وجهت الولايات المتحدة الأمريكية، بمشاركة بريطانيا وفرنسا، ضربة عسكرية محدودة على مواقع عسكرية سورية في 14 إبريل الجاري، على خلفية اتهام النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيماوية في الهجوم على دوما، وهو ما قلص نسبيًا من تداعيات الضربة على أداء الاقتصاد العالمي والإقليمي وأسواق المال والنفط العالمية، حيث يبدو أن الدول الثلاث تدرك جيدًا أن تنفيذ عمل عسكري واسع داخل سوريا ينذر ليس بخسائر عسكرية فقط وإنما أيضًا بأضرار على الاقتصاد العالمي تتمثل في نقص إمدادات النفط القادمة من الشرق الأوسط بجانب التأثير المحتمل على إمدادات الغاز الطبيعي من روسيا للقارة الأوروبية.
ضربة محدودة
قبل توجيه الضربة العسكرية الغربية، وجه عدد من المسئولين الروس تحذيرات من إمكانية التدخل العسكري المباشر للتعامل معها، في الوقت الذي أشارت فيه وزارة الخارجية الروسية، في 8 إبريل الجاري، إلى أن القوى الغربية اعتمدت على معلومات لم تثبت مصداقيتها حول استخدام النظام السوري للكلور والغازات السامة الأخرى في الغوطة الشرقية.
ولم يختلف الموقف الروسي بعد توجيه الضربة، إذ أشار هؤلاء المسئولين إلى إمكانية الرد على الخطوة الغربية، حيث قال السفير الروسي لدى واشنطن أناتولي أنطونوف أن "مثل هذه الأفعال لن تمر دون عواقب"، معتبرًا أن "هذه الضربة تعد إهانة غير مقبولة ومرفوضة للرئيس الروسي فيلاديمير بوتين"، وذلك بالتزامن مع تنديد إيران بهذه الضربة، مشيرة إلى أنها "تعقِّد الوضع في سوريا والمنطقة".
ورغم ترويج حلفاء النظام السوري إلى احتمال حدوث تصعيد مضاد، يبدو أن الضربة العسكرية في حد ذاتها لن تغير كثيرًا من اتجاهات الصراع على الساحة السورية، حيث لم تكن الأهداف العسكرية التي تعرضت للضربة مؤثرة في توازنات القوى، بل من المحتمل أن تدفع هذه الضربة حلفاء النظام إلى العمل على تعزيز قدراته لمواجهة أية ضربات عسكرية مقبلة، وهو ما لم تستبعده موسكو، التي ألمحت إلى إمكانية مد النظام السوري بأنظمة صواريخ "إس 300".
تفادي الخسائر
تشير اتجاهات عديدة إلى أن الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، اعتبرت أن توجيه ضربة عسكرية واسعة النطاق في سوريا قد يورطها في مواجهة مباشرة مع روسيا وإيران في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما قد تترتب عليه تداعيات عديدة لا تتوافق مع مصالح واشنطن، خاصة فيما يتعلق بالأضرار الاقتصادية التي قد تتعرض لها اقتصادات منطقة الشرق الأوسط أو الاقتصاد العالمي.
فبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، تجدر الإشارة إلى أن الصراعات التي شهدتها أدت إلى هبوط الأداء الاقتصادي في السنوات الماضية، ومن المتوقع أن يظل على مستوياته المتواضعة في الفترة المقبلة. وبحسب البنك الدولي، يتوقع أن يتعافى معدل النمو في المنطقة ليبلغ 3.1% في عام 2018 بعد هبوط حاد إلى 2% في عام 2017، ولكن دون مستوى 4.3% الذي وصل إليه في عام 2016.
ويعني ذلك أن تنفيذ عمل عسكري واسع في الوقت الراهن قد يؤثر على العديد من اقتصادات المنطقة، لا سيما تلك التي تعتمد على بعض القطاعات الخدمية مثل السياحة والطيران. وقبل توجيه الضربة العسكرية بثلاثة أيام، دعت المنظمة الأوروبية للسلامة الجوية (يوروكونترول) شركات الطيران إلى توخي الحذر في شرق المتوسط لاحتمال شن غارات جوية في سوريا خلال 72 ساعة.
كما أبدت الأوساط الاقتصادية مخاوف من احتمال تضرر بعض القطاعات الرئيسية في دول الجوار، على غرار لبنان، نتيجة توسع العملية العسكرية، خاصة في حالة ما إذا استمرت لأيام عديدة، حيث تمثل السياحة قطاعًا مهمًا للاقتصاد اللبناني.
وعلى الصعيد الدولي، جاءت الضربة العسكرية وسط أداء متراجع للعديد من الاقتصادات العالمية بسبب المخاطر الجيوسياسية وتراجع أسعار السلع الأولية وهبوط الطلب العالمي، فضلاً عن الخلافات التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وبعض الدول الأخرى، على نحو دفع صندوق النقد الدولي إلى إبداء تحفظ في توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي ليبلغ 3.9% في عامى 2018 و 2019 مقابل 3.8% في عام 2017.
وقد توافقت محدودية التأثير الفعلي للضربة العسكرية مع حقيقة أن الأسواق الدولية لسلع النفط والمعادن الأساسية والعملات تستجيب بشكل مؤقت للاتجاهات والأحداث الجيوسياسية. وفي هذا السياق، بدأت أسعار النفط العالمية في الارتفاع تدريجيًا لتكسر حاجز الـ70 دولار للبرميل، بالتزامن مع إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عزمها توجيه ضربة للنظام السوري، وليرتفع سعر برميل خام برنت في جلسة 13 إبريل إلى 72.06 دولار بزيادة بمقدار دولار واحد.
لكن بعض الاتجاهات تستبعد أن يستمر تأثير التوتر الراهن في سوريا على أسعار النفط، إذ على الأرجح سوف تعود أسعار النفط إلى مستوياتها السابقة التي تتراوح بين 60 إلى 70 دولار للبرميل، متأثرة بعوامل أخرى مثل الطلب العالمي على النفط والمعروض النفطي خاصة القادم من الولايات المتحدة الأمريكية.
إلى جانب ذلك، ألقت الضربة العسكرية الضوء على احتمال أن يؤدي انخراط أطراف عديدة في مواجهات عسكرية جديدة إلى تهديد إمدادات النفط بالمنطقة من منطلق احتمال تأثيرها على حركة الملاحة البحرية. كما أثارت مشاركة لندن وباريس في الضربة مخاوف بشأن تأثير ذلك على مستقبل إمدادات الغاز الروسي لأوروبا والمشاريع الواعدة لخطوط الأنابيب الممتدة من روسيا إلى العديد من الدول الأوروبية، على نحو قد يهدد أمن الطاقة في أوروبا، لا سيما أن الغاز الروسي يمثل 33% من إجمالي احتياجات أوروبا، حيث تصل الإمدادات الروسية إلى حوالي 162 مليار متر مكعب، وهو ما يعد، في الغالب، أحد الأسباب التي دفعت ألمانيا التي ترتبط بمشاريع غاز مع روسيا، إلى العزوف عن المشاركة في الضربة.
وفي النهاية، يمكن القول إن الاعتبارات الاقتصادية، بجانب العوامل الجيوسياسية، دفعت الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يبدو، إلى تجنب توجيه ضربة عسكرية واسعة النطاق داخل سوريا، وهو المسار الذي كان من الممكن أن يفرض خسائر اقتصادية كبيرة لجميع الأطراف، وسط أزمات اقتصادية عديدة يشهدها العالم في الفترة الحالية.