شهدت الأسابيع الأولى من عام 2022 نجاح اليوتيوبر (صانع محتوى مرئي) الكويتي الشهير "أبو فلة" في جمع تبرعات تجاوزت 11 مليون دولار لصالح حملة "لنجعل شتاءهم أدفأ" المخصصة لعائلات النازحين واللاجئين، وهو ما يأتي عقب شهور قليلة من إعلان شركة ميتا (فيس بوك سابقاً) عن وصول أمول التبرعات عبر منصتي فيس بوك وانستجرام إلى 5 مليارات دولار، مسلطة الضوء على نماذج لحملات دعم الصحة النفسية ومكافحة الانتحار، وإنقاذ الحيوانات، وصحة النساء، وأطفال المدارس، والتبرع بالوجبات للأسر المعوزة، وكذلك لم شمل المهاجرين، ونجدة ضحايا الكوارث الطبيعية. وهذا كله يؤشر لدور المجتمعات الافتراضية في بناء وتنمية رأس المال الاجتماعي، وبما يبرز جوانب إيجابية لتوظيف منصات التواصل الاجتماعي لخدمة أهداف التنمية المجتمعية، بعدما أصبحت المتهم الأول في كثير من الظواهر السلبية.
رأس المال الاجتماعي الافتراضي:
يشير مصطلح "المجتمعات الافتراضية" Virtual communities إلى مساحات على شبكة الإنترنت يلتقي عبرها ويتحاور الأفراد الذين تربطهم اهتمامات مشتركة، وهي المساحات التي أتاحتها شبكات التواصل من خلال الخيارات المتعددة لتصميم المجموعات والصفحات المهتمة بقضية أو موضوع أو حدث ما، ويتواصل من خلالها المستخدمون حول هذه الموضوعات بغض النظر عما إذا كانت تربطهم صلات وعلاقات حقيقة أم لا. وكان للمشاركة في الأنشطة المجتمعية والعامة نصيب من تلك الاستخدامات، حيث بادرت مؤسسات العمل المجتمعي إلى إنشاء صفحات لها على تلك المواقع، واستطاعت كل منها أن تُكون من خلالها مجتمعاً إلكترونياً يتابع أخبارها ويتفاعل معها.
ووفق التقرير العالمي لتكنولوجيا المنظمات غير الربحية لعام 2019، فإن 71% من تلك المنظمات تعتقد أن "السوشيال ميديا" أو شبكات التواصل الاجتماعي أداة فعالة لجمع التبرعات إلكترونياً. كما أشارت إحصائيات منصة "كلاسي" للتبرع الإلكتروني إلى أن 57% من زيارات صفحات حملات جمع التبرعات تأتي من شبكات التواصل الاجتماعي. وفي تقرير الاتجاهات العالمية للعطاء لعام 2020، قال 25% من المتبرعين عبر المنصات الإلكترونية إنهم تم إلهامهم من خلال محتوى تم نشره عبر "السوشيال ميديا".
ولم يقتصر الأمر على الهيئات ذات الطابع المؤسسي فحسب، بل اتجه العديد من المستخدمين المهتمين بأنشطة العطاء الاجتماعي إلى تدشين الصفحات أو التواصل مع المهتمين عبر حساباتهم الشخصية، ليتكون بالنهاية طيف واسع من المجتمعات الافتراضية التي يجمعها السعي لتنمية المجتمع ومساعدة الآخرين، حتى بات هناك مدونون ومؤثرون لأهداف الخير والتبرع، فضلاً عن تفاعل المستخدمين مع الهاشتاجات المعنية بالأمر ذاته. فعلى سبيل المثال، حظي هاشتاج "صناع_الأمل" على "تيك توك" بنحو 202 مليون مشاهدة، والذي أطلقته المبادرة التي تحمل الاسم نفسه وتتبع مؤسسة "مبادرات محمد بن راشد العالمية" بهدف مشاركة ودعم الأعمال الإنسانية.
وما بين المتابعة بالإعجاب وقراءة التحديثات، إلى التفاعل الافتراضي بالتعليقات ومشاركة الصور، إلى الاستجابة الفعلية لتلك الأنشطة والتحول من دائرة التواصل الافتراضي للمشاركة الفعلية؛ تتدرج تفاعلات أعضاء هذا المجتمع الافتراضي مع النشاط الذي يتابعونه، ليثير ذلك العديد من التساؤلات بشأن قدرة تلك الشبكات على تنمية رأس المال الاجتماعي، ومساعدتها في بناء شبكات إنسانية متواصلة، تجمعها قيم المشاركة العامة، وتثق في النشاط الذي تتابعه، انتهاءً بأن تشارك فيه بالفعل.
