شهدت بورصة هونج كونج يوم الاثنين 20 سبتمبر الماضي تراجعاً حاداً في أسعار أسهم مجموعة "إيفرجراند" الصينية. وبلغ سعر السهم مستويات تاريخية من الانخفاض لم يبلغه منذ 11 عاماً، على خلفية مخاوف التعثر الائتماني الذي حذّرت منه المجموعة نفسها، وما يستتبعه من مخاطر تهدد النظام المالي للصين برمته، لو لم تنجح المجموعة في توفير التمويل اللازم لخدمة التزاماتها البالغة نحو 305 مليارات دولار في صورة مستحقات للدائنين والمورّدين والمستثمرين.
نشاط واسع:
بدأت "إيفرجراند" أنشطتها في العام 1996 في مجال بيع المياه المعبأة، ثم أصبحت اليوم من أكبر شركات التطوير العقاري في العالم وتحتل المرتبة الثانية في السوق الصينية من حيث حجم المبيعات العقارية، وتحل في المرتبة 122 من بين أكبر 500 شركة في العالم. وتمتلك المجموعة شركات في مجالات متعددة منها صناعة السيارات الكهربائية، وإنشاء المتنزهات، والأغذية والمشروبات، ومنتجات أخرى في أرجاء الصين كافة. كذلك تمتلك "إيفرجراند" فريقاً شهيراً لكرة القدم، هو فريق نادي "غوانزو إيفرجراند" لكرة القدم الذي يديره لاعب ريال مدريد السابق فابيو كانافارو، والذي استحوذت عليه المجموعة عام 2010 بتكلفة بلغت 185 مليون دولار، حتى أصبح لديه ما يعتقد بأنه أكبر مدرسة لتعليم كرة القدم في العالم، ويخطط لبناء أكبر استاد لكرة القدم، من المقرر، افتتاحه في عام 2022 بتكلفة 1.7 مليار دولار ويسع نحو 100 ألف مقعد للمتفرجين.
المجموعة التي يقع مقرها الرئيس في مدينة "شينزن" جنوب الصين، والمقيدة أسهمها في بورصة هونج كونج، يعمل لديها نحو 124 ألف شخص كعمالة مباشرة، بينما تساهم في توفير فرص عمل لنحو 3.8 مليون شخص آخر كل عام. وقد ساهمت المجموعة في حفز النمو الصيني في أعقاب جائحة كوفيد-19، خاصة من خلال المبيعات العقارية لمنزل الأحلام للطبقة الوسطى في نحو 280 مدينة صينية، إذ تبني الشركة نحو 600 ألف منزل كل العام، فضلاً عن مشروعات كبرى غير سكنية تعمل الشركة على تطويرها، إذ بلغ عدد المشروعات العقارية للمجموعة نحو 1300 مشروعاً. وقد صاحب تلك الطفرة ارتفاع شبه مستقر في أسعار العقارات اقتطع لأنشطة التطوير العقاري والصناعات المرتبطة بها نحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي للصين.
بداية التعثر:
بدأت أزمة المجموعة في الظهور منذ بداية العام الماضي، عندما أصبحت بدائل الاقتراض (مثل القروض البنكية والسندات) للشركات العقارية أكثر صعوبة بعد تدخل حكومي لتقييد الحصول عليها. وتسبب ذلك التقييد في أن تواجه المجموعة وعدد من الشركات العقارية أزمة في سداد فوائد مديونيتها التي كانت تعتمد أساساً على مزيد من الاستدانة. وبلغت مديونية مجموعة "إيفرجراند" ما يعادل 305 مليارات دولار أمريكي. وتلك المديونية الضخمة، مستحقة في الأساس لصالح عدد كبير من المؤسسات؛ منها 171 مصرفاً محلياً، و121 شركة مالية أخرى.
بدورها، بدأت مستحقات المقاولين المتعاملين مع "إيفرجراند" في التراكم، وهنا ظهر إلى جانب الدائنين الممولين مجموعة أخرى من الدائنين في سلسلة الإمداد، وكانت لهم وقفات احتجاجية رمزية أمام مقر الشركة، سرعان ما سيطر عليها الأمن، ولكن بعد إطلاق العديد من الإشارات السلبية.
