ألف ناخب من شاس، وادّعى البيان أن قرار المحكمة سياسي بالأساس. بينما صرّح درعي بأنه لن يتخلى عن مناصبه، وقال: "عندما يغلقون الباب في وجهنا، ندخل من النافذة. عندما يغلقون النافذة نخترق السقف بعون الله".
وفي السياق ذاته، حثّ وزير شؤون القدس والتراث، عميحاي إلياهو (عضو حزب عوتسماه يهوديت)، رئيس الوزراء نتنياهو على تحدي الحكم، وكتب على تويتر: "قرار المحكمة غير مسؤول ويتأثر بمصالح سياسية ضيقة. أدعو زملائي أعضاء مجلس الوزراء إلى عدم الامتثال لحكم المحكمة العليا، لأنه غير قانوني".
دلالات عاكسة:
يشير مجمل ردود الفعل الإسرائيلية على قرار المحكمة العليا بشأن درعي، إلى عدد من الدلالات، وهي كالتالي:
1- نية معسكر اليمين المتطرف الدفاع بشدة عن استمرار درعي في الحكومة الإسرائيلية بصورة أو أخرى، وتحدي قرار المحكمة العليا الإسرائيلية، بالالتفاف عليه، وربما مواجهة نتنياهو نفسه وابتزازه بورقة استمرار حزب شاس في الحكومة، وهو ما يدفع أكثر في اتجاه تعميق الأزمة الحالية.
2- تأييد الرأي العام الإسرائيلي قرار المحكمة العليا، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته القناة (12) الإسرائيلية، في يناير الجاري، أن 65% من المستطلعين عارضوا تعيين درعي، في مقابل 22% مؤيدين، و13% غير متأكدين. ومن بين مؤيدي كتلة نتنياهو، قال 43% إنه ليس من المناسب أن يتولى درعي منصب وزير، بينما قال 42% إنه مناسب.
3- قد يكتسب هذا الحكم زخماً واضحاً في ظل تصاعد موجة التظاهرات المُعارِضة لحكومة نتنياهو، والمستمرة خلال شهر يناير الجاري، والتي وصل عدد المشاركين فيها إلى 80 ألف إسرائيلي. وهنا قد يكون من المفيد الإشارة إلى ملاحظة الكاتب الأمريكي توماس فريدمان، في مقاله المنشور في صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، بأن حكومة نتنياهو لا تمتلك أفضلية جماهرية حقيقية، وأنها قد وصلت إلى الحكم بفارق 30 ألف صوت فقط، من بين 4.7 مليون صوّتوا في الانتخابات الأخيرة.
4- استعداد المحكمة العليا لخوض جولات جديدة في مواجهة حكومة نتنياهو، خاصةً أن الأخيرة في اتجاهها إلى تقويض سلطات المحكمة، والتحكم في قراراتها وأساليب تعيين قُضاتها. وربما تتجه المحكمة خلال الفترة القادمة إلى تقويض باقي تشريعات الكنيست، التي أُقرت في ديسمبر 2022، ومنحت لوزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، سلطات واسعة على قوات الشرطة، ومكّنت بتسلئيل سموتريتش، من دخول وزارة الدفاع كوزيرٍ ثانٍ.
مسارات ثلاثة:
بعد صدور حكم المحكمة العليا ضد أرييه درعي، حذّر وزير الرفاه الإسرائيلي، يعقوب مارغي (المنتمي إلى حزب شاس)، من أنه إذا استبعدت المحكمة زعيم حزبه من المناصب الوزارية، فإن نتنياهو "يعلم أنه لن تكون هناك حكومة".
ولكن نتنياهو اضطر، في 22 يناير 2023، إلى الاستجابة لقرار المحكمة، وإقصاء درعي من مناصبه الوزارية، حيث قال نتنياهو، متحدثا لدرعي: "أنا مضطر، بقلب مثقل وبأسى شديد وبأسوأ شعور ممكن، إلى إقصائك من منصبك كوزير في الحكومة". وتعهّد نتنياهو بإيجاد "طريقة قانونية" تسمح لدرعي بمواصلة خدمة إسرائيل.
ويمكن القول إن حكم المحكمة قد تحوّل إلى قنبلة موقوتة على مكتب نتنياهو، لتصبح حكومته مُهددة بالحل إذا لم يستطع التعامل جيداً مع تبعات هذا القرار. وغالباً سيكون نتنياهو أمام ثلاثة مسارات، بعد تنفيذه قرار المحكمة العليا:
1- تسريع عملية إقرار قوانين إصلاح القضاء، التي اقترحها بالفعل وزير العدل، ياريف ليفين، والتي ستمنح السلطة التنفيذية (برئاسة نتنياهو) الغلبة والهيمنة في مواجهة المحكمة العليا، بل والسلطة القضائية بالكامل. ومن شأن إقرار هذه القوانين المقترحة، منع المحكمة العليا من التدخل في قرارات الحكومة. لكن من غير المعروف – في حال إقرار هذه القوانين- مدى إمكانية تطبيقها بأثر رجعي، وإعادة درعي إلى مناصبه.
2- الالتفاف حول الحكم القضائي، وذلك من خلال تعيين موشيه بار سيمان طوف، من حزب شاس، وزيراً للصحة، وتعيين نجل درعي، يانكي، وزيراً للداخلية، مع تعيين درعي في منصب "رئيس الوزراء البديل"، وليس وزيراً، وهذا المنصب سيكون بحاجة إلى بعض التعديلات القانونية، ولكنه لن يكون مُخالفاً لقرار المحكمة العليا. ولكن هذه التعديلات تتطلب أن تُقدم الحكومة استقالتها، لتؤدي اليمين مرة أخرى أمام الكنيست، وهذا إجراء ليس بالبسيط.
3- تصاعد الخلافات بين نتنياهو وشركائه، وذلك في حال لم ينجح في التوصل إلى صيغة مرضية لحزب شاس ورئيسه درعي، خاصةً أن الأخير كان متمسكاً منذ بداية المفاوضات الائتلافية بتولي هذه الحقائب الوزارية، من دون الالتفات للموانع القانونية. ونظراً لامتلاك شاس 11 مقعداً في الكنيست، فإن انسحابه من الحكومة سيعني انهيارها، وربما خروج نتنياهو من رئاسة الوزراء.
وبعيداً عن مدى قدرة نتنياهو على تجاوز أزمة درعي، التي ربما تصل إلى حد حلّ حكومته الجديدة، من المتوقع أن يتصاعد مسار الأزمة السياسية في إسرائيل على المستوى المؤسسي، وتحديداً بين الحكومة والقضاء، في ضوء دعم المعارضة والشارع لقرارات القضاء الإسرائيلي. ومن المؤكد أن هناك جولات جديدة منتظرة في صراع الحكومة والقضاء، ستجعل حكومة نتنياهو غير قادرة، على الأقل خلال الأشهر القادمة، على اتخاذ قرارات استراتيجية.