وقد ارتبط مصطلح رأس المال الاجتماعي بالنواتج الإيجابية للتفاعلات المتبادلة بين عضوين أو أكثر في المجتمع، بدءاً من الأسرة حتى أكبر المؤسسات التنظيمية التي تؤطر هذه التبادلات وتجعلها أكثر فاعلية، وهي الأمور التي ارتبطت عادة بالأفراد أو المجتمعات التي تجمعها صلات واقعية مثل المنزل أو الحي أو المنظمة أو البلدة؛ وما بين العلاقة بين الواقعين الفعلي والافتراضي، وما إذا كان تفاعل الأفراد عبر الفضاء الإلكتروني يعزز علاقاتهم والموارد الكامنة في الشبكات الاجتماعية التي تربطهم أم أنه على العكس من ذلك يفكك تلك الروابط ويعزز العزلة والاغتراب. وعلى الرغم من التباينات العديدة في هذا الشأن، فإن الشواهد تؤكد قدرة الشبكات والمجتمعات الافتراضية على التأثير في الواقع الفعلي، وإمكانية توظيف تلك القوة الكامنة في التربيط الإلكتروني لتحقيق شيء ما في الواقع المعاش، وهو ما أدى إلى صعود مصطلح "رأس المال الاجتماعي الافتراضي"، حيث لا يمكن استبعاد منتج ذلك التفاعل "الافتراضي" من مكوناته وتأثيراته، كما لم يعد ذلك النوع من رؤوس الأموال مرتبطاً فقط بتواصل الأفراد واقعياً، وإنما امتد للعلاقات التي يقيمونها من خلال وسائل التواصل الإلكتروني، حتى وإن لم يجمعهم الواقع الفعلي من قبل.
سوشيال ميديا العطاء الاجتماعي:
يتزايد عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في الدول العربية بشكل ملحوظ، وهو الذي زاد من وتيرته انتشار استخدام الهواتف الذكية، وتطور تقنيات الجيل الثاني من تطبيقات التواصل المعتمدة على الصور والفيديوهات، والتي يتصدرها "انستجرام" و"تيك توك" حالياً. وتشير العديد من الدراسات إلى اتساع استخدامات تلك الوسائط وتنوعها ما بين الحصول على الأخبار والتسلية والتواصل مع الأصدقاء وغيرها من الاستخدامات التي كان للعمل الخيري والتكافل والتطوع نصيب منها.
وعلى الرغم من صعوبة الوصول إلى إحصاء دقيق بشأن حجم تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في العمل الخيري والتطوعي، فإنه بات من الملحوظ استخدامها في تلك الأغراض ليس فقط من جانب المؤسسات التي بادرت لإنشاء صفحات لها على تلك المواقع، واستطاع كل منها أن يُكون من خلالها مجتمعاً إلكترونياً يتابع أخبارها ويتفاعل معها؛ وإنما أيضاً من خلال المستخدمين الأشخاص، ليتكون في النهاية طيف واسع من المجتمعات الافتراضية التي تهدف إلى تنمية المجتمع وتقديم الخدمات التضامنية التي تعزز وتثري رأس المال الاجتماعي.
ومن خلال متابعة الصفحات والحسابات المهتمة بمجال العمل الخيري والتطوعي، والمجتمعات الافتراضية التي استطاعت تكوينها، نجد أن دور شبكات التواصل في تنمية رأس المال الاجتماعي الداعم لأنشطة الخير والتطوع، يتركز في 3 درجات متتالية؛ تبدأ من المعرفة بوجود مثل هذه الأنشطة والتواصل والتفاعل الإلكتروني معها بما يبني مجتمعاً افتراضياً يتابع أخبار تلك الأنشطة، ثم توليد اتجاهات إيجابية لدى هؤلاء المتابعين إزاء الأنشطة بما يؤثر إيجاباً في تبني الأفراد لقيم التطوع والثقة في مؤسساته، وصولاً إلى الانغماس الفعلي فيها ليتحول ذلك المستخدم المتفاعل عبر واقع افتراضي إلى متبرع أو متطوع يدعم تلك الفعاليات الخيرية والتطوعية في الواقع الفعلي، وبما يعمل على بناء شبكة من المتطوعين وزيادة التدفقات الداعمة لمثل هذه الأنشطة.