ومع تعثر موقف الشركة في الفترة الأخيرة، كررت الشركة التنويه للمتعاقدين على وحدات سكنية أن أي تأخير في تسليم الوحدات، سوف تتحمل الشركة غراماته التعاقدية كافة، وهو أمر جيد لبث الطمأنينة بين المشترين، سواء من يبحث منهم عن سكن أو عن استثمار عقاري مربح.
تفاقم الأزمة:
منذ أسابيع حذّرت المجموعة المستثمرين من أنها ربما تواجه صعوبات في تدبير السيولة لو أنها عجزت عن تدبير الأموال في وقت قريب. وهذا التحذير تمت بلورته في شهر سبتمبر عندما أفصحت المجموعة للبورصة عن مواجهتها صعوبات في العثور على مشترين لبعض أصولها المالية.
ومنذ نحو أسبوعين كان قد مضى موعد التزام على "إيفرجراند" لسداد ما يعادل 83 مليون دولار كخدمة دين للمستثمرين في سنداتها. لكن الشركة لم تبد أية إشارة للالتزام بالسداد. وعلى الرغم من كون فترة السماح لسداد ذلك الالتزام تمتد إلى ثلاثين يوماً، فإن سنداً آخر جاء موعد استحقاقه بعد أيام من سابقه.
ثم، في الرابع عشر من سبتمبر الماضي أعلنت مجموعة "إيفرجراند" أنها استعانت بمستشارين ماليين للمساعدة في تقييم الموقف المالي للشركات، والبحث عما وصف "بكافة الحلول المجدية" في أسرع وقت ممكن. لكن المجموعة حذّرت كذلك من كون أي من تلك الخطوات ليس مضمون النجاح.
وفي ضوء المعطيات السابقة، خسر سهم إفرجراند نحو 85% من قيمته خلال العام وحتى تاريخ تفجر الأزمة، ليتراجع من 1.8 دولار في 4 يناير الماضي إلى 0.3 دولار في 24 سبتمبر. وكانت كل من مؤسستي "فيتش" و"موديز" قد خفضتا من التصنيف الائتماني للمجموعة مطلع الشهر ذاته، الأمر الذي تزامن مع فشل محاولات المجموعة، حتى الآن، في إقناع المستثمرين بشراء جانب من استثماراتها في أنشطة المركبات الكهربائية والخدمات العقارية.
خلل في سوق الإقراض:
تجمع آراء المحللين على أن أزمة "إيفرجراند" تعكس مشكلة كبرى لدى الاقتصاد الصيني تتعلق بديون شركات القطاع الخاص، وبدوره يعتقد "ماتي بيكينك" " Mattie Bekink" مدير وحدة استخبارات الإيكونيميست في الصين، أن الفوضى المالية التي غرقت فيها المجموعة ترجع إلى تشتتها بعيداً عن مجالها الرئيس وهو التطوير العقاري. كما يعتقد أن أزمة إيفرجراند لا تعدو أن تكون ملمحاً واحداً من ملامح أزمة الدين في الاقتصاد الصيني كله. يوافقه الرأي بعض محللي بنك الاستثمار "جولدمان ساكس" الذين يرون في هيكل الشركة سبباً لعدم وضوح الرؤية بشأن التعافي من الأزمة.
كذلك يرى "بيكينك" أن الصين تحاول التخلّص من الديون الرديئة للشركات طوال سنوات، وعلى الرغم من نجاحها إلى حد ما في تنظيف تلك الديون قبل الجائحة، فإن تلك المهمة تبدو مستمرة إلى ما لا نهاية، في إشارة واضحة على أن الشركات مستمرة في طرح سندات والحصول على قروض بضمانات غير كافية لتغطية هذا الحجم المخيف من المديونية.
بينما، يقول "إيسوار براساد" أستاذ الاقتصاد بجامعة كورنيل والرئيس السابق لقطاع الصين في صندوق النقد الدولي، ما مفاده: "التعثّر المفاجئ لإيفرجراند في سداد مديونياتها المختلفة، ربما يرسل إشارة مهمة للسوق من أجل تحقيق قدر أكبر من الانضباط في الاقتراض، لكنه أيضاً ينعكس بالسلب على قرارات ومحفزات المستثمرين المحليين والأجانب".
