(داعش تمنع .. داعش تفرض .. داعش تجرِّم)، كلها تعبيرات تتداولها وسائل الإعلام –أحياناً دون تدقيق– لرصد ما يطرأ من تغير على حياة البشر في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" المعروف اختصاراً بـ "داعش".
وبالرغم من جسامة التحولات السياسية، وتالياً العسكرية الآنية والاستراتيجية المستقبلية، التي ستنجم عن استمرار التنظيم في السيطرة على المناطق التي استولى عليها (وهو مجرد فرض)، فإن "النتائج الاجتماعية" التي يمكن أن تترتب على هذا الاستمرار المفترض في السيطرة على البشر الذين يعيشون على هذه الأرض تظل الأخطر، ومن الحقائق المؤلمة في القرن العشرين أن الكم الأكبر من الدماء تم سفكه بسبب الصراع على الطريقة التي "ينبغي" تنظيم المجتمعات وإدارتها وفقاً لها!
محاولة لتجريد نموذج
وسواء أدرك قادة هذا التنظيم أو لم يدركوا، فإنهم يقومون بعملية "هندسة اجتماعية" وفقاً لشروط مسبقة، بالضبط كما فعلت كل التجارب الشمولية (البائسة) التي حدثت على يد ستالين وهتلر وماو تسي تونج وعصابات الخمير الحمر في كمبوديا، وغيرها. وتبقى الديباجات الإسلامية قشرة تخفي تحتها رؤية للذات والآخر والصواب والحق والمجتمع والفرد والحرية والنظام والدين والأخلاق، تستمد من ثقافة مادية مفرطة في غريزيتها وواحديتها، وهي بالتالي مرشحة لأن تكون مفرطة في العنف إلى حد الجنون.
إن قوائم التجريم الداعشية ليست ثمرة الانحياز إلى خيارات فقهية متشددة بقدر ما هي انعكاس لرؤية اجتماعية "مضمرة" تشربها جيل من المتدينين بشكل غير مؤطر، ولكنهم يعيدون إنتاجها بشكل أكثر وضوحاً، ورحم الله العلامة الدكتور عبدالوهاب المسيري الذي كان له فضل التنبيه إلى أن كل اختيار واعٍ وراءه "نموذج كلي"، سواء أدرك صاحبه ذلك وأعلنه أو لا.
واستكشاف النموذج الكلي الكامن وراء رؤية داعش أهم من زاوية التحليل الاجتماعي بكثير من الحفر وراء جذورها وشبكة تحالفاتها، وقائمة أهدافها، التي هي بالفعل غامضة إلى حدٍ كبير. ويظل هذا النموذج أكثر وضوحاً، فالتنظيم يتبنى رؤية ترتكز على أسس أهمها:ـ
1 – أن الصواب لا يتعدد فهو واحد مثل الحق، وهذه المطابقة بين "الصواب" و"الحق" تجعل وجود وجهات نظر أو أنماط سلوك مغايرة لما يريدونه "جريمة".
2 – إن الأخلاق تقوم على "المنع" لا على "الامتناع"، بالتضاد مع كل ما جاءت به الأديان السماوية من قواعد أخلاقية مؤسـِّسة.
3 – إن العلاقة "آلية"، وهي بالتالي بسيطة ومادية، بين التقوى والنهضة، وبالتالي فإن الخيط الفاصل بين عالمي "الغيب" والشهادة يكاد يكون مطموساً.
4 – إن الإسلام تتحقق غايته من إعادة إنتاج "نمط حياة" سابق بتفاصيله كافة، والصواب أن ذلك يتحقق بإعادة الاعتبار إلى "معايير" هي أوسع دلالة بكثير من الأحكام الشرعية.
5 – إن العدو الرئيس هو في الخارج، غير المسلمين، العلمانيين، الغرب، الحكومات غير الإسلامية، وهؤلاء جميعاً قد يكونون خصوماً بدرجة أو بأخرى، (وبعضهم قد لا يكون). لكن العدو الحقيقي هو الشيطان، بالمعنى الحرفي للكلمة، فالأمة الإسلامية دفعت ثمناً للتردي "الإنساني" الشامل في العالم الإسلامي أكبر بكثير من الثمن الذي دفعته نتيجة الاحتلال العسكري الغربي، أو التغريب، وهذا التردي مهد الأرض للعدو الأكبر وهو الاستبداد!