وعلى صعيد الأساليب المُستخدمة في التواصل عبر تلك القنوات، فقد أتاحت شبكات التواصل الاجتماعي وسائل جديدة أكثر سرعة وتفاعلية أمام أنشطة الخير والتطوع، وذلك بالاستفادة مما تتيحه من أساليب النشر والتواصل والتعقيب. إذ استفادت تلك الأنشطة من سرعة التواصل التي تتيحها مواقع التواصل الاجتماعي لاستنفار التبرعات وجهود التطوع، لاسيما عند الحالات الطارئة، وهو ما حدث على سبيل المثال خلال جائحة كورونا. فبالرغم من الدور السلبي أحياناً لوسائل التواصل الاجتماعي في إثارة الخوف ونشر المعلومات المُضللة في هذه الأزمة، فإنها على الجانب الآخر لعبت دوراً كبيراً في تشارك الموارد وجمع التبرعات وتكوين مجموعات الدعم، وتوفير قنوات فعالة للتواصل بين المتخصصين وجهات تقديم الخدمات والمصابين لاسيما الخاضعين للعزل المنزلي.
وفي السياق نفسه، تم استحداث أساليب مُبتكرة للتعبير عن التضامن، ومنها استخدام صورة أو شعار مُوحد في مكان الصورة الشخصية Profile photo، للتعبير عن موقف معين فيما يشبه "التظاهرة الإلكترونية". كما ظهرت عبارات شبابية لدعوة المستخدمين للتطوع مثل العبارة الشهير "شير في الخير" بمصر، و"#غرد_بالخير" في السعودية. واستخدمت الأنشطة التطوعية خطاباً جديداً عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يراعي الطابع الشخصي لها، مثل مخاطبة المستخدمين ودعوتهم لمشاركة ونشر بعض التحديثات، واستخدام لغة "الفرانكو" والمصطلحات العامية والمفردات الشبابية الدارجة، مع استخدام مسميات جذابة للفعاليات، على غرار تنظيم مؤسسة "حياتك وحياتنا" المصرية حملة على فيس بوك باسم "إجازة بطعم الخير"، وتصميم شعار جذاب لها وإرفاقه بالفعاليات التي تنظمها، ومنها رحلة للأيتام بعنوان "نعناع الجنينة"، وهي كلها لغة غير تقليدية ملائمة للقطاع الشاب الذي يتم التواصل معه، هذا بخلاف استخدام التصميمات البسيطة والملونة، والتي تدفع المستخدمين لمشاركتها على صفحاتهم الشخصية، وهو الأسلوب الذي باتت تستخدمه صفحات هيئات دولية مثل "يونيسيف".
دعم ضحايا الحروب واللجوء:
لم تكن حملة "لنجعل شتاءهم أدفأ" هي الأولى من نوعها في جمع التبرعات ومساندة اللاجئين، والتي طالما تبدأ قصصها بصورة أو تعليق على منصات التواصل الاجتماعي يتبعه تفاعل متواتر يسفر عن حركة دعم واسعة النطاق. إذ سبقها حملات مثل "اشتر الأقلام" @Buy_Pens التي انطلقت على "تويتر" لجمع تبرعات للاجئ سوري تم نشر صورته وهو يبيع الأقلام في نيويورك حاملاً طفلته على كتفيه. كما كشفت دراسة أعدتها الحكومة الكندية ونشرت نتائجها في أبريل 2017 أن أكثر من 40 ألف لاجئ سوري في كندا يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة أساسية يتبادلون من خلالها المعلومات ويقارنون بين الخدمات المُقدمة في المناطق المختلقة ويتعرفون على الفرص المتاحة.
وتظل النساء هن المتضرر الأكبر من اندلاع الصراعات المسلحة وما يتبعها من كوارث إنسانية وعمليات التهجير واللجوء التي تتخللها انتهاكات جسيمة، عادة ما يكون ضحاياها النساء وأطفالهن. وقد برز توظيف وسائل الإعلام الاجتماعي لتحفيز مشاركة المرأة كإغاثية تعمل على تقديم العون الإنساني في بعض المناطق، وكلاجئة ومُهجرة أيضاً تستخدم المنصات الاجتماعية للتواصل مع مجتمعها الجديد والبحث عن سُبل للعيش والنجاة.
وعلى الرغم من أن أنماط توظيف الإعلام الاجتماعي في التآزر بين مجتمعات اللاجئين والدعم الإنساني وجمع التبرعات وغيرها، فإن التحليل النوعي لهذه الأنماط يكشف عن دور خاص للنساء العربيات في هذا الشأن، حيث يشير الواقع إلى أن المرأة لم تكتف بدور المُهجرة واللاجئة وإنما كان للنساء دور فاعل في دعم أوضاع ضحايا مناطق النزاع المسلح واللاجئين، سواء كن خارج هذا النطاق أو ينتمين أنفسهن إلى جموع المهجرين واللاجئين. وقد تمحورت أنماط توظيف وسائل الإعلام الاجتماعي في تعزيز مشاركة النساء فيما يتعلق بمناطق الحرب واللجوء، في تفعيل دور الناشطات العاملات بمجال الإغاثة، وكذلك تعزيز فرص النساء اللاجئات وحفز إدماجهن في مجتمعاتهن المضيفة بما يعمل على تفعيل مشاركتهن ووعيهن بحقوقهن، لاسيما في ظل تضاعف مخاطر اللجوء بالنسبة للنساء بالنظر إلى جرائم الاستغلال الجنسي وزواج القاصرات وغيرها.