استجابة الحكومة الصينية:
عندما اعتلى الرئيس الصينى "شي جين بينغ" سدة الحكم لولاية ثانية في عام 2017 فإنه عرّف المخاطر المالية كإحدى المعارك العظمى التي تخوضها إدارته. وبينما يقترب من بدء فترة رئاسته الثالثة العام القادم، فإن شبح أزمة إيفرجراند يطل برأسه على الاقتصاد الصيني.
والقرار السيادي في الصين سوف يكون حاسماً فيما يتعلق بالأزمة الحالية، فهو حريص على استبقاء مقومات النمو ومحفزاته الرئيسية، ولكنه سيتجه أيضاً إلى تنظيم سوق الديون، لكي لا تتكرر أزمة "إيفرجراند" وتنتشر في السوق كله وتصبح الحكومة هي الخاسر الأكبر.
وتبدو الحكومة الصينية مقتنعة بأنه ببعض من جهود إعادة الهيكلة، فإن إيفرجراند تملك من الأصول ما يكفي لتغطية معظم التزاماتها المالية. فلقد قامت الحكومة الصينية بتفكيك كل من شركتي Anbang و HNAوأجبرت Dalian Wanda على الانكماش، نتيجة لإفراط تلك الإمبراطوريات في الاستدانة.
واستجابة للأزمة الحالية، قام البنك المركزي الصيني (بنك الشعب) بضخ نحو 460 مليار يوان (ما يعادل 71 مليار دولار أمريكي) في البنوك الصينية. كما بدأ بعض المسؤولين الصينيين في التلميح بوجود أزمة لدى بعض الشركات العقارية من دون أن يسمّي إيفرجراند، كما فعل المتحدث الرسمي للمكتب الوطني للإحصاءات.
وتملك الحكومة الصينية أيضاً الكثير من الشركات المملوكة للدولة في مجال التطوير العقاري. ومن ثم فإنها تستطيع أن تدفع بتلك الشركات لتنهي أعمال التطوير والبناء التي توقفت في مشروعات إيفرجراند. وهذا التكليف الحكومي الذي يندر وجوده في دول رأسمالية واقتصادات حرة، يضمن للشركة المتعثرة استمرار خلق القيمة وتدفق الأموال أسفل الهرم، مما يساعد المجموعة على سداد التزاماتها، كما يخفف من حدة السخط بين عملاء الشركة وسلسة إمدادها التي تتكون من عدد كبير من شركات المقاولات والبناءين والمصممين. إذن يمكن للشركات العقارية المملوكة للدولة أن تساعد في إنهاء الـ800 مشروع غير المكتملين لإيفرجراند، ويحصل المقاولون على مستحقاتهم في العمل في تلك المشروعات.
لكن الحكومة لا تشعر بكثير من التعاطف مع المستثمرين الأجانب الذين يدركون مخاطر الاستثمار في أداوت دين تتسم بهذا القدر من عدم اليقين، خاصة مع تضخم محفظة الديون لشركة واحدة إلى ما يفوق مديونيات دول نامية مجتمعة! على الأقل هذا ما يتداوله بعض القريبين من أروقة النظام الحاكم.
ضمانات حزبية:
من المعلوم لدى الكثيرين أن الحزب الحاكم يسيطر بشكل كبير وفعّال على النشاط الاقتصادي كله؛ فالدولة تملك الإعلام الذي يمكن أن يصدّر صورة سلبية عن أزمة إيفرجراند وغيرها من أزمات؛ وتملك حصصاً حاكمة في المصارف التي يمكن أن تساعد في حل أزمة المديونية، وبيدها الانتظار على الشركات في سداد مديونيتها، كما تملك منح المزيد من التسهيلات الائتمانية للمتعثرين بغرض تجاوز الأزمة سريعاً. كذلك تطبق الدولة السيطرة على الشارع الذي لا يمكن أن ينتقل بالتظاهرات والاحتجاجات الرمزية التي انتظمت أمام مدخل الشركة منذ أيام، إلى تظاهرات واسعة تبعث القلق في نفوس الكافة. والدولة تتحكم أيضاً في تدفقات الأموال دخولاً إلى الصين وخروجاً منها.