6 – إن الحياة كلها "ميدان حرب"، وبالتالي يجوز الاحتكام إلى قاعدة "الحرب خدعة"، وهو حديث صحيح للرسول صلى الله عليه وسلم يتم اقتطاعه من سياقه لتبرير الغدر والاستباحة إزاء كل الأطراف. والحديث أقرب ما يكون إلى القاعدة العسكرية التكتيكية التي يتم الاحتكام إليها في "ميدان الحرب" لا في حالة الخصومة. والقرآن الكريم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغدر، وأمره إذا شن حرباً على قوم أن ينبذ إليهم "على سواء".
7 – إن غياب الوحدة بين شعوب الأمة المسلمة يجيز لجماعة أن تنتدب نفسها (دون مبرر معتبر شرعاً أو عقلاً) لإعادة الأمة إلى حالة الوحدة بالقوة. وفكرة أن تنتدب جماعة من الأمة نفسها للحرب نيابة عن الأمة دونما تفويض (بيعة) واضحة، هو في حد ذاته إنكار لفكرة "الأمة"، فالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أقام تفرقة واضحة بين إيمان الأنصار به كـ "نبي" معصوم فأخذ منهم بيعتي العقبة الأولى والثانية، ومع وجود البيعة والعصمة والتأييد من السماء، ومع ثبوت إيمان الأنصار بالوحي وبالشواهد العملية المحسوسة، وبعد نزول الإذن من السماء للمسلمين بالقتال: "أُذِنَ للذين يقاتلون بأنهم ظُلِموا"، مع كل هذه الحقائق، استشار النبي الأنصار في الحرب قبل غزوة بدر.
تمزيق المجتمع لا النظام السياسي
ومما يلفت النظر أن التنظيم مهتم حد الهوس بالسيطرة على الأرض وأنه يعطي أهمية لفرض "نمط حياة" على كل البشر في هذه الأرض، وهو منطق نظر يؤدي –بالضرورة– إلى وجود "مكونات اجتماعية" غير مرغوب فيها، يتم تجريدها (صراحة أو ضمناً) من إنسانيتها وإنكار وجودها، وبالتالي حقوقها (وبعضها ضمنها الشرع نفسه)، وعندئذٍ يترسخ ميل عميق إلى التخلص منهم، لكونهم غير مستوفين لشروط النموذج المعد مسبقاً!
وهنا يبدأ القمع، وفي حالات كثيرة المذابح! وما يحدث في الحقيقة ليس انتصاراً لما يمكن أن يسمى "المجتمع الإسلامي" بل هو إعادة إنتاج لنمط "ما قبل المدينة" بالمعنيين الديني والاجتماعي. فالمحصلة التي سوف تترتب على استمرار احتفاظ هذا التنظيم لفترة على مساحة كبيرة من الأرض، وبالتالي على عدد كبير نسبياً من السكان، سيؤدي إلى ترسيخ أنماط العلاقات الريفية والبدوية في هذه الأرض.
ولعل من أسباب ما يبدو أنه "تأييد صامت" أو تعايش هادئ مع سيطرة داعش على هذه المساحة في العراق وسوريا، أن "الاستبداد القومي البعثي" عمل بشكل منظم لإعادة "تربية" المجتمعين السوري والعراقي لعقود –بمنتهى القسوة– على قيم الريفية والبداوة. وفي الحالة العراقية، فإن زوال نظام صدام حسين أعقبته سنوات من "التطييف" رسمت خطوطاً من نار بين الشيعة والسنة، والعرب والأكراد، وصولاً إلى المكونات الأصغر حجماً.
وبالتالي فإن ظهور داعش وتمددها، خاصة في المثلث السني، صادف حنيناً قد لا نتفق مع أصحابه، إلى كل ما شأنه أن يعيد إليهم عالماً مزقته تجربة فاشلة لاستنساخ الدول القومية، حيث تحولت إلى دولة بوليسية لا أكثر، وصراع سياسي/طائفي كانت تأثيراته على رؤية المجتمع العراقي لنفسه، مما لم يحظ باهتمام أحد بسبب ضجيج السياسة والإرهاب.
تدمير مستودع القيم
وما سوف ينجم عن محاولة داعش فرض "نمط الحياة" الذي يمكن استنتاج ملامحه من قوائم المحرمات التي تتداول في الإعلام، تدمير الطبقة الوسطى التي هي دائماً "مستودع القيم"، فهي دائماً تقف بين الفئات الأدنى التي لا تعير اهتماماً لـ "المجال العام" والفئات الأعلى التي تراه –غالباً– ساحة صراع مصالح ونزاعات منافع. وسيجد التنظيم نفسه وسط بحر من البشر (يزداد بالتدريج) من المذعنين القادرين على التكيف والباحثين عما يقيم أود أجسادهم، وهؤلاء غالباً، يرون "الدولة القامعة"، ويكرهون ما يتصل بالتغيير والمنافسة والتعدد في الفكر والسلوك، وكثير منهم لا يفرق، ولا يريد أن يفرق، بين الدولة والسلطة.