كما تم توظيف الإعلام الاجتماعي لخدمة مجتمعات اللاجئين أيضاً، وهو التوظيف الذي اتخذ أنماطاً ومسارات متنوعة مثل إنشاء الاتحادات النسائية الافتراضية للاجئات، وشن حملات الدفاع والتوعية، وكذلك ممارسة الأنشطة الاقتصادية التي تساعد اللاجئات على التفاعل مع مجتمعاتهن المضيفة وتحسين فرصهن في العيش الكريم، ومكافحة العنف والانتهاكات ضد اللاجئات، مع نشر الوعي القانوني والحقوقي بينهن لتوعيتهن بحقوقهن وسُبل طلب الدعم والإغاثة.
خبرات تطوير العطاء:
تتمتع وسائل التواصل الاجتماعي بمعدلات انتشار فائقة بين المُستخدمين في العالم بشكل عام، والدول العربية على وجه الخصوص، بما يمنح الأنشطة المجتمعية امتدادات واسعة وفرص غير مسبوقة للوصول، فضلاً عن إتاحة الفرصة أمام فاعلين من غير المؤسسات سواء في شكل المؤثرين الأفراد أو التجمعات الافتراضية التي كان مجالها حدود تلك المنصات وساعدت على تبادل المعلومات والخبرات بين أعضائها؛ باستخدام أشكال تعبير إبداعية لم تتوقف عند حدود التدوين النصي أو المصور وإنما امتدت لاستخدام الأغاني و"الكوميكس" والإنفوجرافيك" واللافتات وغيرها.
وترجع فاعلية النشاط الطوعي والإغاثة والتضامن الاجتماعي، في جانب كبير منها، إلى التواصل مع الجمهور العام وتفاعله معها واقتناعه بها، ليس فقط ليصب من أمواله فيها، وإنما لبناء شبكات من الثقة والتفاعل والتعاطف والتعاون الإنساني تثري رأس المال الاجتماعي الذي لا يقل أهمية عن أرصدة البنوك في دعم الأنشطة المجتمعية. وهذا يستلزم تطوير السياسات الإعلامية لمؤسسات التنمية والعمل الاجتماعي من أجل استثمار الفرص التي تتيحها منصات التواصل، مثل تصميم الحملات النوعية على شبكات الإعلام الاجتماعي، حيث تتيح الشبكات الاجتماعية إمكانيات الوصول لمستخدمين بصفات معينة، وهو ما يتيح التوجه للفئات المستهدفة بدقة، الأمر الذي يستتبعه مراعاة تلك الخصائص في صناعة المحتوى نفسه شكلاً ومضموناً، وكذلك استثمار إمكانات المحتوى التفاعلي وتعدد الوسائط؛ وذلك عبر صناعة محتوى مصمم خصيصاً لهذه المنصات ويستفيد من تقنيات الفيديو والرسوم الجرافيكية و"الكوميكس" والحوارات التفاعلية، والتعاون مع المدونين المؤثرين، والتشبيك بين المجتمعات الافتراضية المهتمة، وغيرها من الإمكانات بما يثري ويعزز فرص الانتشار والوصول.
ولعل ذلك يؤشر لأهمية اهتمام مؤسسات العطاء الاجتماعي بالتدريب على الاستخدام الفعّال لتلك الوسائل الجديدة، وعدم الاعتماد على الخبرة الذاتية في التعامل معها، وصياغة أسلوب يتلاءم مع مستخدميها، دون الاقتصار على نشر روابط الأخبار عليها والتعامل معها بمنطق المكاتب الإعلامية، مع إمكانية عقد ورش عمل لتوعية الجهات العاملة في العمل المجتمعي بأهمية تلك الشبكات وكيفية التواصل عبرها بشكل احترافي، فضلاً عن استحداث أدلة لأفضل الممارسات، وأساليب التعامل مع شبكات التواصل لأغراض العمل المجتمعي، على غرار الدليل الذي أصدرته منظمة "تبادل الإعلام الاجتماعي" في عام 2012 تحت عنوان "إنشاء صفحات فيس بوك ذات تأثير: دليل لمنظمات المجتمع المدني العربي"، وكذلك تعزيز التعاون العابر للدول في مجالات التضامن المجتمعي من أجل التنمية، وذلك عبر الاستفادة من إمكانات التشبيك وبناء المجتمعات الافتراضية التي تتيحها منصات الإعلام الاجتماعي.