ولذا، فإن مخاطر الهروب السريع من السوق في صورة موجات ارتدادية لحالة الهلع من أزمة إيفرجراند هي مخاطر محسوبة ومحدودة، ولا يمكن تشبيهها بحركة الأموال خارج الولايات المتحدة وأوروبا على خلفية أزمة الرهن العقاري في العام 2008. وقد اختُبِرت الصين في أزمة النمور الآسيوية في عامي 1997 و1998 وساعدتها تلك الضوابط على الوقاية ضد قنوات العدوى المالية بشكل كبير، كما جعلتها تبدو أكثر انعزالاً عن صدمات الاقتصاد العالمي.
كذلك، يتحكم الحزب الشيوعي الحاكم في النظام القضائي، مما يجعل من المستحيل صدور أي حكم بالإفلاس ضد إيفرجراند ومن على شاكلتها من الشركات في حالات التعثر الشديدة، إلا بعد موافقة قيادات الحزب، الأمر الذي يعزز من فرضية عدم الاندفاع بيعاً لأصول وعقارات والأوراق المالية للشركة، كما حدث مع شركات التمويل العقاري الأمريكية في أزمة 2008.
ولكن مصدر الأزمة الحقيقية يكمن في عناصر الأمان التي تفرضها تلك القبضة الصينية على كل مقاليد اللعبة المالية على أراضيها. وتلك القبضة منحت ضمانة استثنائية للشركات الصينية كي تتوسع في الاقتراض من المستثمرين الأجانب والمحليين دون أساس اقتصادي متين. وقد انتبهت الحكومة لذلك وبدأت كما (سبقت الإشارة) في تضييق الخناق على تلك الشركات، بهدف منعها من الإفراط في الاقتراض.
لكن الإشارات الحكومية التي تلقتها الشركات المقترضة باعتبار الحكومة هي الضامن الأكبر والأقوى لاستدامة المنظومة كلها، تلقفها أيضاً المستثمر بيقين كبير، في أن تلك الشركات لن تسقط بسهولة، ليس فقط لأنها "أكبر من أن تسقط" (كما تردد في أزمة ليمان براذرز وأخواتها) ولكن لأنها "أعظم من أن تسقط". فهي شركات محصّنة ضد السقوط، بقوة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والأكبر على الإطلاق من حيث معدلات نموه، ومن حيث سيطرة الدولة عليه.
لكن يرى الكثير من المحللين أن الأثر الاقتصادي لأزمة إيفرجراند لن يتسنى للسلطات الصينية احتواؤه بالتحرك المادي في الشارع، أو من خلال أية إجراءات قمعية؛ لأن المتضرر الأكبر من هذا النوع من الأزمات يكون ثقة المستثمرين التي لا يمكن استعادتها إلا بسياسات وقرارات اقتصادية مناسبة. فقدان الثقة التدريجي هو الخطر الأكبر الذي يتهدد الاقتصاد الصيني ومن ثم الاقتصاد العالمي اليوم.
وختاماً، يمكن القول إن النموذج الصيني في التنمية الاقتصادية لا يمكن أن يقوم على مبدأ الاقتراض من الخارج، كما فعل النموذج الياباني من قبل. فالصين تفتقد إلى مقومات التوازن الذاتي التي تعاقب المتعثرين على نحو يحد من مخاطر التعثّر المستقبلية، ويوقف سريعاً نزيف التعثّر. فقاعة الديون الصينية لن تنفجر إذن إلا إذا سقطت الصين كلها ضحية للديون الرديئة، التي باتت الدولة تضمنها، أو في القليل تتصدى لكشف تعثّرها على نحو بارز. الأمر الذي يجعل الأزمة تتفاقم إلى ما لا نهاية، طالما أن الدولة مازالت قادرة على ضخ الأموال في الأسواق. يبقى أن تحقق الدولة توازناً صعباً بين التصدي بقوة إلى إغراق الشركات في دوامة الديون، وبين البحث عن محفزات جديدة للنمو أقل تعرّضاً لمخاطر التعثّر.