ولعل من المهم هنا أن نشير إلى أن تأمل البعد الاجتماعي لحركة الأمم ليس متعارضاً أبداً مع الاحتكام إلى المعايير الدينية، بل إن رب العزة سبحانه وتعالى امتن على المؤمنين بأن يهديهم إلى الغيب وإلى سنن السابقين في سياق واحد، قال تعالى: "يريدالله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم". ومع غياب المصدر الكتابي للثقافة (الكتاب) كما هي حال العالم العربي، فإن شرائح واسعة من البشر تميل لأن تتكيف مع ما تسمع (الثقافة الشفاهية) وما ترى (ثقافة الصورة)، وعندئذٍ تظهر – بعد فترة – شعوب صنعها نمط الحياة، أي أن سنوات من السيطرة والإكراه المادي والمعنوي يمكن أن تؤدي إلى ظهور "مجتمعات داعشية"، تتسق مع نمط الحياة المفروض. وقد حدث هذا في تجارب شمولية سابقة كالتجربتين النازية والشيوعية، حيث ما زالت شرائح من هذه المجتمعات تشعر بحنين مؤلم إلى الحقبتين.
ونمط الحياة المشار إليه في الحقيقة، يتمدد بهدوء "في فراغ"، فقد تركت سنوات القمع الطويلة في الهلال الخصيب مجتمعات تثير الشفقة بهشاشة بنيتها الثقافية وفقرها المدقع في ثقافة الحياة، حيث تستمد الحياة ماءها من نبعين لا ثالث لهما: تقاليد يعاد إنتاجها دون مناقشة، ودون تفكير أصلاً في معايير مثل: "المعقولية" أو "القناعة"، ورغبة قوية في الانسياق (للسلطة والمجتمع معاً) طلباً للسلامة. وتبقى البقية الباقية من النخبة المثقفة ما بين غربة الخارج (المنفى) وغربة الداخل، وهي أقسى وأمر. وفي اليابان تحت الحكم الفاشي كان المثقفون في حالة تهميش وعجز وكانت تطلق عليهم أوصاف مثل "المستذلين" و"الضعفاء"، والآفة الأخطر في رؤية داعش ومن سار على دربها أنها لا ترى سوى "الحكم الشرعي" والسلطة التي يجب أن تفرضها، ولا تدرك أن الفاعل الإنساني ضلع ثالث في المعادلة، وأن وجوده واستمراره مرهون بفضاء عرفه الفقهاء منذ أن كان هناك مسلمون، ففي مساحة "المسكوت عنه" شرعاً مما لا يشمله أمر أو نهي أو حكم بالكراهة، يتحرك الفاعل الإنساني ويبدع، لكن فكرة أن الصواب واحد لا يتعدد تمثل مشتركاً عاماً بين كل الرؤى الشمولية (أي الاستبدادية) الدينية والعلمانية.
في رثاء المدينة
"المدينة"، تاريخياً، تقترن من ناحية بالطبقة الوسطى ومن ناحية أخرى بالثقافة التعاقدية، ومن حصيلة حركة الطبقة الوسطى تحت مظلة الثقافة التعاقدية ينمو مجتمع معني بـ "الشأن العام"، ومن ثم "المشترك العام": السياسي والثقافي والاجتماعي والأخلاقي. ومحصلة كل هذا أن "داعش ستايل" لن يستقر إلا بتجريف ما بقي من معالم "المدينة". وعندئذٍ ستتحول حواضر كانت قبل أكثر من ألف عام حواضر مزدهرة، إلى صحراء قاحلة من البداوة والريفية تمرح فيها عربات الدفع الرباعي وقوافل المسلحين، حيث لا أفق لوحدة أمة ولا لتحقيق مشروع أياً كان نوعه!
وحقيقة ما سينجزه "داعش ستايل" أن يكتب نهاية المدينة في الاجتماع الإنساني في أي منطقة يدوم استيلاؤه عليها لفترة تكفي لإحداث تغيير في سلوك المجتمع، ومن ثم رؤيته لنفسه. والرسول صلى الله عليه وسلم نهى الصحابة عن العودة إلى حياة البداوة وأسس المدينة على وثيقة تعاقدية غير مسبوقة بالفعل، وفي عصر عزتهم أسس المسلمون مدناً وحواضر يصعب حصرها، لكن المسار الذي يبدو أن البعض يراه سبيل النجاة، سيعود ببعض المسلمين إلى ما قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى "المدينة" المنورة.